Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 35, Ayat: 5-8)
Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله : { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ } . قال عامة أهل التأويل : { إِنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ } أي : البعث أنه كائن لا محالة . وجائز أن يكون قوله : { وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ } فيما وعد من الثواب على الطاعات ، ووعده حق فيما أوعد من العقاب على السيئات أنه يكون ، والله الموفق . وقوله : { فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَا } . معنى قوله : { فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَا } - والله أعلم - أي : لا تشغلنكم الحياة الدنيا عن ذكر الحياة الآخرة ، ولا تنسينكم الحياة الدنيا عن حياة الآخرة ، وإلا الدنيا لا تغر أحدا في الحقيقة ، وكذلك هي [ ليست ] بلعب ولا لهو ، ولا هي غارة ، ولكن يغر أهلها بها لما غفلوا عما جعلت هي وأنشئت ، وهو ما ذكرنا : أنها جعلت زادا للآخرة وبلغة إليها ، فمن لم يجعلها زاداً للآخرة ولا بلغة إلى الوصول إلى الآخرة ، ولكن جعلها في غير ما جعلت هي وأنشئت وهي الحياة فيها والمقام بها - صارت لعباً ولهواً ، وصارت غروراً ؛ إذ صيروها كالمنشأة لنفسها لا للآخرة ، وهذا كما قال : { وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَـٰذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَىٰ رِجْسِهِمْ } [ التوبة : 124 - 125 ] أخبر أن السورة كانت تزيد لأهل الإيمان إيماناً ، ولأهل الكفر والنفاق رجساً وعمى ، والسورة لا تزيد رجساً ولا عمى في الحقيقة ؛ لأنه وصف القرآن بأنه نور وأنه هدى ورحمة وبرهان ، ولكن صار عمى [ و ] رجساً لمن أعرض عنه وكذب ورده ، وأما من تلقاه بالقبول وأقبل عليه ، ونظر إليه بالتعظيم والإجلال له والخضوع - فهو له نور وهدى ورحمة ؛ فعلى ذلك الدنيا وما فيها من النعم واللذات ، إذا جعلها غير ما جعلت هي وأنشئت صارت لعباً ولهواً وغروراً ، بل لو حمدت هي على ما أنشئت مكان ما ذمت لكان حقّاً وصدقاً ؛ لأنها سمي نعيمها : حسنة وخيراً وصلاحاً ونحوه ؛ فلا جائز أن يذم الحسنة والخير ، بل حق الذم على أهلها حيث غروا بها وصيروها في غير ما صيرت وجعلت لغفلتهم عما جعلت هي ، وصرفهم إياها إلى غير الذي صرفت ، وجهلهم بها ؛ وعلى ذلك لا يجوز ذم الغناء والسعة والصحة والسلامة ؛ لأن ذلك كله نعم من الله أنعمها على الناس ؛ فيجب أن ينظروا إلى ما عليهم لله من الشكر في ذلك فيؤدوه ؛ وكذلك العز والثناء الحسن ونحوه لا يجب أن يذم شيء من ذلك ، بل يذم من لم يعرف أن العز فيم ؟ إنما العز في طاعة الله والعبادة له لا في معاصيه ، فهؤلاء سموا معصية الله : عزّاً ؛ لجهلهم في العز ؛ وكذلك الثناء الحسن يجب أن يحمد ربه ويشكر له فيما يستر على الخلق فضائحه ومساوئه ، حتى أثنوا عليه ما لو بدا ذلك منه وأظهر لهربوا منه فضلا أن يثنوا عليه ويحمدوه ؛ فيجب أن يشكر ربه ويثني عليه على ستر معاصيه وفضائحه ، والله الموفق . وقوله : { وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بِٱللَّهِ ٱلْغَرُورُ } . الغرور - بفتح الغين - هو الشيطان ؛ يقول : لا يغرنكم بالله الشيطان . ثم يحتمل قوله : { بِٱللَّهِ ٱلْغَرُورُ } وجوهاً : أحدها : { وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بِٱللَّهِ } أي : بكرمه وجوده ، يقول : إنه كريم وجواد غفور يتجاوز عنكم ويعفو عنكم معاصيكم [ و ] مساوئكم . والثاني : { وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بِٱللَّهِ ٱلْغَرُورُ } أي : بغناه ؛ يقول : إنه غني ما به حاجة إلى عبادتكم إياه ، فيما أمركم به ونهاكم عنه . والثالث : أن يكون قوله : { وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بِٱللَّهِ } أي : لا يغرنكم عن طاعة الله وعبادته فتعصوه ، وذلك جائز في اللغة " الباء " مكان " عن " ؛ كقوله : { عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ ٱللَّهِ } [ الإنسان : 6 ] أي : عنها ؛ إذ لا يشرب بالعين وإنما يشرب عنها ، والله أعلم . وقوله : { إِنَّ ٱلشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَٱتَّخِذُوهُ عَدُوّاً } . يذكر هذا - والله أعلم - لأن ما يدعو الشيطان الخلق إليه في الظاهر يخرج مخرج الشفقة لهم والنصيحة كما يدعو الأولياء ؛ لأنه يدعوهم إلى قضاء شهواتهم ولذاتهم وما تهوى به أنفسهم ، وإن كان يضمر ويقصد به هلاكهم ؛ ألا ترى أنه كيف أظهر لآدم وحواء من الشفقة لهم والنصيحة حيث قال : { مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَـٰذِهِ ٱلشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ … } [ الأعراف : 20 ] إلى قوله : { لَمِنَ ٱلنَّاصِحِينَ } [ الأعراف : 21 ] ونحوه ، وكان قصده بذلك ما ذكر : { فَوَسْوَسَ لَهُمَا ٱلشَّيْطَانُ … } [ الأعراف : 20 ] الآية ، هذا كان يضمر ويقصد في دعائه إياهما إلى التناول من تلك الشجرة التي نهاهما ربهما [ عنها ] ؛ فعلى ذلك فيما يدعو الناس به إلى قضاء شهواتهم وحاجاتهم في الظاهر ، فهو يقصد بذلك هلاكهم لمخالفتهم المولى لا ما يظهر ويبدي لهم ؛ لذلك قال : إنه عدو لكم ليس بولي ، { فَٱتَّخِذُوهُ عَدُوّاً } ، أي : كونوا من دعائه وأمره على حذر ، كما يحذر المرء دعاء عدوه . { إِنَّمَا يَدْعُواْ حِزْبَهُ } . قال بعضهم : أهل طاعته . وقال القتبي و [ أبو ] عوسجة : حزبه : أنصاره ، والحزب : الأنصار . وقال بعضهم : جنده . وقال بعضهم : حزبه : ولاته الذين يتولاهم ويتولونه ؛ وكله واحد . ثم يقول : { إِنَّمَا يَدْعُواْ حِزْبَهُ } لكنه خصّ حزبه بالدعاء لهم ؛ لما أن حزبه هم بالمجيبون له والمطيعون ، فأما غير حزبه فلا يجيبونه ؛ وهو كقوله : { إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ ٱتَّبَعَ ٱلذِّكْرَ وَخشِيَ ٱلرَّحْمـٰنَ بِٱلْغَيْبِ } [ يس : 11 ] ، وكان ينذر من اتبع الذكر ومن لم يتبع الذكر ، لكن خص بإنذار من اتبع الذكر ؛ لما أن متبع الذكر هو المنتفع به دون من لم يتبع ؛ لذلك خص - والله أعلم - فعلى ذلك ما خصّ بدعائه حزبه ؛ لأن حزبه هم المجيبون له والمطيعون . وقوله : { لِيَكُونُواْ مِنْ أَصْحَابِ ٱلسَّعِيرِ } . قصد بدعائه إلى ما يدعوهم ، ليكونوا من أصحاب السعير ، وإلا لو كان أظهر لهم الدعاء إلى أصحاب السعير ما أجابوه ولا أطاعوه ، ولكن دعاهم إلى أعمال توجب لهم السعير ، أو ليكون لهم عذاب السعير . وقوله : { ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ } : وهو ظاهر . { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ } . قوله : { لَهُم مَّغْفِرَةٌ } لما عملوا من غير الصالحات بعد إيمانهم ، أو مغفرة لذنوبهم في الإيمان ، { وَأَجْرٌ كَبِيرٌ } لإيمانهم وأعمالهم الصالحات . وقوله : { أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوۤءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً } . ليس لهذا الحرف في ذا الموضع جواب ، فجائز أن يكون جوابه في قوله : { فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ } على التقديم له ، كأنه يقول - والله أعلم - : { أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوۤءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً } ، { فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ } ، فإن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء . أو أن يكون قوله : { أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوۤءُ عَمَلِهِ } فلزمه كمن قبح له ؛ فانتهى عنه ، ليسا بسواء ، كقوله : { أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَٰهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي ٱلنَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي ٱلظُّلُمَٰتِ } [ الأنعام : 122 ] ذكر أن قوله : { أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَٰهُ } [ الأنعام : 122 ] نزل في عمر بن الخطاب ، وقوله : { كَمَن مَّثَلُهُ فِي ٱلظُّلُمَٰتِ } [ الأنعام : 122 ] في أبي جهل ؛ فعلى ذلك الأول ، وأن يكون ما ذكر بدءاً على التقديم والتأخير . وقوله : { فَإِنَّ ٱللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ } : من الضلالة إلى الهدى ، يضل من علم منه أنه يختار الضلال ، ويهدي من علم منه أنه يختار الهدى . وقوله : { فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ } . هذا يحتمل وجوهاً : أحدها : قوله : { فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ } أي : لا تضل ولا تذهب نفسك عليهم حسرات ؛ إشفاقاً على ما ينزل بهم بتركهم الإيمان ؛ لأن رسول الله كاد أن يهلك نفسه إشفاقاً عليهم فنهاه عن ذلك . والثاني : على تخفيف الحزن عليه ودفعه عنه وتسليته إياه ؛ لأنه يشتد به الحزن ، لمكان كفرهم وتكذيبهم إياه وتركهم الإيمان به ليس على النهي ؛ كقوله : { وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ } [ الحجر : 88 ] وقد ذكرنا معناه فيما تقدم مقدار ما حفظنا فيه ، والله أعلم . وقوله : { إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ } . هذا يخرج على وجهين : أحدهما : أن الله تعالى على علم بصنيعهم أنشأهم ، لا عن جهل بما يكون منهم . والثاني : عليم بما يصنعون ؛ فلا تكافئهم ولا تشغلن بشيء مما يكون منهم ، ولكن فوض ذلك إلى الله وأسلم إليه .