Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 33, Ayat: 36-40)

Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ } قال جعفر بن حرب المعتزلي : دلت هذه الآية على أن الكفر مما لم يقضه الله ؛ لأنه لو كان مما قضاه الله لكان لا يكون لهم الخيرة والتخيير ، فإذا قال : إنه إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة ، دل أنه مما لم يقضه الله ، لكن يقول : إن القضاء - هاهنا - ليس هو قضاء الخلق ؛ على ما فهم هو ، ولكن القضاء - هاهنا - الأمر أو الحكم ؛ كقوله : { وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ إِيَّاهُ } [ الإسراء : 23 ] أي : أمر ربّك وأوجب ألا تعبدوا إلا إياه . أو أن يكون الحكم ؛ كقوله : { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِيۤ أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ } [ النساء : 65 ] أي : مما حكمت ؛ فإذا كان القضاء يحتمل الأمر والحكم ؛ على ما ذكرنا ، فيكون كأنه قال : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً } ، أي : إذا أمر الله ورسوله أمراً ، وإذا حكم الله ورسوله أمراً أن يكون له الخيرة من أمرهم ، وهكذا يكون فيما أمر الله ورسوله بأمر أو حكم يحكم ألا يكون لأحد التخيير في ذلك . ومما يدل - أيضاً - على أن القضاء أيضاً - هاهنا - ليس هو القضاء الذي فهم المعتزلة ؛ حيث أضاف ذلك إلى رسوله - أيضاً - حيث قال : { إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً } ، ولا شك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يملك القضاء الذي هو قضاء خلق ؛ دل أن المعتزلة أخطأت وغلطت في فهم ذلك ، وقصرت عقولهم عن درك ذلك ، وأن التأويل ما ذكرنا نحن . ثم أجمع أهل التأويل على أن قوله : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ } إنما نزل في زينب بنت جحش ؛ " يذكرون أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أعتق زيد بن حارثة وتبناه ، وكان مولى له ، فخطب له زينب بنت جحش ، فقالت زينب : إني لا أرضاه لنفسي وأنا من أتم نساء قريش - وكانت ابنة عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم أميمة بنت عبد المطلب - فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم : " قد رضيته لك ، فزوجي نفسك منه " فأبت ذلك ؛ فنزل قوله فيها : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ ٱلْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ } " ، لكن إذا كان على ما يذكرون من الخطبة لها ؛ فلا يحتمل أن يجبرها على النكاح ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : " ليس للولي مع الثيب أمر " ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " البكر تستأمر في نفسها ، والثيب تشاور " ، ثم تجيء الآية في جبرها على النكاح ممن لا ترضاه إلا أن يكون على الأمر من الله - تعالى - ومن رسوله ، فعند ذلك لا يكون لها التخير في ذلك ؛ لأن الله [ له ] أن يأمر من شاء على النكاح ممن شاء ، وله الحكم بالنكاح لمن شاء على من شاء ، وليس لهم الخيرة في ذلك ، فأمّا بالخطبة نفسها دون الأمر والحكم من الله لا جبر في ذلك ؛ " ألا ترى أنه ذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خطب أمّ سلمة ، فقالت : إن أوليائي غيب ، فقال : " ليس أحد من أوليائك لا يرضى بي " أو كلام نحوه خطبها ، ولم يجبرها على ذلك ؛ فعلى ذلك زينب ؛ إلا أن يكون على الأمر أو الحكم ؛ على ما ذكرنا . أو أن يكون سبب نزول الآية - فيما ذكر أهل التأويل - في خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش ، ويكون الوعيد الذي ذكر فيه في غيره : فيما فيه أمر من الله أو حكم ؛ نحو " ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه صلى الفجر ، فرأى رجلين جالسين ، فقال لهما : " ما بالكما لم تصليا معنا ؟ " فقالا : إنا قد صلينا في رحالنا ، فقال : " إذا صليتما ، ثم أتيتما المسجد ، فصليا معهم ؛ فتكون لكما سبحة " ، وإنما قال : " فصليا معهم " لا في صلاة الفجر ، ولكن في الصلوات التي يتطوع بعدها . وقوله : { وَمَن يَعْصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُّبِيناً } : إن كان هذا في المؤمنين فيكون الضلال هو الخطأ ؛ كأنه قال : فقد أخطأ خطأً بيناً ، ويجوز هذا في اللغة ، نحو قول إخوة يوسف لأبيهم في تفضيله يوسف عليهم ؛ حيث قالوا : { إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } [ يوسف : 8 ] أي : في خطأ بين ؛ حيث يفضل من لا منفعة له منه على من له منه منفعة ؛ فعلى ذلك هذا . وإن كان في المنافقين فهم في ضلال بين ، فالضلال من المؤمن لا يفهم [ منه ] ما يفهم من الكافر والمنافق ؛ ألا ترى أن الظلم من المؤمن لا يفهم منه ما يفهم من المنافق أو الكافر ؛ ألا ترى أن آدم وحواء لما ارتكبا وقربا تلك الشجرة قالا : { رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا } [ الأعراف : 23 ] لم يريدا ظلم كفر ، وعلى ذلك قوله : { فَتَكُونَا مِنَ ٱلْظَّٰلِمِينَ } [ البقرة : 35 ] فعلى ذلك المفهوم من ضلال المؤمن غير المفهوم من ضلال المنافق والكافر ، والله أعلم . وقوله : { وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِيۤ أَنعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ } قال أهل التأويل : أنعم الله عليه بالإسلام ، وأنعمت عليه بالإعتاق ؛ حيث أعتقه ؛ لأنه ذكر أن زيداً كان عربيّاً من أهل الكتاب ، أصابه النبي صلى الله عليه وسلم من سبي أهل الجاهلية ، فأعتقه وتبناه ، فأنعم الله عليه حيث أعطاه الإسلام ، ووفقه الهدى ، وأنعم عليه الرسول حيث أعتقه . ويحتمل إنعام الله عليه - أيضاً - في الإعتاق ؛ حيث وفق رسوله للعتاق ، أو في خلق فعل الإعتاق من رسوله وإجرائه إليه ، وعلى قول المعتزلة : ليس لله على زيد ولا على جميع المسلمين في الإسلام إنعام ولا إفضال ؛ لوجوه : أحدها : أنهم يقولون : قد أعطى كلاًّ سبب ما يلزمهم الإسلام وهو القوة ؛ فهم إنما يسلمون لا بصنع من الله في ذلك ؛ فعلى قولهم : كان من الله سبب لزوم الإسلام ، فأمّا في الإسلام نفسه فلا صنع له فيه ، فإذا كان كذلك فلا منة تكون منه عليهم ولا إنعام . والثاني : يقولون : أن ليس لله أن يفعل بالخلق إلا ما هو أصلح لهم في الدّين ، ولا شك أن الإسلام لهم أصلح ؛ فعليه أن يفعل ذلك بهم ، فهو فعل ما عليه أن يفعل ، ولا يجوز أن يفعل غيره ، ومن أدى حقا عليه لا يكون في فعله منعماً ولا مفضلا ؛ إنما هو مؤدي حق عليه . والثالث : يقولون : أن ليس من الله إلى الأنبياء والمؤمنين جميعاً شيء إلا وقد كان ذلك منه إلى إبليس وأتباعه وإلى جميع الفراعنة ، فإذا كان قولهم ومذهبهم ما ذكرنا - لم يكن لله على أحد من أهل الإسلام في إسلامهم إنعام ولا إفضال ، والله أخبر أن له عليهم في ذلك نعمة ومنة ، وكذلك فهم منه ذلك في قوله : { يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ … } [ الحجرات : 17 ] إلى { بَلِ ٱللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلإِيمَانِ } [ الحجرات : 17 ] . وقوله : { أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَٱتَّقِ ٱللَّهَ } . ذكر بعض أهل التأويل : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أبصر امرأة زيد فأعجبته وودّها ، ففهم زيد ذلك منه ؛ فقال : يا رسول الله ، إني أريد أن أطلق فلانة ، وإن فيها كبرا تتعاظم عليّ وتؤذيني بكذا ؛ فعند ذلك قال له النبي صلى الله عليه وسلم : { أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَٱتَّقِ ٱللَّهَ } في طلاقها ، ولا تطلقها ، لكن لا نقول نحن شيئاً من ذلك إلا بخبر ثبت من رسول الله يخبر أنه كان ذلك . وجائز أن يكون زيد استأذن رسول الله في طلاقها ، على ما يطلق الرجل امرأته ؛ لما يمل منها بلا سبب يكون ؛ فقال له عند ذلك : { أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَٱتَّقِ ٱللَّهَ } ، ولا تطلق زوجك بلا سبب يستوجب به الطلاق ؛ لأنه لا يسع للرجل أن يطلق زوجته بلا سبب يحمله على الطلاق من تضييع حدود الله ، وترك إقامتها ، أو معنى نحوه ، فأما بلا سبب يكون في ذلك فلا يسع . أو أن يكون قوله : { أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ } ، أي : تزوجها واتق الله في ترك تزوجها ؛ فيكون هو مأموراً بنكاحها ، كما كانت هي مأمورة بتزويجها نفسها منه ، فيقول : اتق الله في ترك الأمر للنبي ذلك في ترك ما ندبت إليه وأمرت به ، والله أعلم . وقوله : { وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا ٱللَّهُ مُبْدِيهِ } . قال عامة أهل التأويل : { وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ } حبّها وإعجابها ، { مَا ٱللَّهُ مُبْدِيهِ } ، أي : ما الله مظهره في القرآن ، أي : حبها وتزوجها . وقال قائلون : { وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ } يا محمد : ليت أنه طلقها ، { مَا ٱللَّهُ مُبْدِيهِ } ، أي : مظهره عليك ، حتى ينزل به قرآناً . لكن هذا بعيد محال ؛ لا يحتمل أن يكون النبي يقول لزيد : { أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَٱتَّقِ ٱللَّهَ } ، ثم يخفي هو في نفسه : ليت أنه يطلقها ؛ حتى يتزوجها هو . وجائز أن يكون قوله : { وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ } هذا القول نفسه ، هو الإبداء ؛ حيث جعله آية تتلى بعد ما أخفى رسول الله شيئاً في نفسه : ما لولا ذكر الله إياه ذلك لم يعلم الخلق أنه أخفى شيئاً ، ولا ندري ما الذي أخفاه كذا وكذا إلا بخبر يجيء عنه ، فيقول : إني أخفيت في نفسي كذا ؛ فعند ذلك يسع ، فأمّا على الوهم فلا نقول به . وقوله : { وَتَخْشَى ٱلنَّاسَ وَٱللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ } . قال بعضهم : { وَتَخْشَى ٱلنَّاسَ } ، أي : تستحي قالة الناس : " إنه تزوج امرأة ابنه " ؛ وتترك نكاحها ، والله أحق أن تستحي منه في ترك أمره إياك بالنكاح . وقال بعضهم : { وَتَخْشَى ٱلنَّاسَ } ، أي : تتقي قالة الناس ؛ تستحي منهم في أمر زينب وما أعجبت هي إليك حسنها وحبها ، { وَٱللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ } على الابتداء على غير إلحاق بالأول في كل أمر وكل شيء ؛ كقوله : { فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَٱخْشَوْنِي } [ البقرة : 150 ] ، والله أعلم . وقوله : { فَلَمَّا قَضَىٰ زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا } . قال أهل التأويل : { قَضَىٰ زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً } أي : حاجة ، أي : جماعاً ؛ فإن كان الجماع - ففائدة ذكر الجماع فيه ؛ ليعلم أن حليلة ابن التبني تحل للرجل ، وأن الوطر هو عقد النكاح والجماع جميعاً ، وإن كان كل واحد منهما سبب الحظر والمنع في نكاح حليلة ابن الصلب . وجائز أن يكون قوله : { فَلَمَّا قَضَىٰ زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً } ، أي : قضى همة نفسه ، وبلغ غاية ما همت نفسه منها ؛ فعند ذلك زوجناكها . ذكر أن زينب بنت جحش كانت تفتخر على سائر أزواج النبي ، فتقول : " زوجكن آباؤكن رسول الله ، والله زوجني بنبيه فوق سبع سماوات ؛ ففيه دلالة رسالته ؛ لأنه أخفى في نفسه ما كان يخشى قالة الناس في ذلك واستحى منهم ، وفي العرف أن من أخفى شيئاً يستحي من الناس إن ظهر عندهم أن يكتم ذلك من الناس ولا يظهره ، فإذا كان رسول الله أظهر ما كان يخشى قالة الناس فيه ، ولم يكتمه منهم ؛ دل أنه رسول ؛ إذ لو كان غير رسول ، لكتمه وأخفاه ولم يظهره ؛ لما ذكرنا من العرف في الناس من كتمان ما يستحيون منهم إذا ظهر . وكذلك روي عن عمر وعائشة أنهما قالا : " لو كان رسول الله كاتماً شيئاً من القرآن ، لكتم هذه الآية " . وقوله : { لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِيۤ أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَراً } . في الآية دلالة لزوم الاتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم في كل ما يخبر ويأمر به ، وفي كل فعل يفعله في نفسه ، إلا فيما ظهرت الخصوصية ، فأما فيما لم تظهر فعلى الناس اتباعه فيما يخبر ويفعل ؛ لأنه قال : تزوج امرأة دعيّه ، ثم قال : { لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِيۤ أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ } ، ولو كان يخبرهم بذلك خبرا لحل لهم ذلك ؛ فعلى ذلك : هو ذلك أخبر أن ذلك ؛ لكيلا يكون على المؤمنين حرج في مثل فعله ، والله أعلم . وفيه وجه آخر . وقوله : { إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَراً } ، ذكر قضاء الوطر منهن ؛ لأن من النساء من لا يحرمن على بعض هؤلاء بالعقد ، ولكن إنما يحرمن بقضاء الوطر ، ومنهن من يحرمن بالعقد نفسه دون قضاء الوطر ؛ فأخبر أن أزواج الأدعياء - وإن قضوا منهن الوطر - فإنهن لا يحرمن عليهم ، والله أعلم . وقوله : { وَكَانَ أَمْرُ ٱللَّهِ مَفْعُولاً } . أي : ما كان بأمر الله مفعولا ، وكذلك ما قيل : الصلاة أمر الله ؛ أي : بأمر الله تكون ؛ وإلا الصلاة هي فعل العباد ؛ فلا تكون أمر الله ، ولكن بأمر الله ، فعلى ذلك قوله : { وَكَانَ أَمْرُ ٱللَّهِ مَفْعُولاً } ، أي : ما يكون بأمر الله مفعولا ، وكذا قوله : { حَتَّىٰ جَآءَ أَمْرُ ٱللَّهِ } [ الحديد : 14 ] ، أي : جاء ما يكون بأمر الله ، وهو العذاب الذي أوعدوا ؛ لأن أمر الله لا يجيء . ثم يحتمل ذلك وجهين : أحدهما : التكوين : يكونه ؛ فيكون مكوناً ؛ كقوله : { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [ النحل : 40 ] . والثاني : على الإيجاب واللزوم ، أي : ما يكون بأمر الله يكون واجباً لازماً ؛ إذا أراد به الإيجاب والإلزام ، والله أعلم . وقوله : { مَّا كَانَ عَلَى ٱلنَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ ٱللَّهُ لَهُ } . هذا يحتمل وجهين : أحدهما : { فَرَضَ ٱللَّهُ } ، أي : بين الله ؛ كقوله : { سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا } [ النور : 1 ] ، أي : بيناها . ويحتمل { فِيمَا فَرَضَ ٱللَّهُ لَهُ } ، أي : أوجب الله عليه ، ويقال : فرض عليه ، أي : حرم ، وفرض له ، أي : أحل له ، وكذلك قوله : { قَدْ فَرَضَ ٱللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } [ التحريم : 2 ] يحتمل هذا وجهين : أي : بين لكم تحلة أيمانكم . والثاني : أوجب عليكم تحلة أيمانك ، والله أعلم . وقوله : { سُنَّةَ ٱللَّهِ فِي ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ } . قال بعضهم : هكذا كان سنة الله فيمن كان قبله من الرسل - مثل داود وسليمان وهؤلاء - كثرة النساء ، ليس ذلك ببديع في رسول الله محمد . وفي كثرة نساء الرسل لهم آية عظيمة ؛ لأنهم آثروا الفقر والضيق على السعة والغناء ، وكفوا أنفسهم عن جميع لذاتها ، وحملوا على أنفسهم الشدائد في العبادات والأمور العظام الثقيلة ، وهذه الأشياء كلها أسباب قطع قضاء الشهوات في النساء والحاجة فيهن ؛ فإذا لم تقطع تلك الأسباب عنهم ؛ دل أنهم بالله قووا عليها . وقال بعضهم : سنة الله في الذين قبل محمد ، يعني : داود النبي حين هوى المرأة التي فتن بها ، فجمع الله - تبارك وتعالى - بين داود وتلك المرأة ؛ فكذلك يجمع بين محمد وبين امرأة زيد ؛ إذ هويها كما فعل بداود ، لكن هذا بعيد . وقيل : { سُنَّةَ ٱللَّهِ فِي ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ } : أنه لا يحرج على أحد فيما لم يحرم . وجائز أن يكون { سُنَّةَ ٱللَّهِ فِي ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ } - في حل نكاح أزواج الأدعياء ، كان يحل لهم ذلك ؛ فعلى ذلك لرسول الله ، والله أعلم . وقوله : { وَكَانَ أَمْرُ ٱللَّهِ قَدَراً مَّقْدُوراً } . هو ما ذكرنا في قوله : { وَكَانَ أَمْرُ ٱللَّهِ مَفْعُولاً } أي : ما كان بأمر الله وتقديره مقدورا . قال أبو عوسجة : الدعي : الذي يدعى بعدما يكبر ، والادعاء أن يكون الرجل نفى ولده ولم يقبله ، ثم ادعاه من بعد ذلك ، هذا هو المعروف عندي . قال : وفي موضع آخر : { وَلَهُمْ مَّا يَدَّعُونَ } [ يس : 57 ] ، أي : ما يتمنون ويشتهون ، ويقال : " ظللنا اليوم فيما ادعينا " أي : وجدنا كل ما اشتهينا ، يقال من هذا : ادعيت أدعي ادعاء . وقال : الوطر : الحاجة ، والأوطار : جميع ، والخيرة ، أي : صيرت إليهم الخيرة ، وهو من قولك أي : شيء تختار ؟ { مَا كَانَ لَهُمُ ٱلْخِيَرَةُ } [ القصص : 68 ] ، أي : لم يجعل إليكم الاختيار : إن شئتم فعلتم ، وإن شئتم لم تفعلوا ، والقنوت في الأصل : القيام ؛ على ما ذكرنا . وقوله : { ٱلَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ ٱللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ ٱللَّهَ } . يقول أهل التأويل : هو محمد صلى الله عليه وسلم خاصة ؛ فمعناه - والله أعلم - إن كان هو المراد به : أنه فيما تزوج حليلة دعيه زيد مبلغ رسالات ربه ، حيث قال : { لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِيۤ أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ } ، وتبليغ الرسالة يكون مرة بالخبر والقول ، ومرة بالفعل ، يلزم الناس في اتباعه في فعله كما يلزم في خبره وأمره ، إلا فيما ظهرت له الخصوصية في فعل ما . وجائز أن يكون قوله : { ٱلَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ ٱللَّهِ } هم الأنبياء الذين قال : { سُنَّةَ ٱللَّهِ فِي ٱلَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ } [ الأحزاب : 38 ] نعتهم ، وقال : { ٱلَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ ٱللَّهِ } : فسنة الله في محمد صلى الله عليه وسلم كسنة أولئك الذين كانوا من قبل فيما ذكر ، { وَيَخْشَوْنَهُ وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ ٱللَّهَ } ، يقول - والله أعلم - : يخشون الله في ترك تبليغ الرسالة ، ولا يخشون أحداً سواه في التبليغ ، ويكون قوله : { إِلاَّ ٱللَّهَ } ، بمعنى : سواه ؛ على المبالغة في الأمر ، وإلا لو قال : { وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً } كافياً ، أي : لا يخشون أحداً فيما يبلغون ، لكن يحتمل ما ذكرنا : ألا يخشوا أحداً فيما يبلغون سواه . وجائز أن يكون قوله : { وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ ٱللَّهَ } بما يصيبهم من الأذى والبلاء بالتبليغ ، يقول : لا يرون ذلك من أولئك ، ولكن بتقدير من الله إياه ؛ وإلا كانوا يخافون من أولئك ؛ ألا ترى أنهم قالوا : { إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَآ أَوْ أَن يَطْغَىٰ } [ طه : 45 ] ، وحيث قال موسى : { فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ } [ الشعراء : 14 ] ، و { أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ } [ الشعراء : 12 ] ونحوه . أو أن يكون في الابتداء خافوهم ، ثم أمنهم الله ؛ فلم يخافوا ؛ حيث قال : { لاَ تَخَافَآ إِنَّنِي مَعَكُمَآ أَسْمَعُ وَأَرَىٰ } [ طه : 46 ] ، والله أعلم . وقوله : { وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ حَسِيباً } . قيل : شهيداً على تبليغ الرسالة . وقوله : { مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ } . معناه - والله أعلم - : ما كان محمد صلى الله عليه وسلم أبا أحد أبوة تحرم بها حلائل الأبناء ، وإلا كان هو أبا لجميع المؤمنين ؛ حيث قال : { ٱلنَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِٱلْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ } [ الأحزاب : 6 ] إذا كانت أزواجه أمهاتنا ؛ فهو أب لنا على ما ذكرنا . لكن التأويل فيه : { مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ } أبوة تحرم بها حلائل الأبناء ؛ ولكن أبوة التعظيم له والتبجيل ، وأبوة الشفقة والرحمة ، وهو ما قال : { لاَ تَرْفَعُوۤاْ أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ ٱلنَّبِيِّ وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بِٱلْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ … } الآية [ الحجرات : 2 ] . وكذلك قوله : { ٱلنَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِٱلْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ } [ الأحزاب : 6 ] يحتمل وجهين : أولى أن يعظم ويكرم ويشرف من [ غيره ] ، كقوله : { وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ } [ الفتح : 9 ] . والثاني : { أَوْلَىٰ بِٱلْمُؤْمِنِينَ } ، أي : أشفق عليهم وأرحم بهم من أنفسهم ، وهو ما وصفه - جل وعلا - من رحمته ورأفته ؛ حيث قال : { عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } [ التوبة : 128 ] . وقوله : { مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ } يخرج على وجهين : أحدهما : في حق الانتساب إليه ، أي : ليس هو أبا أحدكم ينسب إليه ويدعى به ؛ لأنه ذكر أنهم يدعونه ويسمونه : زيد بن محمد ، أنه يجوز التبني ولا يجوز إليه النسبة ولا التسمية به ؛ كقوله : { ٱدْعُوهُمْ لآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ ٱللَّهِ } [ الأحزاب : 5 ] . والثاني : في حق الحرمة ؛ كأنه قال : ليس هو أبا أحدكم في حرمة حلائل الأبناء عليه لا بالتبني ، ولا في حق النسبة ، وإن كان هو أبا لكم في الشفقة والرحمة والرأفة ، على ما ذكرنا بدءاً ولكن رسول الله ما ذكرنا في التعظيم له والتبجيل في المعاملة والمصاحبة ، أو في الدعوة به والتسمية . وقوله : { وَلَـٰكِن رَّسُولَ ٱللَّهِ } . أخبر ليس بأبي أحد من رجالكم ، على ما ذكرنا ، ولكن رسول الله ؛ لئلا يعاملوا رسوله معاملة آبائهم ، ولا يصاحبوه صحبة غيره ؛ ولكن يعاملوه معاملة الرسل في التعظيم له والتبجيل والإكرام ؛ لأن أبوته وشفقته دينية ، وشفقة الآباء شفقة دنياوية ، ولأن الرجل قد يتبسط مع والده في أشياء لا يسع مثله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ ولذا قال : { وَلَـٰكِن رَّسُولَ ٱللَّهِ وَخَاتَمَ ٱلنَّبِيِّينَ } ، أي : ختم به الرسالة لا نبي بعده . وقوله : { وَخَاتَمَ ٱلنَّبِيِّينَ } . جائز أن يكون ذكره وإخباره : أنه خاتم النبيين ؛ لما علم - جل وعلا - أنه يسمى غيره بعده نبيّاً ؛ على ما قالته الباطنية : إن قائم الزمان هو نبي ؛ فأخبر بهذا أن من ادّعى ذلك لا يطالب بالحجة والدلالة ؛ ولكنه يكذب ؛ وكذلك روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا نبي بعدي " أخبر أنه ختم به النبوة . وقوله : { وَكَانَ ٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً } ، أي : لم يزل الله بما كان ويكون وبما به صلاحهم عليما .