Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 3, Ayat: 42-47)

Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله : { وَإِذْ قَالَتِ ٱلْمَلاَئِكَةُ يٰمَرْيَمُ } : قال أهل التفسير : هو جبريل - عليه السلام - لكن ذلك لا يعلم إلا بالخبر ، فإن صحّ الخبر - فهو كذلك ، وإلا لم يقل من كان مِنَ الملائكة قال ذلك . وقوله : { إِنَّ ٱللَّهَ ٱصْطَفَـٰكِ } : أن صفاها لعبادة نفسه ، وخصّها له ، ما لم يكن ذلك لأحد من النساء ؛ فيكون ذاك صفوتها . وقيل : اصطفاها بولادة عيسى - عليه السلام - إذ أخرج منها نبيّاً مباركاً تقيّاً ، على خلاف ولادة البشر . وقوله : { وَطَهَّرَكِ } : قيل : من الآثام والفواحش . وقيل : وطهرك من مسّ الذكور ، وما قذفت به . { وَٱصْطَفَـٰكِ عَلَىٰ نِسَآءِ ٱلْعَـٰلَمِينَ } : هو ما ذكرنا من صفوتها ؛ إذ جعلها لعبادة نفسه خالصاً ، أو ما قد ولدت من ولد من غير أب ، على خلاف سائر البشر . وعن ابن عباس - رضي الله عنه - قال : " خَطَّ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم أَرْبَعَةَ خُطُوطٍ ، ثُمَّ قَالَ : هَلْ تَدْرُونَ مَا هَذِهِ ؟ قَالُوا : الله وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ ، قَالَ : " أَفْضَلُ نِسَاءِ أَهْلِ الجَنَّةِ : خَدِيجَةُ ، وَفَاطِمَةُ ، وَمَرْيَمُ ، وآسيَةُ امْرَأةُ فِرْعَونَ " وكذلك روى أنس - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " خَيْرُ نِسَاءِ العَالَمِينَ أَرْبَعٌ " مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ ، وآسِيَةُ بِنْتُ مُزَاحِمٍ ، وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ ، وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم " . وقوله : { يٰمَرْيَمُ ٱقْنُتِي لِرَبِّكِ } : يحتمل وجهين : الأمر بالقنوت : القيام ، ثم الأمر بالسجود ، أي : الصّلاة ، ثم الأمر بالركوع مع الراكعين ؛ وهو الصلاة بجماعة ؛ ففيه الأمر بالصلاة بالجماعة ، هل ما هو علينا ؛ لأنه قال : { وَٱرْكَعِي مَعَ ٱلرَّاكِعِينَ } ؛ وعلى ذلك روي في الخبر : " أنه سئل عن أفضل الصّلاة ؟ فقال : " طُولُ القُنُوتُ " . ويحتمل أنه الأمر بالركوع ، ثم بالسجود ؛ فيدل أن السجود - وإن كان مقدماً ذكره على الركوع - فإنه ليس في تقديم ذكر شيء على شيء ، ولا تأخير شيء عن شيء في الذكر دلالة وجوب الحكم كذلك . وقيل : القنوت : هو الخضوع والطاعة ؛ كقوله : { وَقُومُواْ للَّهِ قَٰنِتِينَ } [ البقرة : 238 ] أي : خاضعين مطيعين . فإن قيل : كيف أُمِرَتْ بالركوع مع الراكعين ؟ ! قيل : كانوا - والله أعلم - ذوي قرابة منها ورحم ؛ ألا ترى أنهم كيف اختصموا في ضمّها وإمساكها ، حتى أراد كل واحد منهم ضمها إلى نفسه ، وأنه الأحق بذلك ؟ ! دلَّ أن بينهم وبينها رحماً وقرابة . وقيل في قوله : { ٱقْنُتِي } : أي : أطيلي الركوع في الصَّلاة والله أعلم . قال الشيخ - رحمه الله - : يحتمل : { مَعَ ٱلرَّاكِعِينَ } : أي : ممن يركع ويخضع له بالعبادة ، لا على الاجتماع - والله أعلم - كيف كان الأمر في ذلك ؟ . وقوله : { ذٰلِكَ مِنْ أَنَبَآءِ ٱلْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ } : أي : من أخبار الغيب لم تشهده أنت يا محمّد ولم تحضر ، بل نحن أخبرناك وذكرناك عن ذلك . ثم في ذلك وجوه الدلالة : أحدها : أراد أن يخبره عن صفوة هؤلاء وصنيعهم ؛ ليكون على علم من ذلك . والثاني : دلالة إثبات رسالته ؛ لأنَّه أخبر على ما كان من غير أن اختلف إلى أحد ، أو أعلمه أحد من البشر على علم منهم ذلك ؛ دل أنه إنما علم ذلك بالله عزّ وجل . والثالث : أن يتأمل وجه الصفوة لهم ؛ أنهم بما نالوه ؛ فيجتهدوا في ذلك ، والله أعلم . وفي ذلك تأخير البيان عن وقت الحاجة إلى أن ظهر ذلك بإلقاء الأقلام . وقوله : { وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ } الآية . قيل : إنهم ألقوا أقلامهم على جرية الماء ، فذهبت الأقلام كلها مع الجرية ؛ إلا قلم زكريا ؛ فإنه وقف على وجه الماء . وقيل : طرحوا أقلامهم في الماء ، وكان من شرطهم أن من صعد قلمه عالياً مع الجرية ، فهو أحق بها ، ومن سفل قلمه مع الجرية فهو المقروع ، فصعد قلم زكريا ، وتسفلت أقلامهم ؛ فعند ذلك ضمّها زكريا إلى نفسه . ثم من الناس من احتج بجواز القرعة والعمل بها - بهذه الآية ؛ حيث ضمّها زكريا - مريم - إلى نفسه ، لما خرجت القرعة له ؛ لكن القرعة في الأنبياء لتبيين الأحق من غيره ؛ لوجهين : لحق الوحي . والثاني : لظهور إعلام في نفس القرعة ؛ ما يعلم أنه كان بالله ذلك لا بنفسه ؛ كارتفاع القلم على الماء ، ومثل ذلك لا يكون للقلم ، والمحق من المبطل ، وفيما بين سائر الخلق ؛ لدفعهم التهم ؛ فهي لا تدفع أبداً . ويحتمل استعمال القرعة فيها لتطييب الأنفس بذلك ، أو علموا ذلك بالوحي ، فليس اليوم وحي ؛ لذلك بطل الاستدلال لجواز العمل بالقرعة اليوم ، والله أعلم . أو كان ذلك آية ، والآية لا يقاس عليها غيرها ؛ نحو : قبول قول قتيل بني إسرائيل - آية ، ليس به معتبر في جواز قول قتيل آخر قبل الموت . وقوله : { إِذْ قَالَتِ ٱلْمَلاۤئِكَةُ يٰمَرْيَمُ إِنَّ ٱللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ ٱسْمُهُ ٱلْمَسِيحُ } : يحتمل : { بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ } : أن قال : " كن " - فكان من غير أب ولا سبب ، وسائر البشر لم يكونوا إلا بالآباء والأسباب : من النطفة ، ثم من العقلة ، ثم من مضغة مخلقة على ما وصف - عز وجل - في كتابه ، وكان أمر عيسى - عليه السلام - على خلاف ذلك . ويحتمل : { بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ } : ما ذكر أنه كلم الناس في المهد : { إِنِّي عَبْدُ ٱللَّهِ آتَانِيَ ٱلْكِتَابَ } الآية [ مريم : 30 ] . وذلك مما خص به عيسى ، وهو بكلمة من الله قال ذلك . فإن قيل : ما معنى قوله : { وَيُكَلِّمُ ٱلنَّاسَ فِي ٱلْمَهْدِ وَكَهْلاً } ؛ والكهل : مما يكلم الناس ؟ قيل : لأن كلامه في المهد آية ، والآية لا تدوم ؛ كقوله : { يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ } الآية [ النور : 24 ] ، وإنما يكون ذلك مرة لا أنها تشهد وتنطق أبداً ، فأخبر أن تكليمه الناس في المهد - وإن كانت آية - فإنه ليس بالذي لا يدوم ، ولا يكون إلا مرّة . والثاني : أمن من الله لمريم ، وبشارة لها عن وفاته إلى وقت كهولته ، والله أعلم . وقوله : { ٱسْمُهُ ٱلْمَسِيحُ } . قال ابن عباس - رضي الله عنه - : " المسيح : المبارك " ، أي : مسح بالبركة . وقيل : سمي مسيحاً ؛ لأنه كان يسمح عين الأعمى والأعور فيبصر . وقيل : المسيح : العظيم ؛ لكنّه - والله أعلم - بلسانهم ؛ فيسأل : ما المسيح بلسانهم . وقوله : { وَجِيهاً فِي ٱلدُّنْيَا } : بالمنزلة ، ومكيناً في الآخرة ، { وَمِنَ ٱلْمُقَرَّبِينَ } في الدرجة والرفعة ، ومن كان وجيهاً في الدينا والآخرة مقرب فيهما . وقوله : { قَالَتْ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ } : عرفت مريم أن الولد يكون بمسّ البشر ، وعلمت - أيضاً - أنها لا تتزوج ، ولا يمسّها بشر أبداً ؛ لأنها قالت : { قَالَتْ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ } فإن لم يكن مسها أحد قبل ذلك ، فلعله يمسّها في حادث الوقت ؛ فيكون لها منه الولد ، فلما لم يقل لها يمسسك ؛ ولكن قال : { قَالَ كَذَلِكَ ٱللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ } دل ذلك أنها علمت أنها لا تتزوج أبداً ؛ لأنها كانت محررة لله ، مخلصة له في العبادة ، والله أعلم . ويحتمل قوله : { أَنَّىٰ يَكُونُ لِي وَلَدٌ } . أي : من أي وجه يكون لي ولد بالهبة ؛ لأنها بشرت أن يهب لها ولداً ، فقالت : من أي وجه يكون لي ولد بالهبة ، { وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ } ؟ ثم قال : { كَذَلِكَ ٱللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ } تأويله : ما ذكر في سورة مريم حيث قالت : { أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ } الآية [ مريم : 20 ] الآية ، ثم قال : { كَذٰلِكَ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ } [ مريم : 21 ] أي : خلق الخلق عليَّ هين : بأبٍ ، وبغير أب ، وبمسِّ بشر ، وبغير مسّ ، [ وبسبب ، وبغير سبب ؛ على ما خلق آدم بغير أب ولا أم ؛ فعلى ذلك يخلق بتوالد بعض من بعض ، وبغير توالد بعض من بعض ] ؛ كخلق الليل والنهار ، يخلق بلا توالد أحدهما من الآخر ؛ فكذلك يخلق لك ولداً من غير أب ولا مسّ بشر ، وبالله الحول والقوة . وقوله : { إِذَا قَضَىٰ أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } : أي : إذا قضى أمراً بتكوين أحد ، أو بتكوين - فإنما يقول له : كن ، لا يثقل عليه ، ولا يصعب خلق الخلق وتكوينهم ؛ كقوله : { مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ } [ لقمان : 28 ] أي : خلق الخلق كلهم ابتداء ، وبعثهم بعد الموت - كخلق نفس واحدة ؛ أن يقول : { كُنْ فَيَكُونُ } ؛ وإنما يثقل ذلك على الخلق ويصعب ؛ لموانع تمنعهم وأشغال تشغلهم ، فأمّا الله - سبحانه وتعالى - عن أن يشغله شغل ، أو يمنعه مانع ، أو يحجب عليه حجاب . وقوله : { فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } : ذكر - والله أعلم - هذا الحرف ؛ لأنه ليس في كلام العرب حرف أو جزء منه يعبر فيفهم معناه ، لا أن كان منه - عز وجل - كاف أو نون ، أو حرف ، أو هجاء ، أو صفة يفهم ويعرف حقيقته ، أو يوصف هو بمعنى من معاني [ كلام ] الخلق أو صفاتهم ، أو يكون لتكوينه وقت أو مدة أو حال ، أو يكون تكوين بعد تكوين ، على ما يكون من الخلق ، إنما هو أوجز حرف يفهم معناه ، بالعبارة إخبار منه - عز جل - الخلق عن سرعة نفاذ أمره ومشيئته .