Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 35, Ayat: 15-26)

Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله : { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ أَنتُمُ ٱلْفُقَرَآءُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱللَّهُ هُوَ ٱلْغَنِيُّ ٱلْحَمِيدُ } . فيه وجوه من الدلالة : أحدها : أنه إنما أمركم ونهاكم وامتحنكم بأنواع المحن لحاجتكم وفقركم إليه ، لا لحاجة وفقر له في ذلك ، فإن ائتمرتموه وأطعتموه ، فإلى أنفسكم ترجع منفعة ذلك ، وإن عصيتم فعلى أنفسكم يلحق ضرر ذلك ؛ كقوله : { إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا } [ الإسراء : 7 ] . والثاني : يقول : تعلمون أن فقركم وحاجتكم إلى الله ، لا إلى الأصنام التي تعبدونها واتخذتموها آلهة ، فكيف صرفتم العبادة والشكر إلى من تعلمون أنكم لا تحتاجون إليه ولا تفتقرون ؟ ! والثالث : يأمرهم بقطع أطماعهم من الخلق ؛ لأنه خاطب الكل وأخبر أنكم جميعاً فقراء إلى الله الطامع والمطموع فيه ، فاقطعوا طمعكم ورجاءكم عن الخلق ، واطمعوا ذلك من الله ؛ فإنه الغني الحميد والخلق جميعاً فقراء إليه ، يؤيسهم عن الطمع والرجاء من الخلق ، والله أعلم . وقوله : { إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُـمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ } . يخبر عن غناه وقدرته ، لو شاء أذهبكم لتعلمون أنه لم ينشئكم ، ولا أمركم ، ولا نهاكم ؛ لحاجة نفسه ولا لمنفعة له ، ولكن لحاجة أنفسكم . وقوله : { وَمَا ذَلِكَ عَلَى ٱللَّهِ بِعَزِيزٍ } . يحتمل هذا وجهين : أحدهما : لا يعز ولا يثقل عليه ذهابكم وفناؤكم ؛ لأنه لم ينشئكم لحاجة نفسه فذهابكم وفناؤكم وبقاؤكم عليه واحد . والثاني : لا يصعب عليه ولا يعز إذهابكم وإحداثكم ، ولا يعجزه شيء ، يخبر عن قدرته ، والله أعلم . وقوله : { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَىٰ حِمْلِهَا لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ } . كأن هذا صلة قوله : { ٱتَّبِعُواْ سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ … } الآية [ العنكبوت : 12 ] ، يؤيسهم ليقطعوا أطماعهم يومئذ عن تناصر بعضهم بعضاً ، وتحمل بعضهم مؤن بعض وشفاعة بعضهم بعضاً ، على ما كانوا يفعلون في الدنيا كان ينصر بعضهم بعضاً في الدنيا إذا أصابهم شيء ؛ ويفدي بعضهم عن بعض ، ويشفع بعضهم بعضاً ، كانوا يحتالون مثل هذا الحيل في الدنيا ؛ ليدفعوا عن المتصلين بهم الضرر ، فأخبر أن ليس لهم ذلك في الآخرة ؛ كقوله : { وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ } [ البقرة : 123 ] ، وقوله : { وَٱخْشَوْاْ يَوْماً لاَّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً } [ لقمان : 33 ] [ و ] مثله كثير ، يؤيسهم عن أن يكون لهم في الآخرة ذلك ، والله أعلم . وقوله : { إِنَّمَا تُنذِرُ ٱلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِٱلْغَيْبِ } . هذا يخرج على وجهين : أحدهما : إنما ينتفع بالإنذار الذين يخشون ربهم بالغيب ، فأما [ من ] لا يخشى ربه فإنه لا ينتفع به ، وإلا كان منذر من اتبع الذكرى ومن لم يتبع ، ومن خشي ربه ومن لم يخش . والثاني : كأنه يقول : إنك تنذر غير الذي اتبع الذكر وغير الذي خشي ، فإنما يتبع إنذارك ويقبله الذي خشي ربه واتبع ذكره ، والله أعلم . وقوله : { وَمَن تَزَكَّىٰ فَإِنَّمَا يَتَزَكَّىٰ لِنَفْسِهِ } ، أي : من عمل خيراً ، فإنما يعمل لنفسه . أو من جاء بالتوحيد والأعمال الصالحة فإنما يصلح أمره وعمله يثاب عليه . { وَإِلَى ٱللَّهِ ٱلْمَصِيرُ } . قد ذكرنا في غير موضع فائدة تخصيص ذكر المصير إليه والمرجع إليه في ذلك اليوم ، وإن كانوا صائرين إليه في كل وقت . وقوله : { وَمَا يَسْتَوِي ٱلأَعْمَىٰ وَٱلْبَصِيرُ * وَلاَ ٱلظُّلُمَاتُ وَلاَ ٱلنُّورُ * وَلاَ ٱلظِّلُّ وَلاَ ٱلْحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي ٱلأَحْيَآءُ وَلاَ ٱلأَمْوَاتُ } . ضرب هذا المثل يخرج على وجوه : أحدها : شبه الأصنام التي كانوا يعبدونها بالأعمى والظلمة والميتة والحرور حقيقة ؛ لأنها كذلك عميان موتى لا نور فيها ؛ يقول : والله إنكم تعلمون أن الذين تعبدون من دون الله عميان لا بصر لهم ولا نور ولا حياة ولا شيء من ذلك ، وأن الله هو البصير ، ومنه يكون كل خير ونفع ، فكيف اخترتم عبادة من هذا سبيله على عبادة الله تعالى ؟ ! وبالله الهداية والعصمة . والثاني : شبه أولئك الكفرة بالعميان والظلمة والموت وما ذكر ، والمؤمن بالبصير والنور والظل والحياة ، ليس على إرادة حقيقة البصر والحياة وما ذكر ؛ لأن لهم بصرا يبصرون وهم أحياء فيقولون : نحن البصراء والأحياء ، وأنتم العميان والأموات ، وما ذكر ، لكن شبههم بالعميان والموتى ؛ لأنه لا حجة لهم ولا برهان على عبادتهم الأصنام ، وهم يعلمون أنه لا حجة لهم ولا برهان على ذلك من كتاب أو رسول أو نحوه ، إنما هو هوى يهوون ذلك ، وللمؤمنين في عبادتهم الله حجة وبرهان ، فمن كان له حجة في عبادته فهو بصير حيّ نور ، ومن ليس له ذلك فهو أعمى ميت . والثالث : يذكر هذا دلالة على البعث ؛ لأنهم يعلمون أن الخلق ليس كلهم على حدّ واحد وحالة واحدة ، بل فيهم العميان والبصراء وفيهم الأحياء والأموات وفيهم ما ذكر ، وقد استووا جميعاً في منافع هذه الدنيا ، وفي الحكمة التفريق بينهم لا الجمع ، فلا بدّ من دار أخرى سوى هذه يفرق بينهم ؛ إذ في الحكمة والعقل التفريق لا الجمع ، والله أعلم . وقوله : { إِنَّ ٱللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَآءُ وَمَآ أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي ٱلْقُبُورِ } . دل قوله : { إِنَّ ٱللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَآءُ } على أن قوله : { وَمَآ أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي ٱلْقُبُورِ } إنما أراد به الكافر ، ثم أخبر أن رسوله لا يسمع لما لا يقدر على ذلك ، وليس عنده ذلك ؛ إذ لو كان بيانا مبينا أو دعاء على ما يقوله المعتزلة ، لكان يسمع ويبين ويقدر على ذلك ، فإذ لم يقدر رسول الله على ذلك دل أن عند الله لطفاً وشيئاً لم يعطهم ، فإذا أعطاهم ذلك اهتدوا وآمنوا ؛ وكذلك هذا في قوله : { إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ } [ القصص : 56 ] ، ولو كان بياناً على ما تقوله المعتزلة لهدى من أحبّ وقد أحب فلم يهتد ؛ دل أن عند الله شيئاً لو أعطى ذلك لاهتدى ، ولم يكن ذلك عند رسوله وهو التوفيق والعصمة ، وهذا ينقض على المعتزلة قولهم : إن الله قد أعطى كل كافر ما به يهتدي لكنه لم يهتد . ثم لا يحتمل قوله : { إِنَّ ٱللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَآءُ } على القسر والقهر دل أنه لا يحتمل . وقوله : { إِنْ أَنتَ إِلاَّ نَذِيرٌ } . هذا يحتمل وجهين : أحدهما : ليس عليك إلا الإنذار باللسان ؛ كقوله : { إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ ٱلْبَلاَغُ } [ الشورى : 48 ] ، وقوله : { مَّا عَلَى ٱلرَّسُولِ إِلاَّ ٱلْبَلاَغُ } [ المائدة : 99 ] ، وأنت لا تؤاخذ بتركهم قبول الإنذار ؛ كقوله : { مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ … } الآية [ الأنعام : 52 ] ، وقوله : { فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ … } الآية [ النور : 54 ] . ويحتمل الإنذار بالسيف بأمره إياه بالقتال معهم حتى يؤمنوا ، وإن كان على هذا فهو يحتمل النسخ ؛ يؤمر بالقتال في وقت ، ولا يؤمر في وقت ، وأمّا النذارة باللسان فهو لا يحتمل النسخ أبداً . والله أعلم . وقوله : { إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ بِٱلْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً } . يحتمل قوله : { بِٱلْحَقِّ } أي : بالتوحيد ، أي : أرسلناك لتدعو الناس إلى توحيد الله ، أو أرسلناك بالحق ، أي : بالحق الذي لله عليهم وما لبعض على بعض . أو { أَرْسَلْنَاكَ بِٱلْحَقِّ } أي : للحق وهو البعث الذي هو كائن لا محالة . وقوله : { بَشِيراً وَنَذِيراً } . أي : بشيراً بالجنة لمن آمن بالله وأجابك ، ونذيراً بالنار لمن عصاه وخالف أمره وترك إجابته ، هذا يدل على أنه لم يرد في قوله : { إِنْ أَنتَ إِلاَّ نَذِيرٌ } أنه نذير خاصة ليس ببشير . وقوله : { وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ } . قال بعضهم : ليس من أصناف الخلق وجواهرهم على اختلاف جواهرهم وأصنافهم إلا وقد خلا لهم نذير ؛ ليأمر وينهى ويمنع ويبيح ؛ كقوله : { وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ … } الآية [ الأنعام : 38 ] ، أخبر أن الخلق على اختلاف أصنافهم وجواهرهم أمم أمثالهم البشر ، فيتحملون ما يتحمل البشر من الأمر والنهي والنذارة والبشارة . وقال بعضهم : ذلك راجع إلى الجن والإنس خاصة ليس إلى الكل ؛ لأنهما هما المخصوصان بالخطاب والنطق والعقل وغير ذلك ، وفيهما ظهر بعث الرسل والنذر ، ولم يظهر ذلك في غيرهما ، فكأنه قال : وإن من أمة من هذين من القرون إلا خلا فيها نذير ، والله أعلم . وقوله : { وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِٱلْبَيِّنَاتِ } . يعزي رسوله ويصبره على تكذيب قومه إياه ، يقول : لست أنت بأول مكذب من الرسل ، قد كذب إخوانك الذين من قبل بعد ما جاءوا بالبينات والزبر ، أي : بالكتب المنيرة إليهم مع ما جاءهم بذلك فكذبوهم ، فصبروا على تكذيبهم ، فاصبر أنت أيضاً على تكذيب قومك ، والله أعلم . وقوله : { ثُمَّ أَخَذْتُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ } . أي : ثم أخذت الذين كذبوا رسلهم بالتكذيب فآخذ قومك على تكذيبهم إليك أيضاً ، يذكر هذا له ليصبره على ذلك وينفي حزنه على تكذيبهم إياه . أو يذكره زجراً لقومه على تكذيبهم إياه ؛ فينزل بهم من العذاب ما نزل بأولئك بالتكذيب . وقوله : { فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ } . قال بعضهم : فكيف كان إنكاري ، وقال بعضهم : عذابي . ودل قوله : { وَبِٱلْكِتَابِ ٱلْمُنِيرِ } [ على ] قوله : { ٱللَّهُ نُورُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } [ النور : 35 ] ، أي : منير السماوات بما سمى الكتاب في غير آي من القرآن : نوراً ، هو نور بما ينير القلوب والصدور .