Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 3, Ayat: 72-74)

Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله : { وَقَالَتْ طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ آمِنُواْ بِٱلَّذِيۤ أُنْزِلَ عَلَى ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ ٱلنَّهَارِ وَٱكْفُرُوۤاْ آخِرَهُ } قيل : فيه بوجوه ، قيل : قوله : { آمِنُواْ بِٱلَّذِيۤ أُنْزِلَ عَلَى ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ ٱلنَّهَارِ وَٱكْفُرُوۤاْ آخِرَهُ } ، يعني : بأول أمر محمد صلى الله عليه وسلم لا النهارَ نفسه ، وذلك ما روي في القصّة أن بعضهم كان يقول لبعض : إن محمداً كان على قبلتنا وقبلته بيت المقدس ، ويصلي إليها ، فآمنوا أنتم به ، { وَٱكْفُرُوۤاْ آخِرَهُ } ، يعني : آخر أمره ، يعنون قبلة : البيت الحرام الكعبة ، أي : اكفروا بقبلته التي يصلي إليها الآن ، وهي الكعبة . وقيل : إن بعضهم يقول لبعض : آمنوا بمحمد في أول أمره ؛ حتى يؤمن به جميع العرب ، ثمّ اكفروا به في آخر أمره ؛ فيقولون لنا : لم كفرتم به ورجعتم عن دينه ؟ فنقول لهم : إنا وجدنا في التوراة نعت نبي وصفته ، فحسبنا أنه هذا ؛ فآمنا به ، ثم نظرنا فإذا ذلك لم يكن نعته ولا صفته ؛ فرجعنا عن دينه وكفرنا به ؛ حتى يرجعوا جميعاً عن دينه ؛ فذلك قوله : { آمِنُواْ بِٱلَّذِيۤ أُنْزِلَ عَلَى ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ ٱلنَّهَارِ وَٱكْفُرُوۤاْ آخِرَهُ } . وقيل - أيضاً - : إن رءوس اليهود قالوا للسِّفْلة : صدقوا بالقرآن وبمحمد صلى الله عليه وسلم وجه النهار ، يعني : أول النهار ، يعني صلاة الغداة ، فإذا كان صلاة العصر اكفروا به ، فقولوا لهم : إن قبلة بيت المقدس كانت حقّاً ؛ فماذا بعد الحق إلا الضلال ؟ ! ليرجعوا عن دينهم . فلا ندري كيف كانت القصة ؟ ولكن فيه دلالة رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ؛ لما ذكرنا أنه كان يخبرهم بما يضمرون في أنفسهم ويسرون ، فذلك من إطلاع الله إياه . ويحتمل قوله : { آمِنُواْ بِٱلَّذِيۤ أُنْزِلَ عَلَى ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ ٱلنَّهَارِ } ، أي : أظهروا لهم الإسلام والموافقة ، ولا تؤمنوا به [ في ] الحقيقة ؛ يدل على ذلك قوله : { وَلاَ تُؤْمِنُوۤاْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ } في الحقيقة ، أي : آمنوا به ظاهراً ، وأمّا في الحقيقة فلا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم . وقال الشيخ - رحمه الله - في قوله : { وَقَالَتْ طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ آمِنُواْ بِٱلَّذِيۤ أُنْزِلَ عَلَى ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } الآية - : يحتمل وجهين : أحدهما : حقيقة النهار ، ثم يتوجه وجهين : أحدهما : أمر القبلة خاصّة ، فيريدون بذلك المحاجة بالموافقة في أحد الوقتين عليهم فيما خالفوا في ذلك ، وإن علموا أن ذلك حق ؛ ليشبهوا على الضعفة أنه لا تزال تنتقل من دين إلى دين ، ومذهب إلى مذهب ، وأن من لزم الدين الأول والمذهب الأول أحق للموافقة فيه مرة ، ولما لا يؤمن البقاء على الثاني ، وهو كقوله : { سَيَقُولُ ٱلسُّفَهَآءُ مِنَ ٱلنَّاسِ مَا وَلَّٰهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ ٱلَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا } [ البقرة : 142 ] ؛ وعلى ذلك أنكروا جواز نسخ الشرائع سفهاً منهم ، إذ ليس معنى التناسخ إلا اختلاف العبادات ، لا اختلاف الأوقات ، وذلك المعنى قائم ، وما التناسخ إلا ما عليه تناسخ الأحوال في كل ؛ على أن العبادات فيها المصلحة ، ومن تعبَّدَهم عالم بالذي به الأصلح في كل وقت ، فله ذلك . والثاني : أن يكون الذي أوَّل النهار لعله أنزل بما فيه وصف رسلهم وكتبهم من الهدى والبيان ، أو وصف أوائلهم في رعاية الحق ، وتعاهد الدين ؛ فأمروا بالإيمان بذلك ؛ ليروا قومهم أن قد ثبت وصف من تقدم بما ذُكر ، وأنهم على ذلك ، ومنه جاء فيما أخبر من تبديل من بدّل من أوائلهم وتحريفهم ، إلا إن كانوا كذلك ؛ ليُلزموهم التقليد في الأمرين ، والله أعلم . وحقه أنه إذا عرف حال الأوائل لا يهم ؛ فعلى ذلك أمر الآخر ومن به المعرفة ألزمهم التصديق في الأمرين جميعاً ، ومع ما أن في القرآن وصفاً بتصديق كتبهم ، فحقهم فيما هووا مقابلة كتب أنبيائهم ؛ لتكون هي القاضية والمثبتة للحق أنه على ما ادعوا أو أدُّعي عليهم . وقد ظهر تعنتهم بمظاهرتهم للمنكرين لكتبهم ، المذكبين برسلهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد تصديقه إياهم وشهادة كتابه بذلك ؛ ليعلم المتأمل عنادهم بغياً وحسداً ، كما أخبر الله - تعالى - عنهم . والوجه الآخر من تأويل الآية : أن يراد بما أخبر عنهم أول أمره وآخره ، لا حقيقة بياض النهار . ثم ذلك يخرج على وجهين : أحدهما : أن يكون دُعاه في أول الأمر إلى التوحيد ، والإيمان بالكتب المتقدمة ، وهم يدعون إلى ذلك ؛ وعلى ذلك كانوا قبل ظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وآخر ذلك بما تبين من تحريفهم وتعنتهم ، ولما أخذهم البغي وغلبهم الحسد ، وخافوا على رياستهم ، وأشفقوا على ملكهم ، وجزاء الشح ، وإظهار كثير مما قد كتم أوائلهم ؛ فكذبوه في هذا ، والله أعلم . ويحتمل أن يكون ذلك من أئمتهم اصطلاح على الإيمان بذلك ؛ حتى يعلم محلهم وحرصهم على قبول الحق ، ثم يكفرون به ؛ ليكن الأوّل ذريعة لهم في الثاني ؛ أنهم إذ ظنوا أنه على الحق أذعنوا له ؛ فلما تبين لهم باطله رجعوا عن ذلك ، فأطلع الله نبيه - عليه السلام - على ما أسرّوا ؛ ليصير ما ظنّوا أنه حجة لهم حجةً عليهم ، وجملة ذلك : أنا لا ندري ما السبب الذي كان منهم القول وفيما كان ، ولكنه قد بان أن ذلك كان منهم إسراراً أطلع الله نبيّه صلى الله عليه وسلم [ عليه ] ؛ ليكون حجة له ، وزجراً لهم عن كل أنواع التبديل في شأن رسوله - عليه أفضل الصلوات - بما يهتك عليهم ؛ فيفتضحون عند من راموا ستر أمرهم ، وتسقط رياستهم ، والله الموفق . وقوله : { قُلْ إِنَّ ٱلْهُدَىٰ هُدَى ٱللَّهِ أَن يُؤْتَىۤ أَحَدٌ مِّثْلَ مَآ أُوتِيتُمْ } : اختلف فيه ، قيل : هو على التقديم والتأخير ؛ قوله : { أَن يُؤْتَىۤ أَحَدٌ مِّثْلَ مَآ أُوتِيتُمْ } - كان على أثر قوله : { وَلاَ تُؤْمِنُوۤاْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ } : يقول بعضهم لبعض : ما أنزل الله كتاباً مثل كتابكم ، ولا بعث نبيّاً مثل نبيّكم ؛ قالوا ذلك حسداً منهم . وقيل : إن هذا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلمين : لما نزل قوله : { قُلْ إِنَّ ٱلْهُدَىٰ هُدَى ٱللَّهِ } - قال لهم : { أَن يُؤْتَىۤ أَحَدٌ مِّثْلَ مَآ أُوتِيتُمْ } ، يقول : دين الله الإسلام هو الدّين { أَن يُؤْتَىۤ } ، يقول : لن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من دين الإسلام ، والكتاب الذي فيه الحلال الحرام ، والله أعلم . ويحتمل أن يكون قال : لن يؤتى أحد من الأنبياء قبلي من الآيات مثل ما أوتيت أنا ؛ لأن آياتهم كانت كلها حسّية يفهمها كل أحد ، وآيات رسول الله كانت حسّية وعقلية لا يفهمها إلا الخواصُّ من الناس وخيرتُهم . وقوله : { أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ } : راجع إلى قوله : { وَلاَ تُؤْمِنُوۤاْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ } فـ { يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ } أنهم قد آمنوا به مرة وأقروا له ؛ وهو كقوله : { وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوۤاْ آمَنَّا وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ قَالُوۤاْ أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ ٱللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ } [ البقرة : 76 ] : أنهم كانوا يظهرون لهم الإسلام والإيمان ، ثم إذا خلوا قالوا : { إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ } [ البقرة : 14 ] ؛ فقال بعضهم لبعض : لا تظهروا لهم الإسلام ؛ فيحاجوكم عند ربكم في الآخرة ؟ ! . وقوله : { قُلْ إِنَّ ٱلْفَضْلَ بِيَدِ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ } هذه الآية على المعتزلة ؛ لأنهم يقولون : إن الفضل ليس بيد الله ؛ وكذلك الاختصاص ؛ إنما ذلك بيد الخلق ؛ لأن من قولهم : إنه ليس على الله أن يفعل بالخلق إلا ما هو أصلح لهم في الدين ، ليس له أن يؤتى أحداً فضلاً ، ولا له أن يختص أحداً برسالة ، إلا من هو مستحق لذلك مستوجب له ؛ فلذلك الفضل والاختصاص إنما استوجبوا بأنفسهم لا بالله ، على قلوبهم ، ففي الحقيقة الفضل عندهم كان بيدهم لا بيد الله ، فأكذبهم الله بذلك ؛ إذ الفضل عند الخلق هو فعل ما ليس عليه لا ما عليه ؛ فنعوذ بالله من السرف في القول ، والزيغ عن الرشد . قال الشيخ - رحمه الله - في قوله : { وَلاَ تُؤْمِنُوۤاْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ } - : يحتمل أن يكون في السرّ ، وإن أعطيتم لهم الظاهر . ويحتمل : أن يكون بعد ما أظهرتم اكفروا آخره . ويحتمل : لا تؤمنوا بما جاء به ، إلا لأجل من تبع دينكم ؛ فيكون عندهم قدوة ، يتقرر عندهم - بالذي فعلتم - أنكم أهل الحق ؛ فيتبعكم كيفما تصيرون إليه . ويحتمل : { وَلاَ تُؤْمِنُوۤاْ } : لا تصدّقوا فيما يخبركم عن أوائلكم ، { إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ } على المنع عن تصديق الرسول فيما يخبرهم من التحريف والتبديل ، والله أعلم . وقوله : { إِنَّ ٱلْهُدَىٰ هُدَى ٱللَّهِ } : يحتمل وجهين : أحدهما : البيان هو ما بين الله ؛ إذ هو الحق ، وكل ما فيه الصرف عنه فهو تلبيس وتمويه . ويحتمل : أن يكون الدين هو الذي دعا إليه بما أوضحه وأنار برهانه ، لا الدين الذي دعا إليه أولئك المنحرفون . { أَن يُؤْتَىۤ أَحَدٌ مِّثْلَ مَآ أُوتِيتُمْ } ، أي : لن يؤتى - والله أعلم - من الكتاب والحجج . ويحتمل أن يكون صلة قوله : { إِنَّ ٱلْهُدَىٰ هُدَى ٱللَّهِ } ، وهو دينه ، أو ما دعا إليه ، ثم يقول : { أَن يُؤْتَىۤ } بمعنى : لن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم أهل الإسلام من الحجج والبينات ، التي توضح أن الحق في أيديكم . وقوله : { أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ } : فإن كان هو صلة الأوّل ، فـ " أَو " بمعنى : " ليحاجوكم " ، أو : " حتى يحاجوكم " إذا آمنتم بما دعوا إليه ؛ فيحاجوكم بذلك عند ربكم ، أي : إنما آمنتم بالذي جاء لكم من عند ربكم ؛ فيصير ذلك لهم حجة عليكم . وإن كان صلة الثاني ، فهو على أنهم لا يؤتون مثل ما أوتيتم من الحجج ؛ ليحاجوكم بها عند ربّكم في أن الذي هو عليه حق ؛ لما قد ظهر تعنتهم وتحريفهم - والله أعلم - ثم بين السبب الذي هو نيل كل خير وفضل ، والله أعلم . وقوله : { إِنَّ ٱلْفَضْلَ بِيَدِ ٱللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ } ، وقوله : { وَٱللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ } [ البقرة : 105 ] : ينقض على المعتزلة قولهم بوجهين : أحدهما : أنهم لا يرون لله أن يختص أحداً - بشيء فيه صلاح - غيره صرفَهُ عن ذلك الغير ، بل إن فعل ذلك كان محابياً عندهم بخيلاً ، بل في الابتداء لم يكن له ذلك ؛ وإنما يعطي بالاستحقاق ، وذلك حق يلزمه وقد ذكر بحرف الامتنان . وعندهم - أيضاً - : ليس له ألا يشاء أو لا يعطي ؛ فلا معنى لذكره الذي ذكر مع ما صار ذلك ، بيد غيره إذ يلزم ذلك ، والله أعلم . والثاني : أن الذي يحق عليه - أن يبذل كُلا الأصلح في الدين ، وأنه إن قَصَرَ أحداً عن ذلك كان جائزاً ، ثم الأفضل للعبد شيء مما أعطى حتى يعطيه فيما أمره ؛ فيكون الفضل في الحقيقة في يد العبد : يؤتي نفسه إن شاء ويمنع إن شاء ، والله الموفق .