Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 33, Ayat: 4-6)
Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله : { مَّا جَعَلَ ٱللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ } . يقول بعض أهل التأويل كذلك : إنها نزلت في رجل يقال [ له ] : أبو معمر ، وكان من أحفظ الناس وأوعاهم ؛ فقالوا : إن له قلبين : قلب يسمع ، وقلب يحفظ ويعي ؛ فنزل : { مَّا جَعَلَ ٱللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ } . ويقول بعضهم كذلك : إنها نزلت في أبي معمر ، وكان يسمى : ذا قلبين ؛ لحفظه الحديث ، حتى إذا كان يومُ بدر ، وهُزم المشركون - وفيهم أبو معمر - يلقاه أبو سفيان بن حرب ، وهو معلق إحدى نعليه بيده والأخرى في رجله ؛ فقال : يا أبا معمر ، ما فعل الناس ؟ قال : انهزموا ، فقال : ما بال نعلك في يدك والأخرى في رجلك ؟ فقال : ما شعرت إلا أنهما جميعاً في رجلي ؛ فعرفوا يومئذ أنْ لو كان له قلبان ما نسي نعله في يده . ونحوه قد قيل ، ولكن لا ندري ما سبب نزول هذا . وروي عن ابن عباس : أنه سئل عن هذه الآية ؟ فقال : كان نبي الله صلى الله عليه وسلم يصلي يوماً ، فخطر خطرة - أي : وقع في قلبه - فقال المنافقون الذين يصلون معه : ألا ترى أن له قلبين : قلبا معكم ، وقلبا معهم ؛ فأنزلت هذه الآية . وهذا يشبه أن يكون سبب نزول الآية ، أو أن يكون نزولها في المنافقين ، وذلك أنهم كانوا يصلون مع النبي والمؤمنين ، ويرون الموافقة لهم من أنفسهم ، ويقولون : { نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ ٱللَّهِ } [ المنافقون : 1 ] ، ثم يرجعون إلى أولئك فيقولون : { إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ } [ البقرة : 14 ] ونحوه ؛ فذكر هذا : { مَّا جَعَلَ ٱللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ } ، أي : دينين في جوفه : الإيمان والنفاق ، أو { قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ } : قلبا لهذا ، وقلبا للآخر . أو نزلت في المشركين الذين يقرون بالوحدانية لله ، وأنّه هو الخالق ؛ كقوله : { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ } [ لقمان : 25 ] ، ويعبدون الأصنام مع هذا ؛ فيقول - والله أعلم - : لم يجعل لرجل قلبين في جوفه : قلباً للشرك ، وقلباً للإيمان والتوحيد ؛ ولكن جعل قلباً واحداً لأحد هذين ، أي : قلباً لقبول الشرك ، وقلبا لقبول الإيمان . وبعضهم يقول : هو على التمثيل ، أي : كما لم يجعل لرجل واحد قلبين ؛ فكذلك لا يكون المظاهر من امرأته : لا تكون امرأته أمه في الحرمة ، ولا يكون دعيّ الرجل ابنه ، يقول : نزلت في النبي وزيد بن حارثة ، كان النبي تبناه ، [ و ] كانوا يسمونه زيد بن محمد ، فجاء النهي عن ذلك ؛ فقال : { وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ } ، إلى هذا يذهب عامة أهل التأويل . وبعضهم يقول : تأويل قوله : { وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ } . أي : لم يجعل للرجل نسبين ينسب إليهما . وأصله عندنا : أن قوله : { مَّا جَعَلَ ٱللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ } : ما ذكرنا ، ولم يجعل أزواجكم اللائي تستمتعون بهن بالتشبيه بالأمهات كالأمهات ، أي : لم يحل لكم ذلك ولم يبح ولم يشرع . { وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ } ، أي : لم يجعل سبب ذلك ولم يشرع ، وإن كان قد يكون في النسب الفاسد ، نحو الجارية بين اثنين إذا ولدت فادعياه جميعاً ، ونحو النكاح الفاسد ، والملك الفاسد ، لم يجعل كذا ، أي : لم يحل ولم يشرع ؛ ؛ كقوله : { مَا جَعَلَ ٱللَّهُ مِن بَحِيرَةٍ } [ المائدة : 103 ] ، أي : لم يشرع ولم يحل ذلك ، وإن كان يكون لو فعلوا ؛ فعلى ذلك قوله : { وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ ٱللاَّئِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ } ، أي : لم يشرع ذلك السبب ، ولم يحل ذلك في الإسلام ما كان في الجاهلية ، لا أنه لا يكون ذلك فيما لم يشرع في الفاسد من السبب ، على ما ذكرنا : أن النسب ثبت في النكاح الفاسد ، وإن لم يشرع . والحسن يقول في قوله : { مَّا جَعَلَ ٱللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ } قال : كان الرجل يقول : إن نفسا تأمرني بكذا ونفسا تأمرني بكذا ؛ فنزل ذلك . والحكمة فيما لم يجعل لواحد قلبين ، وجعل له سمعين وبصرين ؛ لأن الإدراك بالسمع والبصر إنما يكون بالمشاهدة ، فيخرج ذلك مخرج معاونة بعضهم بعضاً ، وما يدرك بالقلب إنما يدرك بالاجتهاد ، وقد يختلف القلبان فيما يجتهدان في شيء ، فيناقض أحدهما صاحبه ؛ إذ يجوز أن يرى أحدهما خلاف ما يراه الآخر ، وأما السمعان والبصران لا يكون كذلك . وقوله : { مَّا جَعَلَ ٱللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ } : جائز أن يكون سبب ذلك ما ذكر من ادعاء مسيلمة الكذاب الرسالة لنفسه وتواطؤ أصحابه على ذلك ، يقول - والله أعلم - : ما جعل الله أن يرسل رجلين رسولا إلى خلقه مختلفي الدينين متضادّي الشرائع ، يدعو كل واحد إلى دين غير الآخر ، وإلى شريعة يضادّ بعضها بعضاً : محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومسيلمة الكذاب . وقوله : { وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ ٱللاَّئِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ } : يحتمل هذا وجهين : أحدهما : على النهي الذي ذكرنا ، أي : لا تشبهوا أزواجكم بظهور الأمهات ، ولا تحرموهن على أنفسكم كحرمة الأمهات ؛ ولذلك قال : { وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مِّنَ ٱلْقَوْلِ وَزُوراً } [ المجادلة : 2 ] . والثاني : أن لم يجعل الله لكم أزواجكم حراماً أبداً كالأمهات ، وإن جعلتم أنتم ؛ ولكن جعلهن لكم بحيث تصلون إليهن بالاستمتاع على ما تصلون إليهن وتستمتعون بهن ، بعد هذا القول ؛ يذكر هذا على المنة والنعمة ؛ ليتأدى به شكره ؛ لما أبقى لهم الاستمتاع بهن بعد هذا ، ولم يجعلهن لهم كالأمهات ، على ما ذكر ، والله أعلم . وقوله : { وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ } ، أي : ما جعل أدعياءكم أبناءكم في الحقوق إلى الآباء ، وهو ما ذكر في بعض القصة : أنه إذا ادعى الرجل منهم ورثة منهم مع أولاده - وهو شيء كانوا يفعلونه في الجاهلية - دعي إليه ونسب ، يقول - والله أعلم - : ما جعل ما كنتم تدعون الأبناء في الجاهلية للعون والنصرة أبناءكم في الإسلام فيما جعلوا . والثاني : ما جعل أدعياءكم في حق النسبة ، كما ذكر أنهم يقولون لزيد بن حارثة : زيد بن محمد . { ذَٰلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ } : إنما هو قول تقولونه بألسنتكم فيما بينكم . { وَٱللَّهُ يَقُولُ ٱلْحَقَّ } : إنهم ليسوا بأبنائكم . أو أن قوله : { وَٱللَّهُ يَقُولُ ٱلْحَقَّ } ، تأويله : { ٱدْعُوهُمْ لآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ ٱللَّهِ } : أعدل عند الله ، أي : انسبوهم إليهم إن علمتموهم . { فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوۤاْ آبَاءَهُمْ فَإِخوَانُكُمْ فِي ٱلدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ } . قال بعض أهل التأويل : فانسبوهم إلى أبيهم من أسماء مواليكم أو إخوانكم أو ابن عمكم ، مثل عبد الله وعبيد الله ، وعبد الرحمن ، وأشباه ذلك الأسماء وأسماء مواليكم . أو أن يقول : قوله : { فَإِخوَانُكُمْ فِي ٱلدِّينِ } ، أي : سموهم : إخوانا ، وذلك أعظم في القلوب وآخَذُ من التسمية بالآباء والنسبة إليهم ؛ وذلك أن الحاجة إلى معرفة الآباء والنسبة إليهم إنما تكون عند الكتابة والشهادة وعند الغيبة ، فأما عند الحضرة فلا . وقوله : { وَمَوَالِيكُمْ } ، قال بعضهم : نزل هذا في شأن زيد بن حارثة ، وهو كان مولى رسول الله ، وكانوا يسمونه : زيد بن محمد ؛ فنهوا عن ذلك ، فيقول : فإن لم تعلموا آباءهم فانسبوهم إلى مواليهم . وجائز أن يكون قوله : { وَمَوَالِيكُمْ } من الولاية ، كقوله : { وَٱلْمُؤْمِنُونَ وَٱلْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ } [ التوبة : 71 ] ، وقال : { إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ } [ الحجرات : 10 ] . وقوله : { وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ } . يقول - والله أعلم - : ليس عليكم جناح بالنسبة إلى غير الآباء إذا كنتم مخطئين غير عارفين للآباء ؛ إنما الجناح والحرج عليكم إذا كنتم عامدين لذلك عارفين لهم آباء ؛ كأنه أباح التبني والتآخي فيما بينهم ، ولم يبح النسبة إلى غير الآباء وإيجاب الحقوق فيما بينهم . وكذلك روي في بعض الخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يؤاخي بين الرجلين ، وإذا مات أحدهما ورثه الباقي منهما دون عصبته وأهله ، فكان الزبير أخا عبد الله بن مسعود ، فمكثوا بذلك ما شاء الله أن يمكثوا ، حتى نزلت الآية . وقال بعضهم : { وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ } ، يقول : إذا دعوت الرجل لغير أبيه ، وأنت ترى أنه كذلك . { وَلَـٰكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ } . يقول : لا تدعوه لغير أبيه متعمداً ، فأما الخطأ فإن الله يقول : لا يؤاخذكم به ، ولكن ما أردتم به العمد ، وهو مثل الأول . وذكر أن عمر - رضي الله عنه - سمع رجلا يقول : اللهم اغفر لي خَطَايَ ؛ فقال له عمر : " استغفر الله العمد ؛ فأمّا الخطأ فقد تجوز لك عنه " ، وكان يقول : " ما أخاف عليكم الخطأ ؛ ولكن أخاف عليكم العمد ، وما أخاف عليكم العائلة ؛ ولكن أخاف عليكم التكاثر ، وما أخاف علكيم أن تزدروا أعمالكم ؛ ولكن أخاف عليكم أن تستكثروها " . وذكر أن ثلاثاً لا يُمْلك عليها ابن آدم : الخطأ والنسيان والاستكراه ، وكذلك روي عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال ذلك . وقال بعضهم : الخطأ - هاهنا - هو ما جرى على اللسان من غير قصد ، والعمد ما يجري على قصد ، وهو ما ذكرنا ، والله أعلم . { وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } . لما فعلوا . وقوله : { ٱلنَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِٱلْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ } . قال بعضهم : النبي أولى بهم من بعضهم ببعض ؛ كقوله : { وَلاَ تَقْتُلُوۤاْ أَنْفُسَكُمْ } [ النساء : 29 ] ، أي : لا يقتل بعضكم بعضا ؛ إذ لا أحد يقتل نفسه ، { فَسَلِّمُواْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ } [ النور : 61 ] ، أي : يسلم بعضكم على بعض ، ليس أنه يسلم الرجل على نفسه ؛ ولكن ما ذكرنا ؛ فعلى ذلك قوله : { ٱلنَّبِيُّ أَوْلَىٰ بِٱلْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ } ، أي : بعضهم من بعض . ثم يحتمل هو أولى بهم من أنفسهم من الطاعة له والاحترام له والتعظيم ، أي : هو أولى أن يعظم ويحترم ويطاع من غيره . أو أن يكون أولى بهم في الرحمة والشفقة لهم ، أي : أرحم بهم وأشفق من أنفسهم ، وهو على ما وصفه من الرحمة والرأفة ؛ حيث قال : { عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِٱلْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } [ التوبة : 128 ] وليس أحد من الناس يعز عليه ما يفعله من المآثم . أو أن يجوز أولى بهم : ، أي : أحبّ إليهم من أنفسهم وأولادهم ، محبة الاختيار والإيثار ، ليس محبّة الميل : ميل القلب ؛ لأن ميل القلب يكون بالطبع . وذكر في الخبر أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قال : " ليس بمؤمن حتى أكون أنا أحبّ إليه من نفسه وولده وأهله " أو كلام نحو هذا . أو أن يكون { أَوْلَىٰ بِهِمَا } [ النساء : 135 ] في الآخرة بالشفاعة لهم ، يشفع فينجون من النار به لا بأعمالهم ، والله أعلم . وذكر في بعض الحروف : { النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أبٌ لهم وأزواجه أمهاتهم } : وهو حرف أبي وابن مسعود وابن عباس ، رضي الله عنهم . قوله : { وهو أب لهم } في الرحمة والشفقة ، أو فيما يلزم من الطاعة والتعظيم والاحترام ونحوه . وقوله : { وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ } . قال أهل التأويل : { وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ } : في الحرمة ؛ أي : لا يحل لهم أن يتزوجوهن أبداً كالأمهات ، ولكن يجب أن يكون ذلك بعد وفاته ، فأمّا في حياته إذا طلقهن فيجب أن يحللن لغيره ؛ لأنه قال : { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا … } الآية [ الأحزاب : 28 ] ، ولو لم يحللن لغيره ، لم يكن لما ذكر لهن من التمتيع والتسريح معنى ، وهذه الحرمة يجب أن تكون بعد الموت ، وهو ما قال : { وَلاَ أَن تَنكِحُوۤاْ أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً } : إنما شرط هذا بعده ؛ ليكن أزواجه في الآخرة . أو أن يكون قوله : { وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ } ، أي : حرمة أزواجه من بعده ومنزلتهن كمنزلة أمهاتهم ؛ يستوجبن ذلك لحرمة رسول الله ومنزلته قبلهم . وأما الباطنية فإنهم يقولون : في قوله : { وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ } دلالة أنه ليس يريد به أزواج النبي ؛ ألا ترى أنه يحل للناس نكاح أولادهن ، ولو كن أمهات لم تحل ؛ لأنهم يصيرون إخوة وأخوات ؛ فإذا حلّ ذلك دل أنه ما ذكرنا ، هذا قولهم . لكن الجواب لذلك ما ذكرنا : أنه جائز أن سمّاهن : أمهات ، أي : منزلتهن وحرمتهن كمنزلة الأمهات ؛ لحرمة رسول الله ومنزلته ؛ وذلك جائز لأنه ذكر الشهداء أحياء عنده ، وإن كانوا في الحقيقة موتى ؛ لفضل الكرامة لهم والمنزلة عند الله ، فعلى ذلك ذِكرُ الأمهات لأزواجه ما ذكرنا ، والله أعلم . وقوله : { وَأُوْلُواْ ٱلأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ ٱللَّهِ } . قال بعضهم : { فِي كِتَابِ ٱللَّهِ } : في حكم الله ؛ كقوله : { كِتَٰبَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ } [ النساء : 24 ] ، أي : حكم الله عليكم . وقال بعضهم : { فِي كِتَابِ ٱللَّهِ } : فيما أنزل من الكتاب ، وهو الذي ذكر ، وكذلك : { كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ ٱلْمَوْتُ … } [ البقرة : 180 ] إلى آخر ما ذكر : المكتوب عليهم : الذي ذكر على أثره . ثم اختلف في تأويل قوله : { وَأُوْلُواْ ٱلأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ ٱللَّهِ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُهَاجِرِينَ } : قال بعضهم : إن المواريث في بدء الأمر لم تكن تجري إلا فيما بين المؤمنين المهاجرين من القرابات والأرحام ، فإن كان مؤمناً لم يهاجر لم يرث ابنه ولا أباه ولا أخاه المهاجر ولا سائر قراباته إذا مات أحدهما ، إلا أن يكونا مؤمنين مهاجرين ؛ فعند ذلك يتوارثون ؛ فعلى ذلك التأويل يكون تأويل قوله : { إِلاَّ أَن تَفْعَلُوۤاْ إِلَىٰ أَوْلِيَآئِكُمْ } : الذين لم يهاجروا من المؤمنين أن تُوصوا لهم شيئاً ، فيقول قائل هذا التأويل : إن هذا نسخ بالآية التي ذكر في سورة الأنفال ، وهو قوله : { وَأْوْلُواْ ٱلأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ … } الآية [ الأنفال : 75 ] ، ولم يذكر فيها الهجرة إذا كانوا مسلمين . وأمّا الكافر فإنه لا يرث المسلم ، وعلى ذلك روي في الخبر أنه قال : " لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم " ، وقال : " لا يتوارث أهل ملتين " . وقال بعضهم : تأويل قوله : { وَأُوْلُواْ ٱلأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ ٱللَّهِ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُهَاجِرِينَ } من الأقربين منهم ، أي : أولو الأرحام من المؤمنين والمهاجرين الأقرب فالأقرب منهم ، { بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ } من الأبعدين في المواريث أي : الأقرب منهم بعضهم أولى ببعض من الأبعدين . { إِلاَّ أَن تَفْعَلُوۤاْ إِلَىٰ أَوْلِيَآئِكُمْ مَّعْرُوفاً } . على هذا التأويل يكون قوله : { إِلاَّ أَن تَفْعَلُوۤاْ إِلَىٰ أَوْلِيَآئِكُمْ } : الأبعدين { مَّعْرُوفاً } : وصية أو شيئاً ، فذلك معروف فصارت المواريث للقرابات الأدنى فالأدنى من المؤمنين دون الأبعدين ؛ فيكون الآية التي في الأنفال وهذه سواء على هذا التأويل ، بل يكون الأقرب فالأقرب والأدنى فالأدنى أولى بالمواريث من غيرهم . وبعضهم يقول : إن الآية نزلت ناسخة لما كان منهم من التوارث بالمؤاخاة ؛ لأن النبي كان يؤاخي بين رجلين ، فإذا مات أحدهما ورثه الباقي منهما دون عصبته ، حتى نسخ ذلك بالآية التي ذكر ؛ فعلى ذلك يكون قوله : { إِلاَّ أَن تَفْعَلُوۤاْ إِلَىٰ أَوْلِيَآئِكُمْ مَّعْرُوفاً } هو أن يصنعوا إلى الذين آخى بينهم النبي معروفاً . ثم اختلف في أولي الأرحام المذكورين في الآية : قال بعضهم : هم الذين ذكرهم في قوله : { يُوصِيكُمُ ٱللَّهُ فِيۤ أَوْلَٰدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ ٱلأُنْثَيَيْنِ … } [ النساء : 11 ] إلى آخر ما ذكر . وقال بعضهم : ليسوا هم ؛ وإنما الذي ذكر في ذلك هم الذين بيّن لهم حدّ مواريثهم ، فأمّا غيرهم فإنما هم في قوله : { وَأُوْلُواْ ٱلأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ } فإنما يرث الأقرب فالأقرب منهم ، وكذلك يقول أبو حنيفة - رحمه الله - : إن أولي الأرحام إنما يرث الأقرب فالأقرب منهم ، ليس كالعصبات ؛ لأن الابنة لا شك أنها أقرب من ابن العم ، ثم يكون النصف للابنة والبقية لابن العم . وقوله : { كَانَ ذَلِكَ فِي ٱلْكِتَابِ مَسْطُوراً } . قال بعضهم : في اللوح المحفوظ بأن المؤمنين بعضهم أولى ببعض في المواريث من الذين كانوا يتوارثون . وقال بعضهم : { فِي ٱلْكِتَابِ } ، أي : في التوراة مكتوباً : أن يصنع بنو إسرائيل إلى بني لؤي بن يعقوب معروفاً ؛ ليعود الغني على الفقير ، والله أعلم .