Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 30, Ayat: 33-39)
Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله : { وَإِذَا مَسَّ ٱلنَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْاْ رَبَّهُمْ مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ } . قال قائلون : منيبين : مخلصين ؛ كقوله : { دَعَوُاْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ } [ يونس : 22 ] . وقال قائلون : مطيعين . وقال قائلون : موحدين . وأصل الإنابة : الرجوع ، أي : راجعين إليه عما كانوا فيه من الشرك ؛ فالإنابة هي التوحيد ، وإن كان الإنابة الإخلاص ، فهو رجوع عن الإشراك في العبادة ، وإن كان عن العصيان فهو الطاعة ، وأصله : الرجوع عما كانوا فيه ؛ ففيه وجوه من الاحتجاج على أولئك ، وتنبيه وعظة للمؤمنين . أما الاحتجاج عليهم : فإنه معلوم ؛ لأنهم كانوا لا يركبون السفن والبحار مع المؤمنين ، ولكن كانوا يركبون بأنفسهم ، ثم أخبر عما أخلصوا له والدعاء له والتضرع ، دل أنه بالله عرف ذلك ؛ فذلك يدل على رسالته . والثاني : فيه دلالة أنهم قد عرفوا وحدانية الله وألوهيته ؛ حيث فزعوا عند الشدائد والبلايا إلى الله ، وأخلصوا له الدين ، ثبت أنهم قد عرفوا سفه أنفسهم في عبادتهم الأصنام وتركهم عبادة الله ، تعالى . والثالث : تصديقاً لقوله : { وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ } [ الأنعام : 28 ] ؛ لأنهم كانوا يسألون الرد إلى الدنيا ليؤمنوا به ؛ كقولهم : { يٰلَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَٰتِ رَبِّنَا } [ الأنعام : 27 ] ، فأخبر أنهم يعودون إلى ما كانوا ؛ كما عادوا إذا كشف عنهم الضر . وأما العظة والتنبيه للمؤمنين : فهو أن يكونوا في الأحوال كلها على حال واحد في حال الرخاء والشدة ، ذاكرين له شاكرين ؛ لأنهم في حال الشدة والبلايا أكثر ذكراً له وإنابة من حال السعة والرخاء ، فينبههم ليكونوا في كل حال ذاكرين له منيبين إليه راجعين . وفيه دلالة : شدة سفه أولئك الكفرة ؛ حيث أنابوا إليه وأخلصوا له الدين عندما يصيبهم الشدة والبلاء ، ويعرضون عنه ويشركون في ألوهيته عند السعة . وفي طباع الخلق في الشاهد خلاف ذلك : أن من ضيق على آخر أمره وشدده فهو يعرض عنه ويبغضه ، ومن أنعم عليه من ملوك الأرض وأحسن - أطاعه وأحبه ؛ فهم لشدة سفههم عكس طباعهم ، وخالفوا طباع الناس جميعاً ، والله أعلم . وقوله : { ثُمَّ إِذَآ أَذَاقَهُمْ مِّنْهُ رَحْمَةً } . أي : السعة والرخاء . { إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ } . فإن قيل : ما فائدة ذكر هذه الآيات وأمثالها ، وهم كانوا لا يؤمنون بها ، ولا ينظرون فيها . قيل : قد يحتج عليهم بما لا يقرون ولا ينظرون فيه . أو أن ينظر في ذلك فريق منهم ويعرفونه ، والله أعلم . وقوله : { لِيَكْفُرُواْ بِمَآ آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُواْ } . اختلف فيه : قال بعضهم : هو على التقديم والتأخير ؛ يقول : إذا أذاقهم منه رحمة ؛ لئلا يكفروا ، وإنما أذاقهم رحمة لئلا يكفروا ، لكنهم كفروا ، إلى هذا ذهب مقاتل . وعندنا ما ذكرنا : هو أذاقهم منه رحمة ؛ ليكون منهم ما قد علم أنهم يختارون ، ويكون منهم ، وهو الكفر ، ولا جائز أن يذيقهم الرحمة ؛ لئلا يكفروا ، ويعلم منهم أنهم يختارون الكفر ويكون منهم ذلك ؛ فدل أنه ما ذكرنا . ثم في الآية دلالة نقض قول المعتزلة في قولهم : إن على الله الأصلح للعباد لهم في الدين ، وقولهم : إذا علم من أحد منهم الإيمان في وقت من الأوقات ليس له أن يخترمه ؛ ولكن عليه أن يبقيه إلى ذلك الوقت ؛ لأنه لو اخترمه قبل ذلك الوقت لكان هو المانع إيمانه . فيقال : إن أولئك الكفرة لما أخلصوا دينهم لله في حال الشدة وخوف الهلاك لم يبقهم الله على ذلك الإخلاص والحال التي كانوا يخلصون الأمر له والدين ، بل وسع عليهم ، وحولهم من تلك الحال ، حتى عادوا إلى ما كانوا ؛ دل أن ليس على الله حفظ الأصلح للخلق في الدين . وقد أمر نبيه بمقاتلة الكفرة مطلقاً ، ولعلهم يسلمون في وقت لو تركوا أو بعض منهم ؛ دل أن ليس ذلك عليه . وقوله : { فَتَمَتَّعُواْ } هو في الظاهر أمر ، ولكنه يخرج على الوعيد ؛ كقوله : { ٱعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ } [ فصلت : 40 ] ، وقد ذكر في آية أخرى : { وَلِيَتَمَتَّعُواْ } [ العنكبوت : 66 ] ؛ فهو ما ذكرنا ، والله أعلم . وقوله : { أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُواْ بِهِ يُشْرِكُونَ } . قال بعضهم : { أَمْ أَنزَلْنَا } : بل أنزلنا عليهم سلطاناً وحججاً ، فهو يتكلم بما كانوا به يشركون ، أي : يبين ، ويعلمهم أن الذي هم عليه شرك ليس بتوحيد ؛ لأنهم كانوا يقولون : إنا على التوحيد ، وإنما نعبد هذه الأصنام { إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَىۤ } [ الزمر : 3 ] ، و { هَـٰؤُلاۤءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ ٱللَّهِ } [ يونس : 18 ] ونحوه ؛ فيقول : بل أنزلنا عليهم ما يبين ويعلم أن ذلك شرك وليس بتوحيد . ويحتمل وجهاً آخر : وهو أن قوله : { أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً } ، أي : ما أنزلنا عليهم سلطاناً فيأمرهم بما كانوا به يشركون أو يأذن لهم بذلك ؛ كقوله : { أَمْ لِلإِنسَانِ مَا تَمَنَّىٰ } [ النجم : 24 ] ؛ فعلى ذلك قوله : { أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً } أي : لم ننزل عليهم سلطاناً يأمرهم بما كانوا به يشركون ، أو كانوا يدعون بذلك أمر الله ؛ كقولهم : { وَٱللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا } [ الأعراف : 28 ] ، ففيه وجهان على أولئك الكفرة . أحدهما : ما ذكرنا أنهم كانوا يدعون بذلك الأمر من الله ، فيخبر أنهم كذبة في قولهم بأن الله أمرهم بذلك ؛ بل لم يأمرهم بذلك ، ولا أنزل عليهم الكتاب أو السلطان في إباحة ذلك . والثاني : يذكر سفههم في عبادتهم الأصنام ؛ لأنهم كانوا يعبدون الأصنام ، ويسمونها : آلهة ، بلا سلطان ولا حجة كانوا يطلبون على ذلك ، ثم كانوا يطلبون من الرسول آيات تقهرهم وتضطرهم على رسالته وما يوعدهم ، بعدما آتاهم من الآية ما أعلمهم وأنبأهم أنه رسول ؛ فالعبادة أعظم وأكبر للمعبود من الرسالة ؛ فإذا لم تطلبوا لأنفسكم الحجة والآية القاهرة في إباحة ما تعبدون من دون الله فكيف تطلبون من الرسول الآية القاهرة في إثبات الرسالة ؟ ! وقال بعضهم : { أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً } : كتاباً فيه عذر لهم ، فهو يشهد بما كانوا به يشركون . وقوله : { وَإِذَآ أَذَقْنَا ٱلنَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُواْ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ } . إذا أريد أن يسوي بين هذه الآية والآية التي قبلها ، وهو قوله : { وَإِذَا مَسَّ ٱلنَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْاْ رَبَّهُمْ مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ … } إلى آخره ، ويجمع بينهما يكون قوله : { إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ } : من الأصنام التي يعبدونها ؛ لأنه يقول في هذه الآية : { وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ } ، وفي الأولى يقول : { وَإِذَا مَسَّ ٱلنَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْاْ رَبَّهُمْ مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ } ؛ فوجه الجمع بينهما ما ذكرنا : أن يكون القنوط من الأصنام ، والله أعلم ؛ كقوله : { وَإِذَا مَسَّكُمُ ٱلْضُّرُّ فِي ٱلْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ } [ الإسراء : 67 ] . أو أن يكون قوله : { إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ } : عندما امتد بهم الضرّ والشدة ؛ حينئذ ييئسون من رحمة الله ، والأول في ابتداء ما أصابهم من الضر فزعوا إليه وأنابوا له . أو أن يكون إحدى الآيتين في قوم ، والأخرى في قوم آخرين ؛ لأنهم كانوا فرقاً وأحزاباً في الكفر والشرك : منهم من كان يشرك في الأحوال كلها : في حال الضيق والسعة ، ومنهم من كان يشرك في حال الضيق ، ويؤمن في حال السعة ، كقوله : { وَلَئِنْ أَذَقْنَا ٱلإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ * وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَآءَ بَعْدَ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ ٱلسَّيِّئَاتُ عَنِّيۤ إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ } [ هود : 9 - 10 ] ، وكقوله : { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَعْبُدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ ٱطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ ٱنْقَلَبَ عَلَىٰ وَجْهِهِ } [ الحج : 11 ] . ومنهم من كان يخلص الدين حال الضر والشدة ، ويعاند ويتمرد في حال السعة والرخاء ؛ كقوله : { فَإِذَا رَكِبُواْ فِي ٱلْفُلْكِ دَعَوُاْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى ٱلْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ } [ العنكبوت : 65 ] ونحوه ؛ فكانوا فرقا وأحزابا على ما ذكرنا ؛ فجائز أن يكون إحدى الآيتين في فريق وقوم ، والآية الأخرى في قوم آخرين . أو ما ذكرنا من اختلاف الأحوال : يقنطون عندما امتد بهم الضر والشدة ، وينيبون إليه عندما لم يمتد بهم ذلك ولم يتطاول . أو ما ذكرنا من القنوط من الأصنام والإنابة إلى الله ؛ كقوله : { ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ } [ الإسراء : 67 ] . وإلا الآيتان في الظاهر متناقضتان ، ولكن الوجه فيه ما ذكرنا ، والله أعلم . وقوله : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ ٱللَّهَ يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } . يحتمل قوله : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } على الكافرين ؛ كقوله : { وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ ءَاتَيْنَٰهَآ إِبْرَٰهِيمَ عَلَىٰ قَوْمِهِ } [ الأنعام : 83 ] . ثم وجه الآيات لهم على كفار مكة من وجوه في إثبات الرسالة ، وفي البعث ، [ و ] في إظهار سفههم في عبادة الأصنام وإشراكهم إياها في عبادة الله ؛ لأن أهل مكة كانوا ينكرون الرسالة والبعث ، ويرون عبادة غير الله ؛ فالاحتجاج عليهم بهذه الآية على الوجوه التي ذكرنا . فأما الاحتجاج في إثبات الرسالة فهو من وجوه ثلاثة : أحدها : أنهم كانوا ينكرون الرسالة ؛ لأنه بشر ، ولا يرون للبشر بعضهم على بعض فضلا ؛ كقوله : { مَا هَـٰذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ } [ المؤمنون : 33 ] ؛ فيريهم الفضل لبعضهم على بعض في الرزق : موسعا على بعض مضيقا مقترا على بعض ؛ فإن ثبت عندهم ، وظهر الفضل لبعض على بعض فيما ذكرنا يجوز الفضل على بعض في الرسالة . والثاني : ذكر مقابلا لقولهم : { لَوْلاَ نُزِّلَ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ ٱلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } [ الزخرف : 31 ] ؛ يخبر أن الأمر ليس إليهم ؛ إنما ذلك إلى الله تعالى ، يختار من يشاء لما يشاء من الرسالة والنبوة وغيرهما ، كما يختار التوسيع على من يشاء والتضييق والتقتير على من يشاء ، وإن كانوا جميعاً يتمنون السعة ويحبونها ، ويهربون من الضيق والتقتير ، ولكن الأمر في ذلك إلى الله تعالى كله . والثالث : وسع على بعض وضيق على بعض ؛ فالجهة التي وسع على بعض غير الجهة التي ضيق على بعض ؛ فلا بد من رسول يخبر عن ذلك ، ويعلم ما على هذا وما على هذا ، وما جهة التفريق بينهم والتفضيل في الرزق ، والله أعلم . وأما الاحتجاج عليهم في البعث بها فمن وجوه أيضاً : أحدها : أنه جمع في هذه الدنيا بين العدو والولي ، وسوى بينهما في التوسيع والتضييق ؛ إذ وسع على العدو والولي جميعاً ، وضيق على الولي ووسع على العدو ، وفي الحكمة والعقل التفريق بينهما لا الجمع والتسوية ، وقد سوى بينهما في هذه الدنيا وجمع ؛ فلا بد من دار أخرى فيها يفرق بينهما ؛ فيلزمهم البعث ، والله الموفق . والثاني : أنه وسع الرزق على من هو في تقديرهم وعقولهم لا يوجب التوسيع عليه ، وهو السفيه الجاهل الذي في تقدير كل ذي عقل ولب أن يكون محروما مضيقا ، وضيق على من هو في تقدير كل أحد وعقله أن يكون موسعا عليه مرزوقا ، وهو العاقل العارف بجميع أسباب السعة والغناء ، وفي التقدير على خلاف هذا ؛ فلا بد من مكان فيه يظهر التفضيل للعقول والمعارف ، والرغبة فيها ، والرغبة عن أضدادها ، ومن هو أهل التوسيع ومن هو أهل الحرمان ؛ إذ قد اشتركوا في هذه . والثالث : أن يعتبروا وينظروا بأن من قدر على توسيع الرزق وبسطه وتضييق الرزق وحرمانه ، بالأسباب الخارجة عن تقديرهم وتدبيرهم وبغير أسباب لقادر على إحياء الأشياء الخارجة عن تقدير قدرتهم وتدبيرهم ، والله أعلم . وأما وجه الاحتجاج عليهم بعبادتهم غير الله ، فهو أن في ذلك تناقض ، وذلك أنهم قالوا : { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَىۤ } [ الزمر : 3 ] ، و { هَـٰؤُلاۤءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ ٱللَّهِ } [ يونس : 18 ] ، وكانت لا تشفع لهم في الدنيا ، ولا تقربهم الزلفى فيها في التوسيع والبسط ودفع الضيق ، وفي الآخرة لا يحتمل ؛ لأنهم كانوا لا يؤمنون ، فهو متناقض وسفه وسرف في القول . وهذه الآية وغيرها من الآيات تنقض على المعتزلة ؛ لأنهم لا يجعلون لله في مكاسب الخلق وحرفهم وتجاراتهم وجميع أسبابهم التي بها يرتزقون ويتعيشون صنعا ، وإنما يجعلون ذلك في الخارج من الأرض وغيرها ، فالناس في ذلك ، وتضيق إذا لم يكن له في تلك الأسباب والمكاسب صنع ؛ فدل أن له في ذلك صنعاً حتى يقع منه البسط والتوسيع والتضييق والتقتير ، والله أعلم . وقوله : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } يحتمل وجهين : أحدهما : ما ذكرنا : يكون للمؤمنين في ذلك آيات على الكفار . والثاني : لقوم ينتفعون بإيمانهم ، والمؤمنون هم المنتفعون بها ، فأما من كفر بها فلا ينتفع . وجائز أن يكون في ذلك العبرة من وجه آخر لقوم يؤمنون ، وهو ألا يعلقوا قلوبهم في الرزق بالأسباب التي يكتسبون بها ولكن يرون الرزق من الله أنه يرزق بأسباب وبغير أسباب . أو يذكر هذا لهم على أن من رفع الحاجة إلى آخر ، فلم يقضها : أن يرى حرمانها من الله ، لا من ذلك الرجل . وقوله : { فَآتِ ذَا ٱلْقُرْبَىٰ حَقَّهُ } . يحتمل قوله : { حَقَّهُ } أي : حاجته ، لا على حق كان له ، كقوله : { مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ } [ هود : 79 ] ، أي : من حاجة ؛ إذ معلوم أنه لم يكن لهم في بناته حق ، ولكن أرادوا بالحق الحاجة ، فعلى ذلك الأول ، وكذلك قوله : { وَٱلْمِسْكِينَ وَٱبْنَ ٱلسَّبِيلِ } : أي : سد المسكين حاجته ومسكنته ، وكذلك ابن السبيل . ويحتمل قوله : { فَآتِ ذَا ٱلْقُرْبَىٰ حَقَّهُ } : الحق الذي كان لهم ، لكن لم يبين ذلك الحق في هذه الآية ، وبين في آية أخرى ؛ كقوله : { كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْراً ٱلْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَٱلأَقْرَبِينَ بِٱلْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى ٱلْمُتَّقِينَ } [ البقرة : 180 ] ، وما ذكر من المواريث قوله : { يُوصِيكُمُ ٱللَّهُ فِيۤ أَوْلَٰدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ ٱلأُنْثَيَيْنِ … } الآية [ النساء : 11 ] ، ونحو ذلك من الحقوق . وحق المسكين وابن السبيل : ما ذكر من الصدقات والزكاة ، والله أعلم . وقوله : { ذَلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ ٱللَّهِ } . يحتمل قوله : { ذَلِكَ خَيْرٌ } ، أي : الإيتاء للأقربين والمساكين والفقراء خير من الأبعدين والأغنياء وغيرهم . أو أن يكون قوله : { ذَلِكَ خَيْرٌ } ، أي : ذلك الإيتاء إذا أريد به وجه الله - خير مما لا يراد به . وقوله : { وَٱبْنَ ٱلسَّبِيلِ } . اختلف فيه : قال بعضهم : هو المنقطع عن ماله يعان حتى يصل إلى ماله . وقيل : الضيف ينزل فيحسن إليه إلى أن يرجع ويرتحل . وجائز أن يكون قوله : { ذَلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ ٱللَّهِ } ، أي : آت من ليست له عندك نعمة ؛ فيكون ذلك ليس مكافاة لتلك النعمة ، ولكن على إرادة وجه الله ، والله أعلم . { وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } . قد ذكرنا أن الفلاح هو البقاء ، وقيل : النجاة . قال أبو عوسجة : { ٱلْقِيِّمِ } المستقيم ، { مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ } ، أي : تائبين ، { يَقْنَطُونَ } : ييئسون . وقوله : { وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَاْ فِي أَمْوَالِ ٱلنَّاسِ فَلاَ يَرْبُواْ عِندَ ٱللَّهِ } . قال عامة أهل التأويل : هذا في العطايا التي يعطي بعضهم بعضا ويهدون ؛ ليصيبوا أكثر مما أعطوا وأهدوا مجازاة ومكافأة لذلك ؛ كأنه يقول : وما آتيتم من عطية وهدية ؛ ليربو في أموال الناس لتزدادوا من أموال الناس ، ولتلتمسوا الفضل من أموالهم ، يقولون : هذا ربا حلال لا وزر فيه ولا أجر ؛ فهو مباح للناس عامة لا بأس به . وأما قوله : { وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ } [ المدثر : 6 ] فهو للنبي خاصة ، يقول : لا تعطه لتعطى أكثر منه ؛ ابتغاء الثواب في الدنيا ، ولكن أعط ابتغاء ثواب الآخرة . ويستدلون بإباحة ذلك بقوله : { فَلاَ يَرْبُواْ عِندَ ٱللَّهِ } ، يقول : لا يزداد ولا يتضاعف ذلك عند الله ، ولم يقل ما قال في الربا المحرم المحظور ؛ حيث قال : { يَمْحَقُ ٱللَّهُ ٱلرِّبَٰواْ وَيُرْبِي ٱلصَّدَقَٰتِ } [ البقرة : 276 ] : ذكر المحق وهاهنا ذكر : { فَلاَ يَرْبُواْ عِندَ ٱللَّهِ } ، أي : لا يزداد ولا يتضاعف . لكن لو قيل : إنها في الربا المحظور كان جائزا محتملا ، ويكون قوله : { فَلاَ يَرْبُواْ عِندَ ٱللَّهِ } كقوله : { فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ } [ البقرة : 16 ] : إنها إذا لم تربح خسرت ؛ ألا ترى أنه قال : { وَأُوْلَئِكَ هُمُ ٱلْخَاسِرُونَ } [ التوبة : 69 ] ؛ دل أنها إذا لم تربح خسرت ؛ فعلى ذلك قوله : { فَلاَ يَرْبُواْ عِندَ ٱللَّهِ } : إذا لم يرب عنده محقه وخسروا ، فهو - والله أعلم - لولا صرف أهل التأويل التأويل إلى الهدايا والعطايا التي يبتغى بها الثواب في الدنيا والمكافأة فيها أكثر مما أعطوا ؛ وإلا جاز صرفه إلى الربا المعروف بين الناس في العقود وكذلك روي في الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " الهدية يبتغى بها وجه الرسول ، وقضاء الحاجة والصدقة يبتغى بها وجه الله والدار الآخرة " . ثم بين ما الذي يربو عند الله ، وهو ما قال : { وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ ٱللَّهِ } . ثم اختلف فيه : منهم من قال : هو ما يزكون من زكاة المال ؛ يريدون به وجه الله ؛ فهو الذي يقبله الله ويضاعف عليه . ومنهم من قال : كل صدقة أعطاها ؛ أراد وجه الله ، لم يرد بها الثواب في الدنيا - فهي التي تتضاعف وتزداد عند الله . { فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُضْعِفُونَ } . وكان يجيء أن يقال : فأولئك هم المضعفون بنصب العين ؛ لأنه هو يضاعف لهم ، لكن الزجاج يقول : هو كما يقال : الموسر - هو الذي له يسار ، والمقوي - هو الذي له القوة ونحوه ؛ فعلى ذلك : المضعف هو الذي له الضعف . وعندنا : هم المضعفون ؛ لأنهم هم الذين جعلوا الآحاد عشرات والأضعاف المضاعفة ، بتصديقهم ابتغاء وجه الله ؛ فهم المضعفون لأنفسهم ذلك . ثم يجوز أن يستدل بهذه الآية على إباحة هذه المعاملات التي تجري فيما بين الناس ؛ لأنه أجاز الهدية والعطية على قصد الفضل والزيادة . وإن كان على شرط الزيادة لا يجوز ؛ فعلى ذلك المعاملة تجوز على قصد الزيادة ، والفضل ، وإن كان على قصد أولئك طلب الفضل لا محالة ، بل يكافئون مرة الأكثر ، ولا يكافئون بعضاً ويحرمون بعضاً ؛ فلا يكره ، وأما المعاملة فلا تكون إلا على قصد ذلك الفضل ؛ فلا يرضون منهم إلا حفظ المقصود فيها ، وأهل العطايا والهدايا قد يرضون بالثناء الحسن والشكر لهم ، وأهل المعاملة لا ، روي في بعض الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من أسدي إليه ؛ فليجازه وإلا فليشكره وليثن عليه " ، أو كلام نحو هذا . والثاني : أن أهل المعاملة يشترطون قبل المعاملة الزيادة ، وإن كانوا يشترطون في عقد المعاملة ، ولا كذلك أهل العطايا والهدايا ؛ بل يتعرضون تعريضاً ؛ لذلك افترقا ، والله أعلم .