Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 33, Ayat: 21-27)
Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله : { لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ ٱللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } . قال بعضهم : ذلك حيث كان يباشر القتال بنفسه ، فباشروا معه القتال [ فمن باشر معه القتال ] أساه بأسوة حسنة ، ومن لم يفعل فلم يواسه . وابن عباس يقول : { أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } ، أي : سنة صالحة أو نحوه . مثل هذا إنما يذكر عن زلات تكون إما من المنافقين أو من المؤمنين ، فيقول : لكم في التأسي برسول الله الاقتداء والقدوة به ، فهو يخرج على وجوه : أحدها : أي : لقد كان لكم في رسول الله قبل أن يبعث رسولا ، وقبل أن يوحى إليه فيما عرفتموه من حسن خلقه وكرمه وشرفه وأمانته - أسوة حسنة ؛ فكيف تركتم اتباعه إذا بعث رسولا ؟ ! والثاني : { لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ } ، أي : صار لكم { فِي رَسُولِ ٱللَّهِ } إذا بعث رسولا { أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } : فيما أنزل إليه وأوحي إليه ، وفيما شاهدتموه من حسن خلقه وكرمه ؛ فالواجب عليكم أن تتأسوا به . والثالث : لقد كان لكم بالمؤمنين أسوة استوائهم لو اتبعتم ما شرع لكم رسول الله وسن . أو الأسوة : هي الاستواء ؛ كقول الناس : " فلان أسوة غرمائه " ، أي : يكون المال بينهم على الاستواء ، هذا - والله أعلم - يشبه أن يكون تأويل الآية . وقوله : { لِّمَن كَانَ يَرْجُواْ ٱللَّهَ وَٱلْيَوْمَ ٱلآخِرَ } . قال بعضهم : يكون في رسول الله أسوة لمن خاف الله وآمن باليوم الآخر وبجزاء الأعمال ، فأما المنافق والذي لا يؤمن بالبعث ، فلا يكون فيه أسوة له . وجائز أن يكون قوله : { لِّمَن كَانَ يَرْجُواْ ٱللَّهَ } ، أي : لقد كان لكم أسوة حسنة ، ولمن كان يرجو الله واليوم الآخر . أو أن يكون لكم في رسول الله أسوة حسنة ، وفيمن كان يرجو الله واليوم الآخر ، والله أعلم . وقوله : { وَذَكَرَ ٱللَّهَ كَثِيراً } . ذكر الله يحتمل في نعمته وإحسانه ، يذكر بالشكر له وحسن الثناء ، أو يذكر سلطانه وملكه أو جلاله وعظمته وكبرياءه ، والله أعلم . وقوله : { وَلَمَّا رَأَى ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلأَحْزَابَ قَالُواْ هَـٰذَا مَا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ } . حيث أخبرهم أنكم ستلقون كذا في قوله : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ ٱلْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ ٱلْبَأْسَآءُ وَٱلضَّرَّآءُ } [ البقرة : 214 ] : قالوا لما عاينوا ما وعد لهم وأخبرهم : { هَـٰذَا مَا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ } فيما أخبرنا من الوحي قبل أن يكون وقبل أن نلقاه . { وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً } . أي : ما زادهم إلا إيماناً ما رأوا وعاينوا ، فيما وعد وأخبر ، إلا إيماناً وتصديقاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم في وعده وخبره . وقال قائلون : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وعد لهم وأخبر : أن يوم الخندق تكون من الأحزاب كذا والجنود كذا ، وإنكم ستلقون يومئذ كذا ، فلما رأوا ذلك وعاينوه قالوا عند ذلك : { هَـٰذَا مَا وَعَدَنَا ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً } وتصديقاً لرسول الله ؛ لأن ذلك آية وحجة لرسالته ؛ فهو يزيدهم تصديقاً له . وقوله : { وَتَسْلِيماً } ، أي : تسليماً لأمر الله وتفويضاً له . وقيل : وما زادهم بما أصابهم يوم الخندق إلا إيماناً وتصديقاً إلى تصديقهم الأول ، ويقيناً إلى يقينهم الأوّل ، وتسليماً لأمر الله ؛ لأن ذلك الأمر كان قضي عليهم أن يصيبهم ، فسلموا لله أمره ؛ فصبروا عليه ، وأصله ما ذكرنا ، والله أعلم . وقوله : { مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيْهِ } . قوله : { مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } يخرج على وجهين : أحدهما : { مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } - الذين هم عندكم مؤمنون - { رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيْهِ } ، ورجال لم يصدقوا وهم المنافقون ؛ لأن ظاهر هذا الكلام يدل على أن من المؤمنين الذين هم في الظاهر عندهم مؤمنون لم يصدقوا ، فأما من كان في الحقيقة مؤمناً فقد صدق عهده . والثاني : ذكر { مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } ؛ خصّ بعض المؤمنين بصدق ما عاهدوا وهم الذين خرجوا لذلك : لم يكن بهم عذر فوفوا ذلك العهد ؛ وتخلف بعض من المؤمنين ؛ للعذر ؛ فلم يتهيأ لهم وفاء ذلك العهد لهم وصدقه ؛ وكذلك يخرج قوله : { فَمِنْهُمْ مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ } ، أي : وفي بعهده . { وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِر } . بالوفاء أن يرتفع عنه العذر ؛ فبقي ذلك ، والله أعلم . ثم قوله : { فَمِنْهُمْ مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِر } : وفاءه . وقال بعضهم : { مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ } ، أي : هلك عليه ، { وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِر } ذلك ، أي على شرف الهلاك . وقوله : { وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً } . هذا يقوي التأويل الذي ذكرنا : أخبر في قوله : { مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيْهِ } : أن الذين خلفهم العذر فلم يوفوا عهده ، والذين لا عذر بهم ، فخرجوا فوفوا كلهم لم يبدلوا عهد الله تبديلا ؛ لأنه إنما خلفهم العذر ؛ فلم يكن في ذلك تبديل . وقوله : { لِّيَجْزِيَ ٱللَّهُ ٱلصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ } على ما وفوا ، { وَيُعَذِّبَ ٱلْمُنَافِقِينَ إِن شَآءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } : هذا يدل أن من المنافقين من قد يتوب ؛ حيث قال : { وَيُعَذِّبَ ٱلْمُنَافِقِينَ إِن شَآءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } ، ويعذب الذي مات على نفاقه . { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً } ، أي : لم يزل غفوراً رحيماً ، حيث رحمهم ، ولم يأخذهم وقت ارتكابهم الجرم ، ولكن أمهلهم ، والله أعلم . وقوله : { وَرَدَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِغَيْظِهِمْ } ، أي : ردّ كفار مكة يوم الخندق ، { لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً } . قال بعضهم : أي : غنيمة ، أي : ردهم بغيظهم ، لم يصيبوا شيئاً من الغنيمة ؛ فإن كان المراد من الخير : الغنيمة ، فجائز أن يستدل على تملك أهل الحرب أموال المسلمين إذا أحرزوها ، حيث قال : { لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً } ، أي : مالا . وجائز أن يكون قوله : { لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً } ، أي : سرورا بما كانوا يأملون ويطمعون هلاك المؤمنين على أيديهم ، لما أحاطوا بهم وضيقوا عليهم الأمر ؛ حتى احتاجوا إلى الخندق ؛ فكانوا في أيديهم . يقول : إنهم لم ينالوا ذلك السرور الذي كانوا يأملونه ويرجونه ، والله أعلم . وقوله : { وَكَفَى ٱللَّهُ ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱلْقِتَالَ } . حيث بعث عليهم الريح وسلط عليهم الملائكة ؛ حتى هزموهم حتى كفوا القتال والحرب معهم . { وَكَانَ ٱللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً } . أي : كان الله لم يزل قويّاً عزيزاً ؛ لأنه قوي بذاته عزيز بذاته لا يلحقه ذل ، وإن لحق أولياءه الذل والضعف ، ليس كملوك الأرض إذا ذهب أصحابهم أو دخل فيهم ذل وضعف ؛ ذلّ ملكهم ؛ لأنه عزيز بجنده وحشمه ، فأمّا الله - سبحانه - [ فهو ] قوي بذاته ، عزيز بذاته ، لا يلحقه ذل ولا ضعف بذهاب أوليائه . وقال بعضهم في قوله : { رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيْهِ } : كان رجال فاتهم يوم بدر ؛ فقالوا : لئن حضرنا قتالا ، لنفعلن ولنفعلن ، فلما كان يوم الأحزاب قاتلوا ؛ فذلك قوله : { مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ } ، أي : مات على ما عاهد الله عليه ، { وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ } : يوما آخر يكون فيه قتال ؛ فيقاتل على ما عاهد الله عليه ، { وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً } . وفي حرف أبي : { ومنهم من بدل } ؛ فيرجع ذلك إلى المنافقين الذين ذكرنا بدءاً . وقال القتبي قوله : { إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ } ، أي : خالية ، وأصل العورة : ما ذهب عنه الستر والحفظ ؛ فكأن الرجال ستر وحفظ للبيوت ؛ فإذا ذهبوا ، أعْوَرَتِ البيوت ؛ تقول العرب : أعور المنزل ، أي : ذهب ستره ، أو سقط جداره ، وأعور الفارس : إذا بدا فيه موضع خلل للضرب بالسيف . يقول الله - تعالى - { وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ } ؛ لأن الله حافظها ، ولكن يريدون الفرار . وقوله : { وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِّنْ أَقْطَارِهَا } ، أي : من جوانبها ، { ثُمَّ سُئِلُواْ ٱلْفِتْنَةَ } ، أي : الكفر ، { لآتَوْهَا } ، أي : أعطوها من أرادها ، { وَمَا تَلَبَّثُواْ بِهَآ إِلاَّ يَسِيراً } ، أي : بالمدينة . ومن قرأها : { لآتَوْهَا } - بغير مدّ - أراد : لصاروا إليها . وقال أبو عوسجة : قولهم : { إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ } : من ناحية العدو ، والعورة : الموضع الذي يخاف منه . وقوله : { أَقْطَارِهَا } ، أي : من نواحيها ، الواحد : قطر ، { ثُمَّ سُئِلُواْ ٱلْفِتْنَةَ } ، أي : عرضت عليهم ، وهو الكفر . وقال القتبي : { سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ } ، يقول : آذوكم بالكلام ، يقال : خطيب مِسْلَق وسلاق . وفيه لغة أخرى : { صلقوكم } بالصاد : وهو الضرب . أبو عوسجة يقول قريباً منه : { سَلَقُوكُمْ } ، أي : كلموكم وضربوكم { بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ } ، أي : طوال ، والسلق : الضرب ، والخاطب : السلاق والمسلاق من هذا ، وهو طول اللسان والجرأة على الكلام . وقوله : { لاَ مُقَامَ لَكُمْ } بنصب الميم لا يكون إلا من القيام ، و { لاَ مُقَامَ لَكُمْ } برفع الميم يكون من الإقامة ، وهو قول أبي عوسجة . وأبو عبيدة يقول : { لاَ مُقَامَ لَكُمْ } ، أي : ليس لكم مقام تقومون فيه ، و { لاَ مُقَامَ } ، أي : لا إقامة لكم . وقال أبو عوسجة : المقامة : المجلس ، ومقامات - جمع المقام - : موضع القدمين ، والمقام : الموضع الذي يقيم فيه الرجل . وقال : { ٱلْمُعَوِّقِينَ } ، قال : المتعوق : المحتبس ، والمعوق : الذي يعوق غيره ، أي : يحبس . وقوله : { أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ } ، أي : حراصاً على ما نالكم من الشر ، الواحد : شحيح ، يقال : شح يشح شحّاً ؛ فهو شحيح ، أي : حرص يحرص حرصا ؛ فهو حريص . وقال غيره : { أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ } ، أي : بخلاء ، لا ينفقون عليكم أو في سبيل الله . وقال بعضهم : { يَحْسَبُونَ ٱلأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُواْ } ؛ من شدة الفرق ؛ فهم هؤلاء المعوقون : اليهود أو المنافقون ، { وَإِن يَأْتِ ٱلأَحْزَابُ } : والأحزاب : هم الفرق أعداء رسول الله وأصحابه ، { يَوَدُّواْ لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي ٱلأَعْرَابِ } ، يقول : خارجون في الأعراب من الرهبة ، { يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَآئِكُمْ } : يسألون عن خبر المؤمنين ساعة بعد ساعة ؛ جزعاً ورهبة ، يقول الله للمؤمنين : { وَلَوْ كَانُواْ فِيكُمْ } أي : معكم عند القتال هؤلاء الذين تقدم ذكرهم { مَّا قَاتَلُوۤاْ إِلاَّ قَلِيلاً } رميا بالحجارة ؛ من ضعفهم وفرقهم ، أو ما ذكرنا ؛ دفعاً عن أنفسهم ، وأمّا غيره فلا . وقوله : { وَأَنزَلَ ٱلَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ } . ذكر في القصة : " أن اليهود : يهود بني قريظة ظاهروا أبا سفيان وأصحابه على رسول الله وعلى المؤمنين ، ونقضوا العهد الذي كان بينهم وبينه ، فلما انهزم المشركون تحصن بنو قريظة في حصونهم ، ورجع النبي إلى المدينة ، فجاءه جبريل ، فقال له : " يا محمد ، والله ما وضع أهل السماء أسلحتهم ، وقد وضعتم أنتم أسلحتكم ، اخرج إلى بني قريظة ؛ فقال له النبي : " فكيف أصنع بهم وهم في حصنهم ؟ " قال : اخرج إليهم ؛ فوالله لأدقنهم بالخيل والرجال كما تدق البيضة على الصفا ، ولأخرجنهم من حصنهم ؛ فنادى رسول [ الله ] في الناس ، وأمر بالخروج إلى بني قريظة ؛ فخرجوا فحاصروهم كذا كذا ليلة ؛ حتى صالحهم على حكم سعد بن معاذ ؛ فنزلوا على حكمه ؛ فحكم سعد ؛ أن يقتل مقاتلتهم ، ويسبى ذراريهم ونساؤهم ، فقيل : إن رسول الله قال يومئذ : " يا سعد ، لقد حكمت بحكم الله " ؛ فأخرجت المقاتلة فقتلوا ، وسبوا ذراريهم ، وقسم أرضهم بين المهاجرين ؛ فقال قومه والأنصار : آثرت المهاجرين بالعقار دوننا ، فقال : " إنكم ذوو عقار وإن القوم لا عقار لهم " ، أو كلام نحو هذا ، فذلك قوله : { وَأَنزَلَ ٱلَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ } ، يعني الذين ظاهروا أبا سفيان والمشركين جميعاً على رسول الله وأصحابه ، { مِن صَيَاصِيهِمْ } ، أي : من حصونهم . { وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ } ، وهم المقاتلة ، { وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً } ، وهم النساء والذراري . { وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَّمْ تَطَئُوهَا } ، أي : لم تملكوها ، اختلف في قوله : { وَأَرْضاً لَّمْ تَطَئُوهَا } : قال بعضهم : هي أرض مكة . وقال بعضهم : هي أرض الشام وقراها . وقال بعضهم : هي أرض خيبر ، أي : سيورثكم الله إياها : فأما أرض مكة فقد فتحها وتركها في أيدي أهلها ، وكذلك بلاد الشام وقراها . وعن الحسن : هي أرض الروم وفارس وما فتح الله عليكم . وأما خيبر فقد فتحها وقسمها بين من ذكرنا وجعلها فيئاً ؛ فهو أشبه من غيره ؛ ففيه أن من يخلف في ملك غيره وصفا ملكه للآخر وانتقل إليه يسمى : وارثاً بموت أو بغيره ؛ حيث قال : { وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ . … } الآية ، وكذلك ما قال : { وَأَوْرَثَنَا ٱلأَرْضَ … } [ الزمر : 74 ] إلى كذا ، وقوله : { يَرِثُونَ ٱلْفِرْدَوْسَ } [ المؤمنون : 11 ] ، أي : يبعثون فيها ، ونحوه ، وكقوله : { وَللَّهِ مِيرَاثُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } [ آل عمران : 180 ] ، أي : يبقى [ له ] ملك السماوات والأرض ، أي : لا ينازع فيه . وكذلك يخرج قوله : { إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ ٱلأَرْضَ } [ مريم : 40 ] أي : نبقى فيها ، والخلائق يفنون . ثم الفائدة في ذكر هذا وأمثاله لنا ، إذ هم قد شاهدوها وعاينوها ، يخرج على وجوه : أحدها : تعريف لآخر هذه الأمة أن أوائلهم ما قاسوا وما تحملوا من الشدائد والبلايا في أمر هذا الدين ، حتى بلغ هذا المبلغ ؛ فنجتهد نحن كما اجتهد أولئك في حفظ هذا الدين وفي أمره . والثاني : أمرهم بالتأهب مع العدوّ حتى أمروا بالخندق والتحصن بأشياء ، ثم جاءهم الغوث من الله بغير الذي أمروا ؛ ليكونوا أبداً متأهبين مستعدين لذلك ، ولا يرجون النصر والظفر من ذلك الوجه ، وذلك بفضل الله ونصره ، على ما أخبر عنهم : { وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً … } الآية [ التوبة : 25 ] . والثالث : ألا يؤيسهم خروج أنفسهم من أيديهم ، وإحاطة العدو بهم ، وكونهم في أيديهم من روح الله ورحمته وغوثه إياهم ؛ لأن الخوف قد بلغ بهم المبلغ الذي ذكر ؛ حيث قال : { وَبَلَغَتِ ٱلْقُلُوبُ ٱلْحَنَاجِرَ … } إلى قوله : { وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً } . وفيه دلالة إثبات الرسالة لرسول الله ؛ لأنه وعد لهم النصر ، فكان على ما وعد ؛ ليعرفوا [ صدقه ] في كل ما يخبر ويعد . { وَكَانَ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ } ، أراد : من فتح ، أو نصر ، أو غيره ، { قَدِيراً } . وقال القتبي وأبو عوسجة : { قَضَىٰ نَحْبَهُ } ، أي : قتل ، وقضى أجله ، وأصل النحب : النذر ؛ كأن قوماً نذروا : إن لقوا العدو أن يقاتلوا حتى يقتلوا أو يفتح الله ، فقتلوا . وقوله : { مِن صَيَاصِيهِمْ } : حصونهم ، وأصل الصياصي : قرون البقر ؛ لأنها تمتنع بها ، وتدفع عن أنفسها ، فقيل للحصون : صياصي ؛ لأنها تمنع ، والواحدة : صِيصِيَة ، وصيصية الديك : عرفه ، والصيصية : خف صغير يحوك به الحائك ، ويجمع هذا كله : صياصي . والأحزاب : الفرق ، واحدها : حزب ، ويقال : حزبت القوم ، أي : جمعتهم ، وحزبتهم ، أي : فرقتهم ، وتحزب القوم : إذا اجتمعوا وصاروا حزباً حزباً ، وتقول : هؤلاء حزبي ، أي : أصحابي وشيعتي ، وتقول : حازبني محازبة ، أي : صاحبني مصاحبة . وقوله : { بَادُونَ فِي ٱلأَعْرَابِ } ، أي : أن يكونوا في البادية مع الأعراب ، رجل باد : قد نزل البادية ، { يَوَدُّواْ } [ الأحزاب : 20 ] أن يكونوا في البادية مع الأعراب . وقال بعضهم في قوله : { وَأَرْضاً لَّمْ تَطَئُوهَا } : هو ما يظهر عليه المسلمون إلى يوم القيامة .