Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 35, Ayat: 39-41)
Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله : { هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ فِي ٱلأَرْضِ } . فإن كان المخاطبون به أصحاب رسول الله وأمته ، فيخبر أنه جعلهم خلائف من تقدم منهم من القرون والأمم الماضية بعد ما أهلكوا أو استؤصلوا ، وإن كان المخاطبون به بني آدم كلهم فيخبر أنكم خلف من تقدمكم من الجن والملائكة ؛ لأنه ذكر أن الجن كانوا سكان الأرض قبل بني آدم ، فجعلوا خلائف الجن . ثم وجه الحكمة في جعل بعض خلائف بعض وإنشاء قرن بعد فناء آخر ، وإفناء آخر بعد إنشاء آخر وجوه : أحدها : أن يعرفوا أنه إنما أنشأهم لعاقبة تقصد وتتأمل ؛ حيث أنشأ قرناً ثم أفناهم ، ثم أنشأ غيرهم ، ولو لم يكن في إنشائهم إلا هذا ، كان إنشاؤه إياهم للفناء خاصة ؛ إذ من بنى في الشاهد بناء للنقض والفناء لا لعاقبة تقصد به ، كان في بنائه عابثاً سفيها ؛ فعلى ذلك إنشاء هؤلاء في هذه الدنيا ، لو لم يكن لعاقبة كان الإنشاء للفناء ، وذلك عبث غير حكمة . والثاني : أن يعرفوا أن الدنيا ليست هي دار القرار والمقام ، إنما هي مجعولة زاداً للآخرة ، وبلغة إليها ، ومسلكاً لها ، ومنزلا ينزل فيها ؛ ثم يرتحل كالمنازل المجعولة للنزول فيها في الأسفار والتزود منها ثم الارتحال ، لا للمقام فيها ؛ فعلى ذلك الدنيا جعلت لما ذكرنا ؛ لئلا يطمئنوا إليها ولا يركنوا ويعملون عمل من يريد الارتحال عنها لا عمل المقيم فيها . والثالث : أن يعرفوا أن الآلام التي جعلت فيها واللذات ليست بدائمة أبداً ، بل على شرف الزوال والتحول ؛ لأن في الحياة لذة وفي الموت ألماً ، فلا دامت اللذة و [ لا ] الألم ؛ لأنه أحيا قرناً ثم أفناهم ثم أحيا قرناً آخر وأفناهم ، فلا دامت اللذة ولا الآلام ، ولكن انقضيا ؛ ليعلموا أنهما لا يدومان أبداً ، ولكن يزولان . والرابع : أن يعتبروا بمن تقدم منهم من القرون : أنه على ماذا يكون الثناء الحسن ، ويبقى الأثر والذكر الجميل ؟ وبأي عمل ينقطع ويفنى ذلك ؟ فمن كان من متبعي الرسل وقادة الخير والتوحيد والطاعة ، فبقي له أثر الخير والثناء الحسن والذكر الجميل ، ومن كان من أتباع أهل الكفر والشر لم يبق لهم شيء من ذلك ؛ ليعملوا بالذي يُبقي لهم الثناء الحسن ويعقب لهم الذكر لا الذي يقطع ذلك ، والله أعلم . وقوله : { فَمَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ } . أي : عليه ضرر كفره . { وَلاَ يَزِيدُ ٱلْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً … } الآية . أي : لا يزيد كفرهم بالله وبرسوله وعبادتهم الأصنام إلا مقتاً وخساراً ؛ لأنهم كانوا يعبدونها رجاء أن تشفع لهم يوم القيامة ، ورجاء أن تقرب عبادتهم إلى الله زلفى ؛ يقول - والله أعلم - : لا يزيد ذلك لهم إلا مقتاً من ربهم وخساراً . أو يكون أعمالهم التي عملوا في هذه الدنيا من صلة الأرحام والقرب التي رجوا منها الربح والنفع في الآخرة لا يزيد ذلك لهم إلا مقتاً وخساراً ، والله أعلم . وقوله : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَآءَكُمُ ٱلَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ ٱلأَرْضِ } . ظاهر قوله : { أَرُونِي } أمر ، لكنه يخرج على وجهين : أحدهما : على الإعجاز ، أي : يعجز ولا يقدر ما تعبدون من دونه خلق السماوات والأرض ، ولا إشراكه في خلق السماوات ، ولا إنزال كتاب من السماء ؛ ليأمرهم بذلك ، بل الله هو الخالق لذلك كله وهو القادر عليه ، فكيف صرفتم العبادة عنه والألوهية إلى من هو عاجز عن ذلك كله ؟ ! والثاني : على التنبيه والتعبير لهم والتسفيه لأحلامهم ؛ يقول - والله أعلم - : إنكم تعلمون أن الأصنام التي تعبدونها دون الله وتسمونها : آلهة لم يخلقوا شيئاً مما ذكر ، ولا لهم شرك في ذلك ولا لكم كتاب يبيح لكم ذلك ويأذن لكم ، وتعلمون أن الله هو الفاعل لذلك كله حيث قال : { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ } [ لقمان : 25 ] ، ولا لهم كتاب في ذلك ؛ لأن الكتاب جهة وصوله إليه الرسول ، وأنتم لا تؤمنون بالرسول ، فكيف عبدتموها وتركتم عبادة من تعلمون أنه الفاعل لذلك والقادر عليه ؟ ! وقوله : { مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ ٱلأَرْضِ } . يحتمل جواهر الأرض نفسها ، ويحتمل الخارج منها مما به معاشهم وقوامهم ؛ وكذلك قوله : { أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ } يحتمل في جواهرها ، ويحتمل ما ينزل عنها مما به معاشهم وأرزاقهم . وقوله : { فَهُمْ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّنْهُ } أي : على حجة وبيان منه . وقوله : { بَلْ إِن يَعِدُ ٱلظَّالِمُونَ بَعْضُهُم بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً } . يحتمل وعدهم الذي ذكر لبعضهم بعضاً ما قالت القادة منهم والرؤساء للأتباع : { هَـٰؤُلاۤءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ ٱللَّهِ } [ يونس : 18 ] ، و { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَىۤ } [ الزمر : 3 ] وما لبسوا هم على الأتباع من أمر الكتاب والرسول : هو ساحر كذاب ، وأنه مفتر ، وأمثال ذلك مما يكثر عدده ، فذلك كله منهم تغرير للأتباع . وقوله : { إِنَّ ٱللَّهَ يُمْسِكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ أَن تَزُولاَ وَلَئِن زَالَتَآ إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ } . يحتمل أن يكون هذا صلة ما تقدم من قوله : { أَرُونِي مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ ٱلأَرْضِ } ، فإن كان على هذا فيقول : تعلمون أن الله هو رافع السماوات والأرض والممسك لهما والمانع عن أن تزولا عن مكانهما ، لا يقدر أحد على إعادتهما ، ولا أمسكهما سواء ، فكيف تعبدون من لا يملك ذلك ؟ ! أو أن يكون ذلك قوله : { تَكَادُ ٱلسَّمَٰوَٰتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ ٱلأَرْضُ … } الآية [ مريم : 90 ] ، كادتا أن يتفطرن ويتشققن حين قالوا : لله ولد ، وله شريك ، فإذا قالوا : اتخذ الله ولدا كادتا أن تزولا من مكانهما ، وتسقطا عليهم تعظيماً ؛ لما قالوا في الله سبحانه . وجائز أن يكون لا على الصلة بشيء مما ذكرنا ولكن على الابتداء ، فإن كان على الابتداء فهو يخبر عن قدرته وسلطانه ؛ حيث رفع السماء وأمسكها في الهواء مع غلظها وشدتها بلا عمد من تحت ولا شيء من فوق ، يمنعها عن الانحدار والزوال عن مكانها والإقرار على ذلك والتقرير ، وفي الشاهد أن ليس في وسع أحد من الخلائق إمساك الشيء في الهواء ولا إقامته إلا بأحد هذين السببين : إما من تحت ، وإما من فوق ، وكذلك الأرض حيث دحاها وبسطها على الماء ، ومن طبعها التسرب والتسفل في الماء لا القرار عليه ؛ حيث لا يحفر مكان منها إلا ويخرج منه الماء ؛ فدل تقرير الأرض على الماء وإمساك السماء في الهواء بلا شيء يقرهما ويمنعهما عن التسفل والانحدار - أنه الواحد القادر بذاته لا يعجزه شيء . وقوله : { إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً } . { حَلِيماً } : حين لم يرسل السماوات عليهم ؛ لعظيم فريتهم على الله والقول فيه بما لا يليق به - سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوّاً كبيراً - وحيث لم يعجل بعقوبتهم في الدنيا ، { غَفُوراً } : رحيماً حيث ستر عليهم ذلك ، ولم يفضحهم في الدنيا ، والله أعلم .