Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 31, Ayat: 12-19)
Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله : { وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ ٱلْحِكْمَةَ } . قال بعضهم : الحكمة هي الإصابة في القول والفعل من غير نبوة . وقال بعضهم : أعطي الفهم واللب ، وقيل : الفهم والفقه في الدين ، وقيل : العلم ؛ كأنه يقول : أعطيناه العلم والفهم بالكتب المتقدمة . والفقه : هو معرفة الشيء بنظيره الدال على غيره ، أو معرفة ما غاب بما شهد ، أو معرفة الخفي الباطن بالظاهر ، ونحوه . والفلاسفة يقولون : الحكمة هي المعرفة مع العمل ، والحكيم : هو الذي له المعرفة والعلم والعمل جميعاً ؛ فحينئذ يسمى : حكيماً . وقوله : { أَنِ ٱشْكُرْ للَّهِ } . كأنه قال : { وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ ٱلْحِكْمَةَ } يحتمل الوجوه التي ذكرنا - وقلنا له : أن اشكر لله فيما أعطاك من الحكمة ، وغير ذلك من النعمة ، وهذا يدل أن لله فيما يكتسب المؤمن الحكمة والعلم صنعاً ؛ إذ لو لم يكن له [ لما كان ] لقوله : { آتَيْنَا } معنى ؛ إذ هو للعبد وكسبه ألا ترى أنه أمره أن يشكر له على ذلك ، ولو لم يكن له صنع في ذلك لكان لا يأمره بالشكر له على ما لا صنع له فيه ؛ إذ يخرج ذلك مخرج طلب الحمد والشكر على ما لم يفعل ، وقد ذم من أحب أن يحمد بما لم يفعل ؛ فلا يحتمل أن يأمر هو بالحمد والشكر على ما لم يفعل ولا صنع له في ذلك ؛ دل أنه له فيه صنعاً ، وهو ينقض على المعتزلة في قولهم : أن ليس لله في فعل العبد صنع ، والله أعلم . وقوله : { وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ } . هذا يدل أن ما يأمر عباده وينهاهم ، وفيما امتحنهم إنما يمتحنهم ويأمرهم وينهاهم ؛ لمنافع أنفسهم وحاجتهم ، لا لمنفعة نفسه أو لحاجته ؛ حيث قال : { وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ } ؛ حيث يتم تلك النعمة ويديمها له ؛ فهو بالشكر ينفع نفسه . من كفر فإنما ضرر كفره يلحقه دون الله ؛ ألا ترى أنه قال : { وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ } . أي : غني عن شكره وحمده ، حميد وإن لم يحمده أحد من خلقه ؛ لأنه غني بذاته ، حميد بصنائعه وآلائه وإن لم يحمد هو ولم يشكر على ذلك ، لا ينفعه شكر أحد ولا حمده ، ولا يضره كفران أحد ولا ترك الشكر له والحمد ، وبالله الحول والقوة . وقوله : { وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يٰبُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِٱللَّهِ إِنَّ ٱلشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } . يحتمل قوله : { إِنَّ ٱلشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } وجوهاً : أحدها : ظلموا أنفسهم ؛ حيث وضعوها في غير موضعها ، وأوقعوها في المهالك ، بعدما صورها أحسن تصوير ومثلها أحسن تمثيل ، وأعظم الظلم من عمل وسعى في هلاك نفسه . أو { لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } : ظلموا نعم الله ؛ حيث صرفوا شكرها إلى غير منعمها . أو ظلموا ظلماً عظيماً ؛ حيث لم يقبلوا شهادة وحدانية الله وألوهيته فيما جعلها في خلقتهم وبنيتهم ؛ إذ جعل في خلقة كل أحد الشهادة على وحدانيته وربوبيته ، وذلك أعظم الظلم وأفحشه . وقوله : { وَوَصَّيْنَا ٱلإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ } . ولم يذكر هاهنا بماذا وصاه ، فجائز الوصية بما ذكر في آية أخرى ؛ حيث قال : { وَوَصَّيْنَا ٱلإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً } [ العنكبوت : 8 ] و { إِحْسَاناً } [ البقرة : 83 ] ، والإحسان : هو اسم ما حسن من فعل . وقوله : { حُسْناً } : هو اسم ما حسن مما كان يفعله ، وهما واحد في الأصل . وقوله : { حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَىٰ وَهْنٍ } . أي : ضعفا على ضعف ، أي : كلما مضى عليها وقت ازداد فيها ضعف على ضعف ووجع على وجع ، أمر بالإحسان إليهما جميعاً ، ثم ذكر ما حملت الأم من المشقة والشدة ، ولم يذكر من الأب شيئاً ، وقد كان للأب وقت احتمال الأم المشقة - اللذة والسرور والفرح ؛ فجائز أن يقال : إن كان من الأب بإزاء تلك المشقة التي احتملت الأم معنى ما يؤمر أن يشكر له ويحسن إليه - وهو ما يتحمل من الإنفاق عليها وعليه في حال الرضاع ، وهو ما ذكر { وَعلَى ٱلْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِٱلْمَعْرُوفِ } [ البقرة : 233 ] ، وقوله : { فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } [ الطلاق : 6 ] أو ما جعله مطعوناً في الناس بحيث لم يعرف له نسب ينسب إليه ؛ بل جعله معروف النسب غير مطعون في الخلق ونحوه . ثم ذكر الفصال ولم يذكر الرضاع والمشقة في الإرضاع لا في الفصال ، لكنه ذكر تمام الرضاع وكماله ؛ إذ بالفصال يتم ذلك ويكمل ، وفي ذكر التمام له والكمال ذكر الرضاع ، وليس في ذكر الرضاع نفسه ذكر تمامه ؛ لذلك كان ما ذكر ، والله أعلم . وقوله : { أَنِ ٱشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ ٱلْمَصِيرُ } . أمر بالشكر له ولوالديه ، وحاصل الشكر راجع إليه دون من يشكر له ؛ إذ كل من صنع إلى آخر ما يستوجب به الشكر والثناء - فبالله صنع ذلك إليه وبنعمه كان منه ذلك ؛ فكل من حمد دونه أو شكر - فراجع إليه في الحقيقة ذلك . ثم يخرج قوله : { أَنِ ٱشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ } على وجهين : أحدهما : اشكر لي فيما تشكر والديك بإحسانهما إليك ؛ فإنهما ما أحسنا إليك إلا بفضلي ورحمتي ؛ كقوله : { فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ } [ البقرة : 200 ] ، أي : اذكروا الله فيما تذكرون آباءكم بصنعهم ؛ فإنهم إنما فعلوا ذلك بفضل الله . أو أن يكون قوله : { ٱشْكُرْ لِي } فيما أنعمت عليك ، { وَلِوَالِدَيْكَ } : فيما أحسنا إليك وربياك ، والله أعلم . وقوله : { إِلَيَّ ٱلْمَصِيرُ } : قد ذكرنا أنه خص ذلك المصير إليه ، وإن كانوا في جميع الأوقات صائرين إليه راجعين بارزين له ؛ لما المقصود من إنشائهم في هذا ذاك ، وصار إنشاؤهم وخلقهم في الدنيا حكمة بذاك ، ما لولا ذلك لكان عبثاً باطلا ، على ما ذكر ، والله أعلم . وقوله : { وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا } . أمر في الآية الأولى بالإحسان إليهما وبالبر لهما والطاعة ، ثم بين أن لا في كل أمر يطاعان ، ولا في جميع ما يأمران ويسألان يجابان ؛ إنما يطاعان ويجابان فيما يؤذن لهما ويباح لهما ، لا فيما لا يؤذن ولا يباح بحال ؛ بل يؤمر بالخلاف لهما واعتقاد المعاداة ، فضلا أن يطاعا ويجابا إلى ما يدعوان أو يأمران ، وكذلك ذكر في الخبر : " أن لا طاعة للمخلوق في معصية الخالق " وإنما أمر بحسن المصاحبة لهما والمعروف : فيما لم يكن في ذلك معصية الخالق ؛ حيث قال : { وَصَاحِبْهُمَا فِي ٱلدُّنْيَا مَعْرُوفاً } . وقوله : { وَٱتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ } . قال بعضهم : اتبع دين من أقبل إلى ورجع إلى طاعتي وهو النبي . أو أن يكون قوله : { وَٱتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ } ، أي : اتبع سبيلي وديني ؛ كقوله : { وَأَنَّ هَـٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَٱتَّبِعُوهُ } [ الأنعام : 153 ] ، فعلى ذلك الأول جائز أن يكون تأويله : اتبع سبيلي وديني ، ولا تتبع غيري ، [ واتبع ] سبيل من أناب ورجع إلي ، ولا تتبع سبيل من لم ينب ولم يرجع إلي . ثم أخبر برجوع الكل إليه : من رجع وأناب إليه ، ومن لم يرجع ولم ينب إليه ؛ على الوعيد حيث قال : { ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ … } الآية ، وهو كقوله : { لَّن يَسْتَنكِفَ ٱلْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً للَّهِ … } [ النساء : 172 ] إلى قوله : { فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعاً } [ النساء : 172 ] ، أي : من استنكف ومن لم يستنكف يحشر إليه جميعاً ؛ فعلى ذلك الأول ، والله أعلم . وقوله : { يٰبُنَيَّ إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ أَوْ فِي ٱلأَرْضِ يَأْتِ بِهَا ٱللَّهُ } . لا يحتمل أن يكون هذا الكلام والقول من لقمان كان لابنه ابتداء من غير سؤال كان في ذلك ؛ فيعلم أنه كان ذلك منه عن سؤال ، لكن لا نعلم ما كان السؤال ؟ وعم كان ؟ فإما أن كان السؤال عن علمه ، فأخبره بما ذكر من حبة مستترة التي ذكر ، مكنونة في أخفى الأمكنة عن الخلق ، فيما لا يطلع أحد منهم ولا يبلغه علم الخلائق { يَأْتِ بِهَا ٱللَّهُ } ، أي : يعلمها الله ؛ فإن كان على هذا [ الذي ] ذكر فيلزمهم أن يكونوا أبداً مراقبين أعمالهم وأحوالهم في جميع حالاتهم وأوقاتهم وجميع أمورهم ؛ لما لا يخفى عليه شيء . أو أن يكون السؤال عن قدرة الله وسلطانه ؛ فأخبر أن الله - تعالى قادر على استخراج تلك الحبة التي استترت واحتجبت عن الخلق بالحجب التي ذكر : ما يعجز الخلائق عن استخراج مثلها من مثل تلك الحجب والأمكنة ؛ فيخافون قدرة الله ، ويهابون سلطانه في الانتقام منهم في مخالفة أمره ونهيه . أو أن يكون السؤال عن الرزق فيخبر بهذا أن الشيء وإن كان في مكان لا يبلغه وسع البشر وحيلهم في استخراج ذلك منه والوصول إليه بحال - فالله سبحانه ؛ بلطفه يرزق الخلق بأشياء خارجة عن وسعهم وحيلهم ما لا يقع لهم الطمع في ذلك ؛ ليكونوا أبداً في كل حال مطمئنين في الرزق لا يؤيسهم عجزهم ولا تعذر حيلهم عن ذلك ، وألا يعلقوا قلوبهم في الرزق بالأسباب التي بها يكتسبون ؛ وكذلك قال : { وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ } [ الطلاق : 3 ] . أو أن يكون السؤال عن جزاء ما يعمل المرء من قليل أو كثير ومما عظم ولطف ، فيخبر أنه يجزي بقليل العمل وكثيره ، وكذلك يقول بعض أهل التأويل ذلك : { يٰبُنَيَّ إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ } : من خير أو شر ، { فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ } : في جبل ، { أَوْ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ أَوْ فِي ٱلأَرْضِ يَأْتِ بِهَا ٱللَّهُ } ، أي : يجازيها الله ؛ فيكون على هذا التأويل كقوله : { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ } [ الزلزلة : 7 ] ، فأي شيء كان ، ففي ذلك : دلالة وحدانية الله ، ودلالة علمه وتدبيره ، ودلالة قدرته وسلطانه ، ودلالة الثقة به ، والتوكل عليه في الرزق ، والتفويض في الأمر في كل ما خرج عن وسع الخلق ، والله أعلم . وقوله : { إِنَّ ٱللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ } . قال عامة أهل التأويل : إن الله لطيف في استخراج تلك الحبة ، خبير بمكانها ، وتأويل هذا الكلام : أي : يستخرج تلك الحبة من الحجب التي ذكر والأستار التي بين استخراجا لا يشعر بها أحد ، ولا علم كيفية الاستخراج منها ولا ماهيته . واللطيف : هو البار . ثم يخرج هو على وجهين : أحدهما : فيما أرسل من الرسول ، وما أنزل من الكتب ؛ ليدلهم إلى ما يهتدون وإلى ما به نجاتهم ، خبير بحوائجهم . والثاني : تأويل اللطيف يحتمل وجهين : أحدهما : البار على ما ذكرنا . والثاني : في استخراج أمور لا يبلغها وسع الخلق ولا علمهم وحيلهم ، والله أعلم . وقوله : { يٰبُنَيَّ أَقِمِ ٱلصَّلاَةَ } . يحتمل الأمر بإقامة الصلاة وجهين : أحدهما : الصلاة التي عرفتها العرب ، وهي المسألة والدعاء والثناء على الله والتحميد له والتمجيد ؛ كقوله : { إِنَّ ٱللَّهَ وَمَلاَئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ٱلنَّبِيِّ … } الآية [ الأحزاب : 56 ] . وهذه الصلاة المذكورة في هذه الآية هي الدعاء والاستغفار والرحمة له والمغفرة ؛ فعلى ذلك يشبه أن يكون الأمر بإقامة الصلاة هي الأمر بمسألة الرب حوائجه ومغفرته ورحمته ؛ ليكون أبداً في كل حال متضرعاً إلى الله ، مظهراً حاجته إليه ومثنيا عليه ، واصفاً عظمته وجلاله وكبريائه . والثاني : أراد به الصلاة المعروفة المعهودة على شرائطها التي جعلت وشرعت ؛ فإن كان هذا ففيها - أيضاً - ما في الأول من الدعاء والثناء على الله - تعالى - والوصف له بالعظمة والجلال ؛ لأنها جعلت من أولها إلى آخرها ذلك . وإن كان أراد بالصلاة ؛ الصلاة المعروفة ففيه أن الصلاة التي شرعت لنا كانت للأمم المتقدمة ، وعلى ذلك يخرج قول إبراهيم حيث قال : { رَبِّ ٱجْعَلْنِي مُقِيمَ ٱلصَّلاَةِ } [ إبراهيم : 40 ] وقول عيسى حيث قال : { وَأَوْصَانِي بِٱلصَّلاَةِ وَٱلزَّكَاةِ } [ مريم : 31 ] ، والله أعلم . وقوله : { وَأْمُرْ بِٱلْمَعْرُوفِ وَٱنْهَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ } . المعروف : اسم كل بر وخير وكل مستحسن في العقل والطبع . والمنكر : اسم كل شر وسوء مستقبح في العقل والطبع . ثم يخرج قوله : { وَأْمُرْ بِٱلْمَعْرُوفِ وَٱنْهَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ } على وجوه : أحدها : المعروف الذي جاءت [ به ] الرسل عن الله ، وشرعوه للخلق ، ودعوا [ إليه ] الخلق . والمنكر - أيضاً - : هو الذي أنكرته الرسل ، ونهت الخلق عنه . أو أن يكون المعروف هو الذي يقبله كل عقل صحيح ، ويستحسنه كل طبع سليم . والمنكر : هو الذي ينكره كل عقل صحيح ولا يقبله ، ويستقبحه كل طبع سليم ، يعرف بالبداهة قبحه وحسنه . أو يعرف أنه معروف أو منكر عند التأمل والتفكر ؛ فكله يرجع إلى واحد : إلى ما ذكرنا بدءاً ، لكنه يختلف فيما ذكرنا من السبب . وقوله : { وَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَآ أَصَابَكَ } . من الأذى بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أهل السفه منهم والفسق ؛ فلا بد من أن يصيب الأذى من تولى ذلك ، وهذا يدل أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من اللوازم : لا يسع تركه ، وإن أصابه الأذى في ذلك . وقوله : { إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ ٱلأُمُورِ } . قال بعضهم : إن ذلك من حزم الأمور ، والحزم : من إحكام الشيء وإتقانه ؛ كأنه يقول : إن ذلك من محكم الأمور ومتقنها ؛ لأن الشيء إذا حزم وشدد يؤمن عن سقوطه وذهابه ؛ فعلى ذلك ما ذكر . وقال : العزم : هو القطع والثبات على شيء ، تقول : عزمت على كذا وعلى أمر كذا : إذا قطع تدبيره ورأيه واضطرابه ، وجعله بحيث لا يرجع ولا يتحول عنه للدنيا ، أو لأمر من أمورها ؛ ولكن ثبت على ما عزم وقطع ؛ فهو العزم ، والله أعلم . وقوله : { وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلاَ تَمْشِ فِي ٱلأَرْضِ مَرَحاً } . قوله : ولا { تصاعر } و { وَلاَ تُصَعِّرْ } ، بالألف وبغير الألف ، كلاهما لغتان . ثم أهل التأويل أو أكثرهم يقولون : قوله : { وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ } ، أي : لا تعرض وجهك عن الناس ؛ تعظماً وتجبراً وتكبراً ، وكذلك في قوله : { وَلاَ تَمْشِ فِي ٱلأَرْضِ مَرَحاً } : بطرا فرحا بالمعصية في الخيلاء والعظمة ، مستكبراً جباراً ، عامتهم يفسرونه بالإعراض للتكبر والتجبر ، وكذلك يقول الحسن : إنه قال : هو الإعراض عن الناس من الكبر ؛ استحقارا لهم واستخفافا بهم . والزجاج يقول : الصعر : هو داء يأخذ البعير ؛ فيلوي عنقه ؛ فعلى تأويله يكون قوله : { وَلاَ تُصَعِّرْ } ، أي : لا تلو عنقك عن الناس . وأبو عوسجة يقول قريباً من ذلك ؛ يقول : { وَلاَ تُصَعِّرْ } ، أي : لا تتجبر ، وهو أن تلوي عنقك ؛ فلا تنظر إليهم كبرا . ويقول : الصعر : هو اعوجاج في العنق ؛ يقال : رجل أصعر ، وبعير أصعر ، وبه صعر ، ويقال في الكلام : فلان صعر خده ؛ إذا لوى رأسه عن الناس ؛ فلم ينظر إليهم ؛ كبرا منه . وقال - كما قال الزجاج - : إن الصعر داء يأخذ البعير ؛ فيلوي عنقه ، وأصله : الإعراض ؛ على ما ذكره أهل التأويل وأهل الأدب . ثم هو يخرج على وجهين : أحدهما : ما ذكر أهل التأويل من حقيقة الإعراض ؛ تكبراً وتعظيماً لأنفسهم ، [ و ] استخفافا بالناس واستحقارا لهم ؛ لما لم يروا الناس أمثالا لأنفسهم ؛ وعلى ذلك يخرج قوله : { وَلاَ تَمْشِ فِي ٱلأَرْضِ } على حقيقة المشي على التكبر والتجبر ، على ما ذكرنا . والثاني : ليس على حقيقة الإعراض بالوجه عنهم ، ولا على حقيقة المشي بالأقدام ؛ ولكنه كناية عن الامتناع عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والترك لذلك ، لا على التكبر والتجبر عليهم والاستخفاف بهم ، ولكن على الحذر والخوف منهم . فإن كان الامتناع والإعراض عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر - فلم يعذروا في ترك ذلك ؛ لما يحذرون ويخافون منهم . وكذلك يخرج قوله : { وَٱقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَٱغْضُضْ مِن صَوْتِكَ } على الوجهين اللذين ذكرناهما : أحدهما : على الأمر بقصد المشي وخفض الصوت : حقيقة المشي وحقيقة الصوت . والثاني : على الكناية عن كيفية المعاملة وماهيتها فيما بين الناس . فإن كان على حقيقة المشي والصوت ، فكأنه يقول : أي اقصد في المشي في الناس ، ولا تمش متكبرا مستخفا بهم ؛ لتؤذيهم ، { وَٱغْضُضْ مِن صَوْتِكَ } ، أي : لا ترفع صوتك فوق أصواتهم فتؤذيهم بالصوت ، ولكن لينهم بالقول . وقال بعضهم : امش هيناً لينا ، ناكس الرأس ، ناظراً حيث تمشي ، غير ناظر إلى ما لا يحل ولا يسع ، ولا رافع صوتك على الناس فتؤذيهم ؛ فيكون صوتك عندهم كصوت الحمير الذي ذكر ؛ فينكرونه كما ينكر صوت الحمير . وإن كان على الكناية عن الأحوال في المعاملة فيما بين الناس في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، أي : مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر ، ولا تطلبوا لأنفسكم في ذلك العلو والرفعة ونفاذ القول وقبوله ؛ ولكن كونوا في ذلك عادلين قاصدين غير طالبين العلو والرفعة ونفاذ القول وقبوله . وقوله : { إِنَّ أَنكَرَ ٱلأَصْوَاتِ لَصَوْتُ ٱلْحَمِيرِ } . يحتمل وجهين : أحدهما : ما ذكرنا ، أي : لا ترفع صوتك على الناس فتؤذيهم كما يؤذي الحمار ؛ فيكون صوتك عليهم كصوت الحمار . أو يذكر هذا ؛ لأن الحمار إنما يصيح لحاجة لنفسه وشهوته ، وسائر الأشياء إذا صاحوا إنما يصيحون لحاجة أهلها ؛ فيذكر أنكم إذا أمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر لا تفعلوا لمنفعة أنفسكم أو لحاجتكم ؛ ولكن قوموا لله في ذلك أو لما ذكرنا . أو خصّ صوت الحمير ؛ لأنه ليس من صوت إلا وفيه لذة ومعونة ، غير صوت الحمير ؛ فإنه ليس فيه لذة ولا منفعة . أو ذكر ؛ لما قيل : إن أوله زفير وآخره شهيق ؛ فيشبه زفير أهل النار وشهيقهم . وقوله : { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ } . قال : المختال : المتكبر البطر . وقال بعضهم : المختال : الخداع الغدار ، والفخور : يحتمل الذي يفتخر بكثرة المال ؛ أو لما لا يرى أحداً شكلا لنفسه .