Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 35, Ayat: 31-38)

Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله : { وَٱلَّذِيۤ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ } : يا محمد ، { مِنَ ٱلْكِتَابِ } : وهو القرآن ، { هُوَ ٱلْحَقُّ } : أنه من عند الله ، { مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } أي : موافقاً للكتب التي قبله . ثم يكون وفاقه إياها بأحد شيئين : إما في الأخبار والأنباء : أن توافق الأنباء والأخبار التي في القرآن أنباء الكتب المتقدمة وأخبارها ويصدق بعضها بعضا ، فكذلك كانت الكتب كلها داعية إلى توحيد الله والعبادة له والطاعة . أو توافق الأحكام ، فإن كانت الموافقة في الأحكام ففيها الناسخ والمنسوخ مختلفة ؛ ألا ترى أن في القرآن ناسخاً ومنسوخاً ، ثم أخبر أنه لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً ، ولو كان الناسخ والمنسوخ خلافاً في الحقيقة لكان من عند غير الله على ما أخبر ، فدل أن بينهما وفاقاً ليس باختلاف . وقال بعضهم : إن محمداً يصدق ما قبله من الكتب والرسل ، وهو ما ذكرنا : أن جميع الكتب والرسل : إنما دعوا الخلق إلى توحيد الله وعبادته . وقوله : { إِنَّ ٱللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ } . أي : { لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ } بما به مصالحهم ، أو { لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ } ، أي : على علم وبصيرة منه بتكذيب القوم رسلهم بعث الرسل إليهم لا عن جهل منه بذلك ، وذلك لا يخرجه عن الحكمة كما قال بعض الملاحدة : إن ليس بحكيم من بعث الرسل إلى من يعلم أنه يكذبه ويرد رسالته ، فهذا لو كان بعث الرسل لحاجة المرسل ولمنفعته يكون إرساله وبعثه إلى من يعلم أنه يكذبه ويردّ رسالته [ عبثاً ] ، فأمّا الله - سبحانه وتعالى - يتعالى عن أن يرسل الرسل لحاجة أو لمنفعة بل لحاجة المبعوث إليه والمرسل [ إليه ] ؛ فلم يخرج علمه برده وتكذيبه عن الحكمة ، والتوفيق بالله . أو أن يكون قوله : { لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ } يخرج عن الوعيد ، أي : عالم بأحوالهم وأفعالهم ؛ ليكونوا أبداً على حذر ومراقبة ، والله أعلم . وقوله : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا ٱلْكِتَابَ ٱلَّذِينَ ٱصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِٱلْخَيْرَاتِ } . اختلف فيه : قال بعضهم : { فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ } هو ممن أخبر أنه اصطفاه للهدى من متبعي محمد ، وهم أصحاب الكبائر في قول بعض . وقال بعضهم : هم أصحاب الصغائر . وقال بعضهم : هم أصحاب الصغائر والكبائر جميعاً . ومنهم من يقول : هو في الناس جميعاً المتبع له وغير المتبع . ثم اختلف في قوله : { ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ } : قال بعضهم : هو المنافق الذي أظهر الموافقة لرسوله وأضمر الخلاف له . وقال بعضهم : هم اليهود والنصارى ، فقد آمنوا قبل أن يبعث فلما بعث كفروا به . وقال بعضهم : هم المشركون وقد أقسموا أنه لو جاءهم نذير : { لَّيَكُونُنَّ أَهْدَىٰ مِنْ إِحْدَى ٱلأُمَمِ } [ فاطر : 42 ] . فهؤلاء كلهم في النار ، وما ذكر من الاصطفاء والاختيار على قول هؤلاء يكون لرسول الله ؛ حيث بعث إليهم ؛ ليدعوهم إلى توحيد الله . والأشبه أن يكون قوله : { فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ } من أمته من متبعي الرسول ما روي في الخبر عن أبي الدرداء رضي الله عنه - إن ثبت - قال : " تلا رسول الله هذه الآية فقال : أما السابق بالخيرات فيدخل الجنة بغير حساب ، وأما المقتصد فيحاسب حساباً يسيراً ثم يدخل الجنة ، وأما الظالم لنفسه فيحبس حتى يظن أنه لن ينجو ثم تناله الرحمة فيدخل الجنة " ، ثم قال رسول الله : وهم الذين قالوا : { ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِيۤ أَذْهَبَ عَنَّا ٱلْحَزَنَ … } " . الآية [ فاطر : 34 ] وكذلك روي عن أنس وعائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن ثبت عنه فهو تأويل الآية ، وتفسير الظالم من أهل التوحيد والملة . والمقتصد : قال بعضهم : هو الذي يخلط عملا صالحاً بعمل سيئ ؛ كقوله : { وَآخَرُونَ ٱعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً } [ التوبة : 102 ] . وقال بعضهم : هو الذي يقوم بأداء الفرائض والأركان وأما غيره فلا . والسابق يخرج على وجهين : أحدهما : سابق بالخيرات كلها لا تقصير فيه ولا نقصان . أو سابق بالخيرات فيه تقصير ونقصان ، وقد ذكرنا هؤلاء الفرق الثلاثة في غير موضع : { وَٱلسَّابِقُونَ ٱلأَوَّلُونَ مِنَ ٱلْمُهَاجِرِينَ وَٱلأَنْصَارِ … } الآية [ التوبة : 100 ] ، ثم قال : { وَآخَرُونَ ٱعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ } [ التوبة : 102 ] { وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ ٱللَّهِ } [ التوبة : 106 ] ، فالذين اعترفوا بذنوبهم هم المقتصد ، والآخرون هم الظالم لنفسه . وقال في موضع آخر : { وَٱلسَّابِقُونَ ٱلسَّابِقُونَ * أُوْلَـٰئِكَ ٱلْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ ٱلنَّعِيمِ } [ الواقعة : 10 - 12 ] ، وقال : { وَأَصْحَابُ ٱلْيَمِينِ مَآ أَصْحَابُ ٱلْيَمِينِ * فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ } [ الواقعة : 27 - 28 ] إلى آخر ما ذكر ، وقال : { وَأَصْحَابُ ٱلشِّمَالِ مَآ أَصْحَابُ ٱلشِّمَالِ } [ الواقعة : 41 ] - ففي ظاهر هذا أن أصحاب الشمال المكذبون ؛ حيث ذكر في آخر هذه السورة الفرق الثلاثة حيث قال : { فَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ ٱلْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ * وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنْ أَصْحَابِ ٱلْيَمِينِ * فَسَلاَمٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ ٱلْيَمِينِ * وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ ٱلْمُكَذِّبِينَ ٱلضَّآلِّينَ } [ الواقعة : 88 - 92 ] ، ففي ظاهر هذا أن الظالم لنفسه هو المكذب والكافر في قوله : { وَأَصْحَابُ ٱلشِّمَالِ } [ الواقعة : 41 ] في ظاهر ما ذكر في سورة التوبة أنه من أهل التوحيد حيث قال : { وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ ٱللَّهِ … } الآية [ التوبة : 106 ] ، والله أعلم بذلك . وقوله : { بِإِذُنِ ٱللَّهِ } . يحتمل : بعلم الله ، ويحتمل : بمشيئة الله ، وقيل : بأمره . وقوله : { ذَلِكَ هُوَ ٱلْفَضْلُ ٱلْكَبِيرُ } . يقول - والله أعلم - : هذا الذي أورثناهم من الكتاب هو الفضل الكبير ؛ كقوله : { وَكَانَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً } [ النساء : 113 ] . أو يقول : إدخالهم الجنة فضل منه كبير . وروي عن عمر - رضي الله عنه - قال : " { فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِٱلْخَيْرَاتِ } قال : ألا إن سابقنا سابق ، وإن مقتصدنا ناج ، وإن ظالمنا مغفور له " . وقال عثمان بن عفان - رضي الله عنه - : " ألا إن سابقنا أهل الجهاد منا ، وإن مقتصدنا أهل حضرنا ، وإن ظالمنا أهل بدونا " . وابن عباس - رضي الله عنه - يقول : " الظالم لنفسه كافر " . وعن الحسن قال : " الظالم لنفسه المنافق وهو هالك ، وأما السابق والمقتصد فقد نجيا " . وقوله : { جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ } . ذكر التحلي فيها بالذهب واللؤلؤ ولبس الحرير ، وليس للرجال رغبة في هذه الدنيا في التحلي بذلك ولا لبس الحرير ، اللهم إلا [ أن ] يكون للعرب رغبة فيما ذكر ، فخرج الوعد لهم بذلك والترغيب في ذلك ، وهو ما ذكر من الخيام فيها والقباب والغرفات ، وذلك أشياء تستعمل في حال الضرورة في الأسفار ، وعند عدم غيره من المنازل والغرف عند ضيق المكان ؛ فأما في حال الاختيار ووجود غيره فلا ، لكنه خرج ذلك لهم ؛ لما لهم في ذلك من فضل رغبة ؛ ألا ترى أنهم قالوا : { فَلَوْلاَ أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ } [ الزخرف : 53 ] ، ذكروا ذلك لما لذلك عندهم فضل قدر ومنزلة ورغبة في ذلك . أو يذكر هذا لهم في الجنة - أعني : الذهب والفضة والحرير وما ذكر - ليس على أن هذا مما يشابهه بحال أو يماثله في الجوهر على التحقيق سوى موافقة الاسم ؛ لما روي في الخبر : " أن فيها - يعني في الجنة - ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر أو بال بشر " على ما ذكر ، وما ذكر - أيضاً - أن ما في الجنة لا يشبه ما في الدنيا أو لا يوافقه إلا في الاسم أو كلام نحو هذا ، والله أعلم . وقوله : { وَقَالُواْ ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِيۤ أَذْهَبَ عَنَّا ٱلْحَزَنَ } . قال بعضهم : إنما يقول هذا الظالم لنفسه الذي ذكر في قوله : { فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ } أنهم يحبسون على الصراط حبساً طويلا ، أو يحاسبون حساباً شديداً ؛ فيطول حزنهم بذلك ، ثم يؤذن لهم بالدخول في الجنة ، فعند ذلك يقولون ذلك ويحمدون ربهم على إذهاب ذلك الحزن عنهم . وقال بعضهم : لا ، ولكن يقول هذا كل مسلم إذا دخل الجنة ؛ لما يخاف كل مسلم في الدنيا على مساويه ؛ لما لا يدري إلى ماذا يكون مصيره ومرجعه ؟ وأين مقامه في الآخرة ؟ فلما أدخل الجنة أمن ما كان يخافه في الدنيا ويحزن عليه ، وسلم من تلك الأخطار ، حمد ربه عند ذلك . وقال بعضهم : ذلك الحمد إنما يكون منهم ؛ لما ذهب عنهم غمّ العيش والخبر الذي كان لهم في الدنيا ؛ إذ كل أحد يهتم لعيشه في الدنيا ، فلما دخل الجنة فذهب ذلك عنه ، فعند ذلك يحمد ربه . وقال بعضهم : يحمدون ربهم ؛ لما يأمنون الموت عند ذلك ؛ إذ ذكر في الخبر " أنه يؤتى بالموت يوم القيامة على صورة كبش ، فيذبح بين أيديهم " ، فعند ذلك يأمنون الموت ، والله أعلم . وقوله : { إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ } . لمساوئهم من غير أن كان منهم ما يستوجبون المغفرة ، شكور لحسناتهم حيث قبلها منهم وأعطاهم الثواب . وقال أهل التأويل : غفور لذنوبهم ، شكور يعطيهم الجزاء الجزيل بالعمل القليل . وقوله : { ٱلَّذِيۤ أَحَلَّنَا دَارَ ٱلْمُقَامَةِ } . لما لا يتمنى التحوّل منها ولا الانتقال ، لا يبغون حولا . وقوله : { لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ } . ليس من صاحب نعمة في هذه الدنيا وإن عظمت إلا وهو يمل منها ويسأم ، ويتمنى التحول منها والانتقال ، وكذلك ليس من لذة وإن حلت في هذه الدنيا إلا وهي تعقب آفة وتعباً ، فأخبر أن نعيم [ الآخرة ] ولذاتها مما لا يتمنى ولا يبتغى التحول منها ، ولا لذتها تعقب آفة ولا تعباً ولا إعياء . وجائز أن يكون قوله : { لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ } وذلك أن من حل بقرابته وبالمتصلين [ به شيء ] في هذه الدنيا من آفاتها يهتم لذلك ويتكلف دفع ذلك عنهم ، فأخبر أنهم إذا حلوا في دار المقامة لا يهمهم شيء من ذلك ، والله أعلم . وقال بعضهم في قوله : { إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ } : شكر لهم ما كان منه إليهم ، وغفر لهم ما كان منهم من ذنب ، وفي حديث رفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله : { إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ } قال : " شكر الله للمؤمن اليسير من الحسنات ، وغفر لهم الذنوب العظام " " . والنصب : الأذى ، ويقال : الفناء ، واللغوب : التعب . وقوله : { وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لاَ يُقْضَىٰ عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ } : فيستريحوا من عذابها ، { وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِّنْ عَذَابِهَا } . وفي قوله : { وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِّنْ عَذَابِهَا } نقض قول الجهم وأبي هذيل المعتزلي : أما قول الجهم ؛ لأنه يقول : بانقطاع العذاب عن أهل النار ، فأخبر أنه لا يخفف عنهم العذاب ، فلو كان يحتمل الانقطاع يحتمل التخفيف ، فإذا أخبر أنه لا يخفف عنهم دل أنه لا ينقطع ، وكذلك قول مالك لهم : { إِنَّكُمْ مَّاكِثُونَ } [ الزخرف : 77 ] لما طلبوا منه التخفيف : { ٱدْعُواْ رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِّنَ ٱلْعَذَابِ } [ غافر : 49 ] . وأما على قول أبي الهذيل فإنه يقول : إن العذاب قد يفتر عن أهل النار ، ويصير بحال لو أراد الله أن يزيد في عذابهم شيئاً ما قدر عليه ، وكذلك يقول في لذات أهل الجنة : إنها تصير بحال وتبلغ مبلغاً لو أراد الله أن يزيد لهم شيئاً منها ما قدر عليه ، فظاهر الآية يكذبهم ويردّ قولهم حيث قال : { وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِّنْ عَذَابِهَا } . وقوله : { كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ } : لنعمه وجاحد وحدانيته . وقوله : { وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا } . قال بعضهم : يصيحون فيها . [ و ] قال بعضهم : الاصطراخ : الاستغاثة ، أي : يستغيثون ، واصطراخهم قولهم : { رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ ٱلَّذِي كُـنَّا نَعْمَلُ } يفزعون أولا إلى كبرائهم الذين اتبعوهم في الدنيا ، يطلبون منهم دفع ما هم فيه من العذاب والتخفيف عنهم ، حيث قالوا : { إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُمْ مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ ٱللَّهِ مِن شَيْءٍ } [ إبراهيم : 21 ] فأجابوا لهم : { سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَآ أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ } [ إبراهيم : 21 ] ، وقال في آية أخرى : { إِنَّا كُلٌّ فِيهَآ … } الآية [ غافر : 48 ] ، فلما أيسوا وانقطع رجاؤهم بالفرج من عندهم فزعوا عند ذلك إلى خزنة جهنم حيث قالوا : { ٱدْعُواْ رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِّنَ ٱلْعَذَابِ * قَالُوۤاْ أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِٱلْبَيِّنَاتِ } [ غافر : 49 - 50 ] ، فلما أيسوا منهم وانقطع رجاؤهم ، فزعوا إلى مالك يطلبون منه أن يسأل ربه ؛ ليقضي عليهم بالموت حيث قال : { وَنَادَوْاْ يٰمَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ } [ الزخرف : 77 ] ، فلما أيسوا ، سألوا ربهم الإخراج عنها ؛ ليعملوا غير الذي عملوا حيث قالوا : { رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ ٱلَّذِي كُـنَّا نَعْمَلُ } ، فاحتج عليهم : { أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ } أي : أولم نعمركم فيها من العمر مثل العمر الذي يتعظ به من يتعظ ، فهلا اتعظتم فيه ما اتعظ من اتعظ فيه ، وقد أعمرناكم مثل الذي أعمرنا أولئك ، أو كلام نحو هذا . { وَجَآءَكُمُ ٱلنَّذِيرُ } . قال بعضهم : جاءكم الرسول وأنذركم هذا فقد كذبتموه . وقال بعضهم : { وَجَآءَكُمُ ٱلنَّذِيرُ } أي : الشيب ، ومعناه - والله أعلم - أي : قد رأيتم وعاينتم تغير الأحوال في أنفسكم من حال إلى حال : من حال الصغر إلى الكبر من الشباب إلى الشيب ، ثم الرد إلى أرذل العمر ، فهلا اتعظتم به كما اتعظ أولئك ، فذوقوا ما أنذركم به الرسل { فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ } . وقوله : { إِنَّ ٱللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } . هذا يخرج على وجهين : أحدهما : على الوعيد والتخويف ، أي : هو عالم بالأشياء التي لم يمتحنها بمحن ، ولا أمرها بأمور ، ولا نهاها بمناه ، فالذين امتحنهم بأنواع المحن ، وأمرهم بأوامر ، ونهى بمناه - أحق أن يكون عالماً بهم . والثاني : أنه على علم بما يكون من خلق السماوات وأهل الأرض ، خلقهم وبعث إليهم الرسل من التكذيب لهم والردّ عليهم ، لا عن سهو وجهل بما يكون منهم ؛ ليعلم أنه إنما بعث إليهم الرسل لحاجة أنفس المبعوث إليهم ولمنفعة لهم في ذلك ، لا لحاجة المرسل والباعث ولمنفعة له ؛ لذلك خرج البعث إليهم على علم بما يكون منهم من التكذيب والرد للرسالة على الحكمة وفي الشاهد على السفه ؛ لأن في الشاهد إنما يبعث الرسل إلى من يبعث لحاجة نفسه ولمنفعة له في ذلك ، فخرج البعث إليه على علم منه بالتكذيب والردّ عليه سفها وباطلا ، ومن الله حكمة وحقّاً ، والله أعلم . وقوله : { إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ } . وكأن ذات الصدور هم البشر ، خصهم بعلم ما يكون منهم ؛ لأنهم أهل تمييز وبصر وامتحان ، فيخرج ذلك مخرج الوعيد لهم والتحذير ، وأما غيرهم من الدواب ونحوها فلا محنة عليهم ولا تمييز لهم ؛ لذلك خص هؤلاء بذلك ، وإن كان عالماً بالكل بذات الصدور وغير ذات الصدور ، والله أعلم .