Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 30, Ayat: 26-32)
Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله : { وَلَهُ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } حرف " من " إنما يتكلم به ويعبّر عمّن له الملك والتدبير والتمييز ، وحرف " ما " عن ملك الأشياء نفسها ، فإذا كان من له الملك في الشيء والتدبير والأمر له فالأملاك أحق أن تكون له . يخبر - والله أعلم - عن غناه وسلطانه وقدرته ، أي : من له ما ذكر في السماوات والأرض لا يحتمل أن يمتحنهم ويأمرهم بأنواع العبادات والطاعة لحاجة نفسه ؛ إذ هو غني عن ذلك ، ولكنه إنما يمتحن ويأمرهم بأنواع العبادة وأنواع المحن لمنافع أنفسهم وحاجاتهم ومصالحهم ، فإذا كان له ما ذكر من الملك لا يحتمل أن يعجزه شيء أيضاً . وقوله : { كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ } قال بعضهم : القنوت : القيام ، والقانت : القائم ، فإن كان هذا فتأويله : { كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ } أي : قائم بتدبيره وأمره في الوجود والعدم ، والابتداء والإعادة ، وفي كل حال : إن أوجد وجد ، وإن أعدم صار معدوماً ، وإن أحياه حيي ، ونحوه ، في كل حال يقوم بتدبيره وأمره . وقال بعضهم : { كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ } أي : مطيعون ، فإن كان على هذا ونحوه فهو في كل حال يقوم بتدبيره وأمره . وقال بعضهم : { كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ } أي : مطيعون ، فإن كان على هذا فهو على طاعة الخلقة له ، والشهادة لله بالوحدانية والربوبية ، والتدبير له ، والعلم في ذلك ؛ لأن الله جعل في خلقة كل أحد ، وكل شيء ، وفي صورته ما يشهد له بالوحدانية والربوبية ، ويدل على تدبيره وعلمه وحكمته ، فكل له قانت ومطيع بالخلقة والصنعة . وقال بعضهم : { كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ } أي : خاضعون ، فهو يرجع إلى حال دون حال ، وهو حال الخوف والضرورة ، يخضع له كل كافر ومشرك في تلك الحال ، وهو ما أخبر عنهم من الخضوع له إذا ركبوا الفلك ؛ حيث قال : { فَإِذَا رَكِبُواْ فِي ٱلْفُلْكِ دَعَوُاْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ } [ يونس : 65 ] وقولهم : { لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَـٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلشَّاكِرِينَ } [ يونس : 22 ] ونحو ذلك من الأحوال التي كانوا يخضعون له ويطيعون ، والله أعلم . وقوله : { وَهُوَ ٱلَّذِي يَبْدَؤُاْ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ } لا يحتمل أن يخلقهم وينشئهم لحاجة نفسه ، أو لمصلحته ؛ لأنه غني بذاته ، أو يمتحنهم لمنفعة نفسة ، أو يأمره لذلك ، ولكن إنما يبدئ ويعيد لحاجة أنفسهم . أو يخبر أن من قدر على ابتداء الشيء يملك إعادته . { وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } اختلف فيه : قيل : { وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } هيّن ابتداؤه وإعادته ؛ كقوله : { وَذَلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٌ } [ التغابن : 7 ] وقوله : { هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ } [ مريم : 9 ] ، ويجوز العبارة بأفعل عن فعيل ؛ نحو ما يقال : الله أكبر ؛ أي : كبير ، وأعظم بمعنى : عظيم ، ونحوه كثير ؛ فعلى ذلك قوله : { وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } أي : عليه هيّن ؛ إذ ليس شيء أصعب على الله من شيء ، أو شيء أهون عليه من شيء ؛ بل الأشياء كلها بمحل واحد تحت قوله : { كُنْ } وإنما يقال : أهون وأيسر ، لمن كان فعله بسبب ، فيهون عليه إذا كثرت الأسباب ، ويصعب عليه ذلك إذا قلت وضعفت ، فأمّا الله - سبحانه وتعالى - فهو الفاعل للأشياء ، وصانعها ، والقادر عليها بسبب وبلا سبب ، فلا جائز أن يقال شيء أهون من شيء ، وإنما يجوز ذلك فيمن كان فعله لا يكون إلا بسبب . وقال بعضهم : قوله : { وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } في عقولكم ، وتدبيركم ، وتقديركم ؛ أي : إعادة الشيء في عقولكم وتدبيركم أهون من ابتدائه ؛ لأن الخلق لا يملكون تصوير ما لم يسبق له المثال والتصور ابتداء ، وقد يملكون تصوير الأشياء وتمثيلها إذا سبق لهم مثال رأوه وشاهدوه ؛ فثبت أن إعادة الشيء في عقولكم وتدبيركم أهون من ابتدائه ، فإذا عاينتم وأقررتم : أنه قادر على ابتدائه فهو على إعادته أملك وأقدر ، ولا قوة إلا بالله . وقال بعضهم : قوله : { وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } يعني : على ذلك الشيء ؛ أي : إعادة ذلك الشيء أهون على ذلك الشيء من ابتدائه ؛ لأنه في الابتداء ينقله ويحوّله من حال النطفة إلى حال العلقة ، ثم من حال العقلة إلى حال المضغة ، ثم [ من ] حال المضغة إلى حال التصوير والنسمة إلى ما ينتهي إليه ، حتى يصير خلقاً وصورة ، فيخبر أن إعادته ليس على هذا التقدير والتحويل من حال إلى حال ، ولكن كما ذكر : { وَمَآ أَمْرُ ٱلسَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ ٱلْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ } [ النحل : 77 ] وقوله : { وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِٱلْبَصَرِ } [ القمر : 50 ] وقوله : { إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً } [ يس : 29 ] ونفخة ودعوة وما ذكر ، فالإعادة لذلك الشيء أهون على ذلك الشيء من الابتداء . وقوله : { وَلَهُ ٱلْمَثَلُ ٱلأَعْلَىٰ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } أي : له الصفات العالية ، ثم هو يخرج على وجوه : أحدها : أن كل موصوف بالعلو والرفعة من دونه فهو الموصوف به في الحقيقة ؛ على ما ذكرنا أن كل من حمد دونه ؛ فذلك الحمد له في الحقيقة راجع إليه ، ذلك كقوله : { لَهُ ٱلْحَمْدُ … } الآية [ القصص : 70 ] . والثاني : له الصفة العالية مما يخالف صفات الخلق وشبههم كقوله : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [ الشورى : 11 ] : لا تشبه صفاته صفات المخلوقين ، ولا اشتبهت صفات الخلق صفاته ، وهو ما قاله بعض أهل التأويل : الذي لا مثل له ولا شبه ، لا إله إلا هو ، واحد لا شريك له . والثالث : وله الصفات العالية مما لا يضاد بعضها بعضاً : عالم لا جهل فيه ، قادر لا عجز فيه ، عزيز لا ذل فيه ، وأمثال ذلك مما لا يدخل في ذلك نقصان أو عيب بوجه من الوجوه ، ليس كالخلق أنهم يوصفون بالعلم بجهة وبشيء وبالجهل بجهة أخرى وبشيء آخر وبالقدرة بجهة أخرى وبشيء آخر ، وبالعجز بجهة أخرى وبشيء آخر ، وبالعز بجهة أخرى وبشيء آخر ، وبالذل بجهة أخرى وبشيء آخر . فالله - سبحانه وتعالى - موصوف بصفات لا يضاد بعضها بعضاً ولا يدخل في ذلك نقصان بجهة من الجهات ، وفي حال من الأحوال ؛ لأنه بذاته موصوف بذلك لا بغيره ولا بسبب ، وأما غيره فإنما يوصفون بذلك بأسباب وباعتبار يكون لهم ؛ لذلك كان ما ذكر ، ولا قوة إلا بالله . وقوله : { وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ } : الذي لا يلحقه الذل والضرر بمخالفة خلقه إياه وعصيانهم له ، ليس كملوك الأرض إذا خالفهم أتباعهم وحواشيهم ورعيتهم يذلون ويلحقهم الضرر بإعراضهم عنهم ؛ لأن عزهم كان بهم ، فبإعراضهم عنهم ومخالفتهم إياهم يذلون ، فأما الله - سبحانه - [ فهو ] عزيز بذاته ، لا يلحقه الضرر والذل بمخالفة الخلق إياه . أو أن يكون قوله : { ٱلْعَزِيزُ } المنتقم عمن يخالف أمره ويعصيه أو يشرك غيره في ألوهيته وربوبيته . والحكيم : هو الذى لا يلحقه الخطأ في التدبير . يخبر - والله أعلم - : أني وإن خلقتهم وأنشأتهم على علم مني أنهم يخالفونني ويعصونني ، وأعنتهم بكل أنواع المعونة ، على علم مني بذلك منهم ؛ فإن فعله ليس بخارج عن الحكمة كما يكون في الشاهد أن من أعان عدوه بأنواع المعونة ، وهو يعلم أن معونته إياه تزيد له قوة في معاداته وعصيانه ومخالفته - هو موصوف بالسفه غير موصوف بالحكمة ؛ لأنه يسبق في إهلاك نفسه ، ويعينه على ذلك بمعونته إياه ، ومن يسعى في إهلاك نفسه ، فهو غير حكيم . فأما الله - سبحانه - حيث خلقهم وأنشأهم وأعانهم بكل أنواع المعونة على علم منه بما يكون من الخلاف له والعصيان والمعاداة غير خارج فعله عن الحكمة ؛ لما ذكرنا أنه لا يلحقه الضرر ولا النقصان بما علم ويكون منهم من الخلاف له والعصيان والمعاداة ، ولا قوة إلا بالله . وقوله : { ضَرَبَ لَكُمْ مَّثَلاً مِّنْ أَنفُسِكُمْ } قال بعضهم : ضرب لكم مثلاً . من مثل خلقكم ، يقول - والله أعلم - : يبين لكم مثلا من أنفسكم : ما لو تفكرتم وتأملتم ، لظهر لكم سفهكم بعبادتكم الأصنام دون الله ، أو تسميتكم الأصنام بالله . ثم يخرج ضرب المثل بما ذكر على وجوه : أحدها : قوله : { هَلْ لَّكُمْ مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِّن شُرَكَآءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَآءٌ } ، أي : لم تسووا أنتم أنفسكم بالذي ملكت أيمانكم فيما رزقتم حتى تكونوا أنتم وهم سواء في ذلك ؛ فكيف زعمتم أن الله قد سوى نفسه وما ملك من خلقه في ملكه وألوهيته ؟ ! والثاني : يقول : هل ترضون أن يكون ما ملكت أيمانكم شركاءكم فيم تملكون من الأموال ؟ ! فإذا لم ترضوا به ، فكيف زعمتم أن الله يرضى أن يشرك مماليكه في ملكه وسلطانه ؟ ! . أو يقول : فإن لم ترضوا لأنفسكم إشراك ما ملكت أيمانكم في ملككم ، ولم تسووا مماليككم بأنفسكم في ذلك ، فكيف رضيتم ذلك لله ، وسويتم نفسه ومماليكه ، وعدلتم به من دونه ؟ ! والله أعلم . وقوله : { تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ } . أي : تخافون مماليككم كما تخافون أحرارا أمثالكم . وقال بعضهم : تخافون لائمتهم كما يخاف الرجل لائمة أبيه وأخيه وأقاربه . وبعضهم يقولون : تخافون عبيدكم أن يرثوكم بعد الموت ، كما تخافون أن يرثكم الأحرار من أوليائكم ، وهو قول مقاتل لكن الميراث ليس من الآية في شيء ، والأول أشبه . وفي قوله : { ضَرَبَ لَكُمْ مَّثَلاً مِّنْ أَنفُسِكُمْ هَلْ لَّكُمْ مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِّن شُرَكَآءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَآءٌ } دلالة أن العبد لا يكون له حقيقة الملك في الأشياء كالأحرار ؛ لأنه أخبر أنهم ليسوا هم بسواء في الشرك فيما رزق السادات وملكوا ، على العلم أنهم يشتركون جميعاً في المنافع ؛ دل أنهم يملكون منافع الأشياء ويشتركون مع الأحرار فيها ، ولا يملكون حقيقة الإملاك ، وكذلك يدل قوله : { ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَّمْلُوكاً لاَّ يَقْدِرُ عَلَىٰ شَيْءٍ … } [ النحل : 75 ] أنه لما نفى عنه القدرة على شيء - والله أعلم - يكون تأويل قوله : { وَأَنْكِحُواْ ٱلأَيَامَىٰ مِنْكُمْ وَٱلصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِن يَكُونُواْ فُقَرَآءَ يُغْنِهِمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ } [ النور : 32 ] ، أي : يغنهم الله من فضله بالمنافع ، لا بحقيقة ملك الأشياء ، والله أعلم . وقوله : { كَذَلِكَ نُفَصِّلُ ٱلآيَاتِ } . أي نبينها . { لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } . أي : لقوم ينتفعون بعقولهم . والثاني : قوله : { نُفَصِّلُ ٱلآيَاتِ } ، أي : نفرق واحدة بعد واحدة ، على ما ذكر من أول السورة إلى هذا الموضع من قوله : { وَمِنْ آيَاتِهِ } كذا ، { وَمِنْ آيَاتِهِ } كذا ، والتفصيل يخرج على وجهين : أحدهما : التبيين . والثاني : التفريق في الذكر ، فصلت آياته : بينت ، وفصلت : فرقت واحدة بعد واحدة . فإن قال لنا قائل في هذه الآيات التي ذكرت : ما يدل على إيجاب البعث ؟ قيل : في هذه [ الآيات ] التي ذكرت دفع الشبه التي لها أنكروا البعث ؛ لأنهم رأوا البعث ممتنعاً بالشبهة التي اعترضت لهم ؛ ففي هذه الآيات دفع تلك الشبهة التي لها رأوا البعث ممتنعاً ، حيث أراهم بدء خلقهم وقيام السماء والأرض بالذي ذكر . ثم إيجاب البعث يكون بالأخبار الصادقة ، وهي أخبار الرسل الذين ظهر صدقهم ، أو بما ذكرنا : أن خلق الخلق بلا عاقبة تجعل لهم للفناء خاصة خارج عن الحكمة ؛ لوجوه : أحدها : ما ذكرنا أن بناء البناء في الشاهد للنقض والإفناء خاصة بلا منفعة تتأمل في العاقبة سفه خارج عن الحكمة ؛ فعلى ذلك خلق الخلق للفناء خاصة بلا عاقبة يكون خارجاً عن الحكمة . والثاني : أنه لو لم يجعل البعث وداراً أخرى ؛ ليفرق بين العدو والولي مع ما قد سوى بينهما في هذه الدار ، وفي الحكمة أن يفرق ولا يسوي بينهما ؛ فلو لم يكن دار أخرى فيها يفرق لكان ذلك خارجاً عن الحكمة . والثالث : في الحكمة أن يجزي المحسن لإحسانه والمسيء في إساءته ، وقد يكونان في هذه الدنيا ويخرجان منها لا يصيب المحسن جزاء إحسانه ، ولا المسيء جزاء إساءته ؛ فلا بد من دار أخرى ؛ ليجزى فيها كل بعمله ، وفيما ذكرنا إيجاب البعث ، والله أعلم . وقوله : { بَلِ ٱتَّبَعَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُوۤاْ أَهْوَآءَهُمْ } . يحتمل قوله : { ٱلَّذِينَ ظَلَمُوۤاْ } ، أي : ظلموا أنفسهم ، حيث لم يستعملوها فيما أمروا بالاستعمال فيه ؛ بل صرفوها إلى غير ما أمروا بالاستعمال فيه . أو ظلموا حجج الله وآياته وبراهينه ؛ حيث لم يتبعوها ولم يضعوها موضعها حيث وضعت . وقوله : { أَهْوَآءَهُمْ } في عبادتهم الأصنام ، وصرفها عن الله إلى من لا يستحق العبادة والشكر ؛ وذلك لهواهم ؛ لأنه ليس معهم حجة ولا برهان ؛ كقوله : { وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً } [ الحج : 71 ] أي : حجة وبرهانا . وقوله : { فَمَن يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ ٱللَّهُ } . أي : أأحد سوى الله يهدي من أضله الله ؟ أي من يؤثر الضلال واختاره أضله الله ، لا يهديه سواه . { وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ } . ينصرونهم في دفع عذاب الله عن أنفسهم . أو { وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ } ، أي : من مانعين يمنعونهم عن عذاب الله ، والله أعلم . وقوله : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً } . قال بعضهم : هذا الخطاب لرسول الله ؛ لأنه ذكر الآيات فيما تقدم ؛ حيث قال : { وَمِنْ آيَاتِهِ } كذا وكذا ، ثم ذكر الذين اتبعوا أهواءهم بغير علم ، ثم قال لرسول الله : أقم وجهك أنت للدين حنيفاً . قال الشيخ - رحمه الله - وعندنا أن الخطاب به وبمثله لكل أحد ؛ كقوله : { قُلْ يٰأَيُّهَا ٱلْكَافِرُونَ } [ الكافرون : 1 ] ، و { قُلْ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ } [ الإخلاص : 1 ] ؛ كأنه يخاطب كل من انتهى إليه هذا أن قل : هو الله أحد ، و : يأيها الكافرون ؛ فعلى ذلك قوله : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً } هو لكل أحد . ثم الإقامة تحتمل وجهين : أحدهما : أقم : أي : داوم جهدك وقصدك . والثاني : أقم : أتمم . { فَأَقِمْ } ما ذكرنا { لِلدِّينِ حَنِيفاً } : قال بعضهم : الحنيف : هو من حنف القوم وميله ، ومعناه : كن مائلا إلى الدين في كل حال وكل وقت . وقال بعضهم : هو من الإخلاص والإسلام له . وقوله : { فِطْرَتَ ٱللَّهِ ٱلَّتِي فَطَرَ ٱلنَّاسَ عَلَيْهَا } . ثم فسر ذلك فقال : { فِطْرَتَ ٱللَّهِ ٱلَّتِي فَطَرَ ٱلنَّاسَ عَلَيْهَا } : هذا يحتمل وجوهاً : { فِطْرَتَ ٱللَّهِ } ، أي : معرفة الله التي جبل الناس عليها أن يكون الله يجعل في كل صغير وطفل من المعرفة ما يعرف وحدانية ربه وربوبيته ؛ على ما جعل لهم من المعرفة ما فيه غذاؤهم وقوامهم من أخذ ثدي أمهاتهم في حال صغرهم وطفولتهم ؛ ولذلك يخرج قوله : " كل مولود يولد على الفطرة ، فأبواه يهودانه أو ينصرانه " ؛ على ما جعل في الجبال من معرفة التسبيح لربها والتحميد ، لكن أبواه يشبهان ذلك عليه ، ويصرفانه . والثاني : فطرهم وجبلهم ما لو تركوا وعقولهم لكانوا على ما جبلوا وفطروا ؛ إذ فطر كل منهم وجعل في خلقة كل دلالة وحدانية الله وربوبيته . وكذلك قوله : " كل مولود يولد على الفطرة " ، أي : على الخلقة التي تدل وتشهد على وحدانية الله وربوبيته ما لو تركوا وخلي بينهم وبين عقولهم لأدركوا . والثالث : فطرهم على ما يحتملون الامتحان . وقوله : { لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ ٱللَّهِ } . قال عامة أهل التأويل : لا تبديل لدين الله ، سماه : خلقا . وعلى قول المعتزلة : له تبديل ؛ لأنهم يقولون بأن فعل العبد ليس بمخلوق ، ويحتالون في قوله : { لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ ٱللَّهِ } ، أي : لا تبديل لما به يقع الدعاء إليه ، أو كلام نحو هذا . فيقال : إن الدين هو ما يدين المرء وهو فعله ، مأخوذ من دان ، يدين ، ثم أخبر أنه خلق الله ؛ فدل أنه مخلوق . وجائز أن يكون قوله : { لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ ٱللَّهِ } ، أي : لما فيه دلالة وحدانية الله وشهادة ربوبيته ؛ كقوله : { مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ ٱلرَّحْمَـٰنِ مِن تَفَاوُتٍ } [ الملك : 3 ] . أو لا تفاوت فيما فيه دلالة الوحدانية والشهادة له ، والله أعلم . وقوله : { ذَلِكَ ٱلدِّينُ ٱلْقَيِّمُ } . أخبر أن ذلك الدين القيم بالحجج والبراهين ليس كدين أولئك الكفرة أتباع الهوى . أو أن يكون الدين القيم ، أي : المستقيم على ما وصفه الله أنه الدين الحنيف . وقوله : { مُنِيبِينَ إِلَيْهِ } . هو صلة قوله : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً } { مُنِيبِينَ إِلَيْهِ } ، فهذا يدل على أن الخطاب بقوله : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ } للكل ؛ حيث قال : { مُنِيبِينَ إِلَيْهِ } ، أي : أقبلوا إليه وأنيبوا له . ثم الإنابة تقع فيما يقع به الأمر ، كأنه يقول - والله أعلم - : أنيبوا إلى الله بما يأمركم به . { وَٱتَّقُوهُ } . ما نهاكم عنه ، والتقوى من الإنابة كهي من البر ، كقوله - تعالى - : { أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ } [ البقرة : 224 ] بما يأمركم به ، وتتقوه عما نهاكم عنه . وقوله : { وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ } . هو يحتمل وجوهاً : { أَقِيمُواْ } أي : الزموا وداوموا فعلها إلى آخر ما تنتهون إليه ، ليس على أن يقع الأمر بها مرة واحدة . والثاني : { أَقِيمُواْ } أي : أتموها بركوعها وسجودها والقراءة وغير ذلك . والثالث : { أَقِيمُواْ } ، أي : وفوا إقامتها بأسبابها التي جعلت لها . وفي الصلاة أحوال ثلاث : أحدها : الجواز . والثاني : التمام والكمال . والثالث : التزيين والتحسين . ثم الجواز بحق الأركان ، والتمام : بحق الشعوب ، والتزيين بحق الحواشي . ويجب على كل مصل خصال ثلاث : صدق النية ، وحق الإخلاص له ، وحق الخشوع . وقوله : { وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ } . يحتمل : أي : لا تكونوا من المشركين غير الله في الصلاة والعبادة ، أي : لا تصلوا لغير الله ، ولا تعبدوا من دونه . أو لا تكونوا من المشركين من دونه في تسمية الألوهية والإلهية ؛ لأنهم كانوا يسمون الأصنام التي يعبدونها : آلهة . أو أن يكون صلة قوله : { مُنِيبِينَ إِلَيْهِ } ، أي : كونوا منيبين إليه ، موحدين ، مقبلين على طاعته ، مخلصين ، ولا تكونوا من المشركين له غيره . وقوله : { مِنَ ٱلَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً } . قال بعضهم : لا تكونوا من المشريكن ، ولا تكونوا من الذين فارقوا دينهم . ثم قوله : { وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ * مِنَ ٱلَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ } ، وقرئ : { فارقوا } ؛ فهو يحتمل وجهين : أحدهما : فارقوا دينهم الذي جاءتهم الرسل . أو فارقوا دينهم الذي فطروا عليه ، وهو ما جعل فيهم من شهادة التوحيد له والربوبية . وقوله : { وَكَانُواْ شِيَعاً } يحتمل : صاروا شيعاً ، أي : فرقا وأحزاباً بعدما كانوا على ما فطروا ، أو على ما جاءتهم الرسل . أو كانوا شيعاً ما يشيع ويتبع بعضهم بعضا ؛ لأن الشيعة هم الذين يرجعون إلى أصل واحد وأمر واحد ، والله أعلم . وقوله : { فَرَّقُواْ دِينَهُمْ } ، أي : قطعوا دينهم ، وجعلوه قطعاً وفرقاً وأديانا ، من نحو اليهودية ، والمجوسية ، والنصرانية وغيرها . { كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } . يقول - والله أعلم - : كل أهل دين وملة بما عندهم من الدين راضون به ، فرحون . وجائز أن يكون قوله : { وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ } : في الذي فطرتم عليه ، وهو ما جعل في خلقة كل واحد شهادة الوحدانية لله والدلالة ، يقول : لا تكونوا من المشركين في ذلك ، والله أعلم .