Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 33, Ayat: 28-34)

Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله : { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا وَزِينَتَهَا } . قال بعض أهل التأويل : إنهن جلسن ، فجعلن يخترن الأزواج في حياة رسول الله ، فنزلت الآية توبيخاً لهن وتعييراً على ذلك . لكن هذا بعيد محال : لا يحتمل أن يكون أزواجه يخترن الأزواج ، وهن تحته في حياته ؛ فذلك سوء الظن بهن . وقال بعضهم : إنهن طلبن النفقة منه ؛ فنزل ما ذكر . وقيل : إنهن تحدثن بشيء من الدنيا وركنَّ إليها ؛ فنزل ما ذكر عتاباً لهن وتعييراً ، ونحو ذلك قد قالوا . وجائز أن يكون الله يمتحن رسوله وأزواجه بالتخيير واختيار الفراق منه - ابتداء امتحان من غير أن يكون منهن شيء مما ذكروا ولا سبب ؛ وعلى ذلك روي في الخبر عن عائشة - رضي الله عنها - قالت : " لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتخيير أزواجه ؛ بدأ بي فقال : " يا عائشة ، إني ذاكر لك أمراً ، فلا عليك ألا تستعجلي حتى تستأمري أبويك " ، قالت : وقد علم الله أن أبويّ لم يكونا ليأمراني بفراقه ، قالت : ثم قال : " إن الله يقول : { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا وَزِينَتَهَا … } إلى قوله : { أَجْراً عَظِيماً } ؛ فقلت أفي هذا أستأمر أبويّ ؟ ! فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة . وفعل سائر أزواجه مثل ما فعلت " . وفي بعض الأخبار أنها قالت : " بل أختار الله ورسوله والدار الآخرة " ؛ فدل قولها : " لما أمر رسول الله بتخيير أزواجه " : أن ذلك من الله ابتداء امتحان ، من غير أن كان منهن ما ذكروا من الركون إلى الدنيا والتحدث بما ذكر . وفيه وجوه من الدلالة : أحدها : إباحة طلب الدنيا وزينتها من وجه يحل ويجمل ، حيث قال : { فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً } ؛ لأنه لو لم يكن يحل ذلك لهن ، وكن منهيات عن ذلك ، لكان رسول الله لا يفارقهن ؛ حتى لا يخترن المنهي من الأمر ، وقد كان يملك حبسهن في ملكه ؛ حتى لا يخترن ما ذكره من المنهي ؛ دل ذلك - والله أعلم - أن ذلك كان على وجه يحل ويجمل . وفيه أن رسول الله لم يكن عنده ما ذكر من الدنيا والزينة وما يستمتع بها ؛ إذ لو كان عنده ذلك ، لم يحتمل أن يخيرهن بالفراق منه لما ذكر وعنده ذلك ، ولا هن يخترن الفراق منه وعنده ذلك ؛ دل أنه لم يكن عنده ما ذكر ، ويبطل قول من يقول : إنه كان عنده الدنيا ويفضل الغناء على الفقر بذلك . وفيه دلالة : أن أزواجه كن يحللن لغيره في حياته إذا فارقنه ؛ لأنهن إذا لم يحللن لغيره لم يكن لقوله : { فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً } معنى ؛ لأنهن إذا لم يحللن لغيره ، وعندهن ما ذكر من الدنيا ، يحملهن ذلك على الفجور ؛ فدل أنهن كن يحللن لغيره في حياته إذا فارقهن ، وإنما لم يحللن لغيره إذا مات ؛ فيكون له حكم الحياة كأنه حيّ في حق أزواجه . ويخرج قوله : { خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ ٱلْمُؤْمِنِينَ } : في الآخرة لا تحل لغيره ؛ فتكون زوجته في الجنة . ثمّ اختلف الصحابة - رضي الله عنهم - فيمن خير امرأته فاختارت : قال بعضهم : إذا خيرها فهو تطليقة رجعية ، وإذا اختارت فهي بائنة ، وهو قول عليّ . وقال بعضهم : إذا اختارت نفسها فهي ثلاث ، وإذا اختارت زوجها فلا شيء . وقال بعضهم : إذا اختارت زوجها ، فهي تطليقة رجعية ، وإن اختارت نفسها فهي تطليقة بائنة . وعندنا : أن التخيير نفسه لا يكون طلاقاً ، فإن اختارت زوجها ، لا شيء ، وإذا اختارت نفسها ؛ فهي بائن . أما قولنا : إذا اختارت زوجها لا شيء ؛ لما روي عن عائشة قالت : " خيرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاخترناه " فلم يعد ذلك طلاقا . وأما قوله : إذا اختارت نفسها فيكون بائنا ؛ لأنه خيرها بين أن تختار نفسها لنفسها وبين أن تختار نفسها لزوجها ؛ فإن اختارت نفسها [ لنفسها ] فهي بائن ؛ لأنا لو جعلناه رجعيّاً لم يكن اختيارها نفسها لنفسها ، ولكن لزوجها ؛ إذ لزوجها أن يراجعها شاءت أو أبت ، وكان التخيير بين النفسين ، على ما ذكرنا . وأما قول من يقول بأن نفس التخيير طلاق فهو باطل ؛ لما ذكرنا من تخيير رسول الله أزواجه ؛ فلم يكن ذلك طلاقاً . وأما من قال بالثلاث إذا اختارت نفسها فهو كذلك عندنا إذا ذكر في التخيير الثلاث . وأما قول من قال بالرجعي ، فهو إذا صرح بالتطليق ؛ فهو كذلك ، والله أعلم . وقوله : { إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا وَزِينَتَهَا } : الإرادة هاهنا : إرادة الاختيار والإيثار حياة الدنيا وزينتها ، لا ميل القلب والرضاء به ، وكذلك قوله : { وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَٱلدَّارَ ٱلآخِرَةَ } . هو إرادة الاختيار والإيثار ، وهو ما يراد ويختار فعلا ، لا ميل القلب والرضاء به ؛ لأن كل ممكن فيه الشهوة مجعول فيه هذه الحاجة يميل قلبه ، ويركن إلى ما يتمتع بحياة الدنيا ولذاتها ، ويرضاه ويحبه ؛ فدل أنه أراد إرادة الفعل والاختيار لا إرادة القلب ورضاه . ثم فيه ما ذكرنا من حلهن لغير رسول الله إذا اخترن الفراق منه ؛ لما ذكر أنه يمتعهن ومعلوم أنهن لا يكتسبن بأنفسهن حتى يتمتعن بذلك ، ولم يكن عندهن ما يستمتعن ؛ فدل أنه إنما يمتعهن بأموال أزواجهن ؛ فدل على حلهن لغيره في حياته إذا فارقنه والله أعلم . وقوله : { وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَٱلدَّارَ ٱلآخِرَةَ } . معلوم أنهن إذا اخترن الحياة الدنيا وزينتها لا يحتمل ألا يردن الله ، لكن إضافة ذلك إلى الله لاختيارهن المقام عند رسوله ؛ فيدل ذلك أن كل ما أضيف إلى الله ورسوله كان المراد به رسوله ؛ نحو ما قال : { فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ } [ الأنفال : 41 ] ، وقوله : { قُلِ ٱلأَنفَالُ لِلَّهِ وَٱلرَّسُولِ } [ الأنفال : 1 ] ، وأمثال ذلك . ثم الزهد في الدنيا يكون بوجهين : أحدهما : ترك المكاسب التي توسع الدنيا ، ويكون بها السعة في الدنيا ، ويؤثرها لغيرها على نفسه ، واختيار حال الضيق من غير تحريم ما أحل وطيب له . والثاني : بذل ما عنده لغيره وإيثاره على نفسه وجعله أولى به منه ، لا في تحريم المحللات والطيبات . وقوله : { فَإِنَّ ٱللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْراً عَظِيماً } . يحتمل قوله : { أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْراً عَظِيماً } ، أي : إذا اخترن المقام عند رسول الله يصرن محسنات بذلك ؛ فأعدّ لهن ما ذكر ؛ فيكون ذلك الاختيار منهن : الإحسان ؛ فاستوجبن ما ذكر : ويحتمل : { وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } ، ودمتن على ذلك واكتسبتن الأعمال الصالحات والإحسان حتى ختمتن على ذلك ، فأعد لكن ذلك لا بنفس اختيار مقامكن معه ، والله أعلم . وقوله : { يٰنِسَآءَ ٱلنَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا ٱلْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ } . قال بعضهم : الفاحشة المبينة هي النشوز البيّن . وقال بعضهم : لا ، بل الفاحشة المبينة هي الزنا الظاهر ، ويقال : مبينة بشهادة أربعة عدول ، ومبينة بالكسر ، أي : مبينة ظاهرة . { يُضَاعَفْ لَهَا ٱلْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ } : الجلد والرجم في الدنيا ، ولكن كيف يعرف ضعف الرجم في الدنيا من لا يعرف حدّ رجم واحد إذا كان ذلك في عذاب الدنيا ، وإن كان ذلك في عذاب الآخرة ؛ فكيف ذكر فاحشة مبينة ، وذلك عند الله ظاهر بين ؟ وقال بعضهم : { يُضَاعَفْ لَهَا ٱلْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ } في الدنيا والآخرة : أما في الدنيا فَمِثْلَيْ حدود النساء ، وأما في الآخرة فضعفي ما يعذب سائر النساء ، فجائز أن يكون هذا صلة قوله : { إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا وَزِينَتَهَا } إذا اخترن الدنيا ؛ فمتى أتين بفاحشة ضوعف لهن من العذاب ما ذكر وإذا اخترن المقام عند رسول الله والدار الآخرة آتاهن الأجر مرتين . أو أن يكون إذا اخترن المقام عند رسول الله والدار الآخرة ، ثم أتين بفاحشة ضوعف لهن ما ذكر من العذاب ؛ لئلا يحسبن أنهن إذا اخترن الله ورسوله والدار الآخرة ، ثم ارتكبن ما ذكر لم يعاقبن ، فذكر : أنهن إذا اخترن الله ورسوله والدار الآخرة ، ثم ارتكبن ما ذكر عوقبن ضعف ما عوقب به غيرهن ، وإذا أطعن الله ورسوله ، ضوعف لهن الأجر مرتين ، والله أعلم . والأشبه أن يكون ما ذكر من ضعف العذاب في الآخرة على ما يقول بعض أهل التأويل ؛ ألا ترى أنه ذكر لهن الأجر كفلين ، ومعلوم أن ذلك في الآخرة ؛ فعلى ذلك العذاب . وأما قوله : { مُّبَيِّنَةٍ } : عند الخلق ، وإن كانت عند الله مبينة ظاهرة ، وذلك جائز في اللغة . وقوله : { وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيراً } . هذا يحتمل وجهين : أحدهما : أي : عذابهن على الله يسيراً هيناً لا يثقل عليه ولا يشتد لمكان رسول الله ؛ بل على الله يسير هين . والثاني : أن إتيانكن الفاحشة ومعصيتكن على الله يسير ، أي : لا يلحقه ضرر ولا تبعة ، ليس كمعصية خواص الملك له في الدنيا : يلحقه الضرر والذل إذا عصوه وأعرضوا عنه ، فأمّا الله - سبحانه - عزيز بذاته غني لا يضره عصيان عبده ؛ بل ضرّوا أنفسهم . وقوله : { وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ للَّهِ وَرَسُولِهِ } ، أي : من يطع منكن لله ورسوله ، { وَتَعْمَلْ صَالِحاً نُؤْتِهَـآ أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ } . في الآية دلالة بيان فضيلة أزواج رسول الله ؛ لمكان رسول الله وعظيم قدره ، حيث خاطبهن من بين غيرهن من النساء كما خاطب مريم بقوله : { يٰمَرْيَمُ ٱقْنُتِي لِرَبِّكِ وَٱسْجُدِي وَٱرْكَعِي مَعَ ٱلرَّاكِعِينَ } [ آل عمران : 43 ] . ثم يحتج الشافعي بقوله : { نُؤْتِهَـآ أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ } لتأويله في قوله : الطلاق مرتان بقولة ، يقول : قوله : { ٱلطَّلَٰقُ مَرَّتَانِ } [ البقرة : 229 ] أي : تطليقتان في دفعة واحدة من غير إحداث التطليق والفعل فيما بينهما ؛ ويستدل على ذلك بقوله : { نُؤْتِهَـآ أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ } ، أي : أجرين من غير إحداث فعل فيما بينهما ولكن بفعل واحد ، وقوله : { يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ } [ الحديد : 28 ] ، أي : أجرين . لكن عندنا يجوز الإيتاء بمعنى الإيجاب ، أي : يوجب لها الأجر مرتين ؛ نحو قوله : { فَآتَاهُمُ ٱللَّهُ ثَوَابَ ٱلدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ ٱلآخِرَةِ } [ آل عمران : 148 ] ، أي : أوجب لهم ثواب الدنيا وثواب الآخرة ؛ فعلى ذلك ما ذكر ونحوه كثير ، والله أعلم . وقوله : { يٰنِسَآءَ ٱلنَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ } . قال بعض أهل الأدب : ( أحد ) أجمع في الكلام من ( واحد ) ؛ لأنه يرجع إلى واحد وإلى جماعة ، وقوله : ( واحد ) إنما يرجع إلى الفرد خاصّة ، وإنما يخاطب به الواحد . وقوله : { إِنِ ٱتَّقَيْتُنَّ } . يحتمل قوله : { إِنِ ٱتَّقَيْتُنَّ } اختيار الدنيا وزينتها ، واتقيتن أيضاً نقض اختيار رسول الله والدار الآخرة . وجائز أن يكون على الابتداء : إن اتقيتن مخالفة الله ومخالفة رسوله . وقوله : { لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ إِنِ ٱتَّقَيْتُنَّ } ؛ فإنكن معشر أزواج رسول الله تنظرن إلى الوحي ، وتصحبن رسول الله بالليل والنهار ، وترين أفعاله وصنيعه ؛ فإنكن أحق الناس بالتقوى وترك الميل إلى الدنيا والركون إليها ممن لا ينظر إليه ولا يصحبه إلا في الأوقات مرة . أو أن يكون قوله : { لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ } في الفضيلة على غيرهن من النساء ؛ لأنهن يكن أزواج رسول الله في الآخرة ، ويرتفعن إلى درجات رسول الله ويكن معه ؛ فإنكن لستن كغيركن من النساء في الفضيلة والدرجة إن اتقيتن ما ذكرنا : من مخالفة رسول الله واختيار الحياة الدنيا وزينتها ، والميل إليها والركون فيها ، والله أعلم . وقوله : { فَلاَ تَخْضَعْنَ بِٱلْقَوْلِ } ، قيل : فلا تلنّ في القول . { فَيَطْمَعَ ٱلَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ } : قال بعضهم : أي : فجور وزناً . { وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً } ، أي : خشناً شديداً . وقال بعضهم : { فَيَطْمَعَ ٱلَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ } ، أي : نفاق ، وهذا أولى ؛ لأن أصحاب رسول الله لا يحتمل أن يكون أحد منهم يطمع في أزواج رسول الله نكاحاً بحال أو رغبة فيهن ، بعد علمنا منهم أنهم إذا علموا من رسول الله رغبة في أزواجهم طلقوهن ؛ ليتزوجهن رسول الله ؛ فلا يحتمل بعدما عرف منهم هذا أن يطمع أحد منهم ويرغب في أزواجه نكاحاً ، فضلا أن يرغب فجورا ، ولكن إن كان ذلك فهو من أهل النفاق . وجائز أن يرغبوا فيهن نكاحاً ؛ لأنهن أعظم الناس نسباً وحسبا ، وأكرمهم جمالا وحسنا ؛ فجائز وقوع الرغبة فيهن من أهل النفاق ؛ لما ذكرنا ، وأما من أهل الإيمان فلا يحتمل ذلك ؛ لما ذكرنا ، ويدل على ذلك قوله : { وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً } ؛ دل هذا أنهن بحيث يرغب فيهن ويطمع . وقال بعضهم : { فَلاَ تَخْضَعْنَ بِٱلْقَوْلِ } ، يقول : فلا ترمين بقول يقارب الفاحشة ، فيطمع الذي في قلبه مرض . { وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً } . يعني : قولا حسنا يعرف ، لا يقارب الفاحشة . لكن هذا بعيد ، وأصله : { فَلاَ تَخْضَعْنَ بِٱلْقَوْلِ } أي : لا تقلن قولا يعرف به الرغبة في الرجال ، والميل إلى الدنيا ، والركون فيها { وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً } : ما يكون فيه تغيير المنكر والأمر بالمعروف ، والله أعلم . وقوله : { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ } . قد قرئ بكسر القاف وفتحها ، فمن قرأ بالكسر فهو من الوقار ، ومن قرأ بالفتح : { وَقَرْنَ } جعله من القرار والسكون فيها . وقوله : { وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ ٱلْجَاهِلِيَّةِ ٱلأُولَىٰ } . قال بعضهم : تبرج الجاهلية الأولى قبل أن يبعث رسول الله ؛ كان يخرج نساؤهم متبرجات بزينة مظهرات ، فأمر الله أزواج رسوله بالستر والحجاب عليهن ، وإدناء الجلباب عليهن ، وهو ما قال : { يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ } [ الأحزاب : 59 ] . وقال بعضهم : { وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ ٱلْجَاهِلِيَّةِ ٱلأُولَىٰ } قال : الجاهلية التي ولد فيها إبراهيم ، أعطوا أموالا كثيرة ، وكن يتبرجن في ذلك الزمان تبرجاً شديداً ؛ فأمر أزواجه بالعفة والترك لذلك ، فلسنا ندري ما أراد بالجاهلية ، ومن أراد بذلك : الذين كانوا بقرب خروج رسول الله وبعثه ، أو الذين كانوا من قبل في الأمم السالفة ؟ والتبرج كأنه هو الخروج بالزينة على إظهار لها ؛ أعني : إظهار الزينة . قال القتبي : { فَلاَ تَخْضَعْنَ بِٱلْقَوْلِ } أي : لا تلنّ به . وقوله : { وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً } أي : صحيحاً . وقوله : { وقِرْنَ في بيوتكن } بالكسر من الوقار ، ويقال : وقر في منزله يقر وقوراً ، و { وَقَرْنَ } بفتح القاف من القرار ، وكأنه من : قر يقر أراد أقررن في بيوتكن ، فحذف الراء الأولى وحول فتحها إلى القاف ، كما يقال : ظلن في موضع كذا ، من اضللن ؛ قال الله - تعالى - : { فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ } [ الواقعة : 65 ] ولم نسمع قَرَّ يَقِرُّ إلا في موضع قرة العين ، فأمّا في الاستقرار فإنما هو قَرَّ يَقَرُّ . وقوله : { وَأَقِمْنَ ٱلصَّلاَةَ وَآتِينَ ٱلزَّكَـاةَ } يحتمل أن يكون الأمر لهن بإيتاء الزكاة من حليهن ؛ لأنهن لا يملكن شيئاً سوى ذلك ما يجب في مثله الزكاة ؛ ألا ترى أنه وعد لهنّ التمتيع والسراح الجميل إذا أردن الحياة الدنيا وزينتها ، فلو كان عندهن شيء من فضول الأموال كن ينفقن ويتمتعن ، وإن لم يكن عند رسول الله ما يمتعهن ولا يطلبن ذلك من غيره ، فدل ذلك أنهن لا يملكن شيئاً من ذلك ، فيجوز أن يستدل بظاهر هذه الآية في إيجاب الزكاة في الحلي ، وكذلك روي عن ابن عباس ، رضي الله عنه . وقوله : { وَأَقِمْنَ ٱلصَّلاَةَ وَآتِينَ ٱلزَّكَـاةَ وَأَطِعْنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } أمرهن بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والطاعة لله ورسوله ؛ لئلا يغتررن بما اخترن المقام مع رسول الله وإيثارهن إياه على أن ذلك كاف لهن في الآخرة ولا شيء عليهن سوى ذلك من العبادات ؛ بل أخبر أنكنّ وإن اخترتن المقام معه وآثرتن إياه على الدنيا وزينتها لا يغنيكن ذلك عما ذكر ، والله أعلم . وقوله : { إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُـمُ ٱلرِّجْسَ أَهْلَ ٱلْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيـراً } قال بعضهم : إن هذه الآية مقطوعة عن الأولى ؛ لأن الأولى في أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذه في أهل بيته ، وهو قول الروافض ، ويستدلون بقطعها عن الأولى بوجوه : أحدها : ما روي عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت : " عنى بذلك عليّاً وفاطمة والحسن والحسين ، وقالت : لما نزلت هذه الآية ، أخذ النبي ثوباً ، فجعله على هؤلاء ، ثم تلا الآية : { إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُـمُ ٱلرِّجْسَ أَهْلَ ٱلْبَيْتِ } فقالت أم سلمة من جانب البيت : يا رسول الله ، [ ألست ] من أهل البيت ؟ قال : " بلى إن شاء الله " . وعن الحسن بن علي أنه خطب الناس بالكوفة وهو يقول : يا أهل الكوفة ، اتقوا الله فينا فإنا أمراؤكم ، وإنا ضيفانكم ، ونحن أهل البيت الذي قال الله - تعالى - : { إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُـمُ ٱلرِّجْسَ أَهْلَ ٱلْبَيْتِ } . ويقولون - أيضاً - : إن الآية الأولى ذكرها بالتأنيث حيث قال : { وَأَقِمْنَ ٱلصَّلاَةَ وَآتِينَ ٱلزَّكَـاةَ وَأَطِعْنَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } وهذه ذكرها بالتذكير دل أنها مقطوعة عن الأولى . ويقولون - أيضاً - : إنه وعد أن يذهب عنهم الرجس ويطهرهم تطهيراً وعداً مطلقاً غير مقيد ، وذلك الرجس الذي ذكر مما يحتمل أزواجه ممكن ذلك فيهن غير ممكن في أهل بيته ومن ذكره . ويقولون - أيضاً - ما روي عنه أنه قال : " تركت فيكم بعدي الثقلين : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، ما إن تمسكتم بهما ليردان بكم الحوض " أو كلام نحو هذا ، ففسر العترة بأهل البيت ، ونحو ذلك من الوجوه : وأما عندنا فهي غير مقطوعة من الأولى : إما أن يكون على الاشتراك بينهن وبين من ذكروا من أولاده ؛ إذ اسم أهل البيت مما يجمع ذلك كله في العرف . أو تكون الآية لهن على الانفراد ، فأمّا أن يخرج أزواجه عن أهل بيته والبيت يجمعهم ، فلا يحتمل ذلك . وأما قولهم : إنه ذكر هذه الآية بالتذكير والأولى بالتأنيث فعند الاختلاط كذلك يذكر باسم التذكير . وأمّا قولهم : إن وعده لهم منه خرج مطلقاً غير مقيد ، فكذلك كن أزواج رسول الله لم يأت منهن ما يجوز أن ينسبن إلى الرجس والقذر إلا فيما غلبن على رأيهن وتدبيرهن بالحيل ، فأخرجن فيما أخرجن . وأما قولهم في الثقلين اللذين تركهما فينا بعده : الكتاب والعترة ، فعترته : سنته ؛ على ما قيل : وقوله : " أهل بيتي " كأنه قال : تركت الثقلين كتاب الله وسنتي بأهل بيتي ، وذلك جائز في اللغة . وأما ما روي عن أم سلمة فإنه في الخبر بيان على أن أزواجه دخلن حيث قالت له أم سلمة : " ألست من أهل البيت ؟ قال : " بلى إن شاء الله " . وفي هذه الآية دلالة نقض قول المعتزلة من وجوه : أحدها : ما يقولون : إن الله قد أراد أن يطهر الخلق كلهم : الكافر والمسلم ، وأراد أن يذهب الرجس عنهم جميعاً ، لكن الكافر حيث أراد ألا يطهر نفسه ولا يذهب عنه الرجس لم يطهر ، فلو كان على ما يقولون لم يكن لتخصيص هؤلاء بالتطهر ودفع الرجس عنهم فائدة ولا منة - دل أنما يطهر من علم منه اختيار الطهارة وترك الرجس ، وأما من علم منه اختيار الرجس فلا يحتمل أن يذهب عنه الرجس ، أو يريد منه غير ما يعلم أنه يختار ، وأن التطهير لمن يكون إنما يكون بالله ، لا بما تقوله المعتزلة ؛ حيث قال : { وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيـراً } ؛ إذ على قولهم لا يملك هو تطهير من أراد تطهيره ؛ إذ لم يبق عنده ما يطهرهم ، فذلك كله ينقض عليهم أقوالهم ومذهبهم . وقوله : { وَٱذْكُـرْنَ مَا يُتْـلَىٰ فِي بُيُوتِكُـنَّ مِنْ آيَاتِ ٱللَّهِ وَٱلْحِكْـمَةِ } هذا يحتمل وجهين : أحدهما : قوله : { وَٱذْكُـرْنَ } أي : اتلون ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة ، وجعل بيوتكن موضعاً لنزول الوحي . والثاني : اذكرن على حقيقة الذكر ؛ أي : اذكرن ما منَّ الله عليكن ، وجعلكن من أهل بيت يتلى فيه آيات الله والحكمة ، وجعل بيوتكن موضعاً لنزول الوحي فيها ، وخصكن بذلك ، ما لم يجعل في بيت أحد ذلك ، يذكرهن عظيم ما أنعم ومنّ عليهن ؛ ليتأدّى به شكره ؛ ليعرفن منن الله ونعمه عليهن . وقوله : { مِنْ آيَاتِ ٱللَّهِ } يحتمل آيات القرآن . ويحتمل حججه وبراهينه . والحكمة : قالت الفلاسفة : الحكيم : هو الذي يجمع العلم والعمل جميعاً . وقال بعضهم : الحكيم : المصيب ، والحكمة : هي الإصابة . وقيل : هي وضع الشيء موضعه ، وهي نقيض السفة . وأصل الحكمة في الحقيقة كأنه هي الإصابة في كل شيء ، والحكيم : هو الذي لا يلحقه الخطأ في الحكم ولا الغلط . وقال بعضهم : الحكمة - هاهنا - هي السنة . وقوله : { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً } اللطيف : هو البارّ ؛ يقال : فلان لطيف : إذا كان بارّاً . والثاني : اللطيف : هو الذي يستخرج الأشياء الخفية الكامنة مما لا يتوهمها العقول استخراجها من مثلها .