Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 36, Ayat: 59-67)
Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله : { وَٱمْتَازُواْ ٱلْيَوْمَ أَيُّهَا ٱلْمُجْرِمُونَ } . كأن أهل الجنة وأهل النار يكونون مختلطين ، فيفرق هؤلاء ؛ لأنهم يكونون في الابتداء مجموعين ، وكذلك سمي : يوم الجمع ، ويوم الحشر ، ثم يفرق بينهم ؛ كقوله : { فَرِيقٌ فِي ٱلْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي ٱلسَّعِيرِ } [ الشورى : 7 ] ، وسمي : يوم الفصل . وأصل قوله : { وَٱمْتَازُواْ ٱلْيَوْمَ } ليس على الأمر في الحقيقة : أن افترقوا ، ولكن على حقيقة التفريق على ما ذكر في آية أخرى : { لِيَمِيزَ ٱللَّهُ ٱلْخَبِيثَ مِنَ ٱلطَّيِّبِ } [ الأنفال : 37 ] ، وأصل الامتياز : الافتراق والاعتزال ؛ وبه يقول أبو عوسجة والقتبي : إن الامتياز هو التفرق والتنحي . وقوله : { أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يٰبَنِيۤ ءَادَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ ٱلشَّيطَانَ } . يخرج على وجوه ثلاثة : أحدها : عهد خلقة وبنية ؛ إذ قد جعل الله تعالى في خلقة كل أحد وبنيته ما يشهد على وحدانيته ، وجعل العبادة له ويصرفها عمّن دونه ، فنقضوا ذلك العهد وصرفوا العبادة إلى غيره والألوهية . والثاني : ما أخذ عليهم من العهد على ألسن الرسل والأنبياء من الأمر والنهي . والثالث : ما جعل فيهم من الحاجات والشهوات التي يحملهم قضاؤها من عنده على صرف العبادة إليه والشكر له على نعمائه ، وجعل الألوهية له ، ويمنعهم صرفها إلى غيره وجعلها لمن دونه ، فنقضوا ذلك كله وتركوه . فإن قيل : ذكر عبادة الشيطان ، ولا أحد يقصد قصد عبادة الشيطان ولا يعبده ، بل كل يفرّ عن عبادته ويهرب منه ، لكنه يخرج على وجهين : أحدهما : يحتمل أن يريد بالشيطان : المردة من الكفرة والأئمة منهم الذين صرفوهم عن عبادة الله ، سموا شيطاناً ؛ لما بعدوا عن رحمة الله ؛ شطن ، أي : بعد ، كقوله : { وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَٰطِينَ ٱلإِنْسِ وَٱلْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ ٱلْقَوْلِ غُرُوراً } [ الأنعام : 112 ] . والثاني : نسب تلك العبادة إلى الشيطان وأضافها إليه ، وإن كانوا هم لا يقصدون بعبادتهم الشيطان ؛ لِمَا بأمره يعبدون ما يعبدون من الأصنام ؛ فنسب إليه بالأمر ، أو لما كان منه بداية الأمر ، والله أعلم . وقوله : { إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } . عداوته لنا ظاهرة بينة في كل شيء ، حتى في المأكل والمشرب والمبلس ؛ كقوله : { فَوَسْوَسَ لَهُمَا ٱلشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا … } الآية [ الأعراف : 20 ] ؛ إذ هو يريد أن يوقعنا في المهالك فهو عدوّ لنا . وقوله : { وَأَنِ ٱعْبُدُونِي هَـٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ } . أي : اعبدوني فإن عبادتي هي الصراط المستقيم . وقوله : { وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً } . يحتمل قوله : { أَضَلَّ مِنْكُمْ } ، أي : أهلك ، وهو ما أهلك من القرون المتقدمة نحو عاد وثمود وقروناً غير ذلك ، والإضلال يكون الإهلاك في اللغة . ويحتمل على حقيقة الإضلال عن الهدى . ثم هو يخرج على وجهين : أحدهما : أن قد رأيتم وعلمتم أنه قد أهلك الله خلقاً كثيراً بإبليس بما ضلوا به واستأصلهم لذلك ؛ فكونوا أنتم يا معشر أهل مكة على حذر منه ؛ لئلا ينزل بكم ما نزل بأولئك بضلالهم به - والله أعلم - { أَفَلَمْ تَكُونُواْ تَعْقِلُونَ } : أنه فعل ذلك بهم ، يخرج على التعيير والتوبيخ لهم لترك هؤلاء النظر في أمر أولئك . والثاني : قوله : { جِبِلاًّ كَثِيراً } : قال بعضهم : جموعاً كثيرة . وقال بعضهم : خلقاً كثيراً . وقال بعضهم : أمماً كثيرة ؛ وكله واحد ، وأصله من قولك : جبلهم على كذا ، أي : طبعهم ، ويقرأ : { جُبلاًّ } و { جِبِلاًّ } برفع الجيم والتشديد وخفضها والتشديد . قال أبو عوسجة : الجبلة والجبلة : الخلق . وقوله : { هَـٰذِهِ جَهَنَّمُ ٱلَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ } . يشبه أن يكونوا لما رأوا جهنم قالوا : ما هذا الذي نراه ؟ ! فعند ذلك قيل لهم : { هَـٰذِهِ جَهَنَّمُ ٱلَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ } بها ، { ٱصْلَوْهَا ٱلْيَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ } ، أي : ادخلوها اليوم بما كنتم تكذبون بها ، والله أعلم . وقوله : { ٱلْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوَاهِهِمْ } . أي : نطبع على أفواههم ، فلا يتكلمون { وَتُكَلِّمُنَآ أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } . كأنهم - والله أعلم - لما أنكروا كفرهم وشركهم وعملهم الذي عملوه في الدنيا ؛ كقولهم : { وَٱللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } [ الأنعام : 23 ] ، وأمثاله عند ذلك يأذن الله لسائر جوارحهم وأركانهم بالنطق والشهادة عليهم بما عملوا ؛ كقوله : { يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ … } الآية [ النور : 24 ] ، وقوله : { شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ … } الآية [ فصلت : 20 ] ، ثم أنطق ألسنتهم حتى يعاتبوا الجوارح في شهادتها عليهم بقوله : { لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوۤاْ أَنطَقَنَا ٱللَّهُ ٱلَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ } [ فصلت : 21 ] . وفيه أن النطق والكلام الذي يكون من اللسان لا يكون لأنه لسان أو لنفس اللسان ، ولكن للطف يجعل الله ذلك في اللسان فينطق ، فيحثما جعل ذلك اللطف والمعنى في أي جارحة ما جعل نطقت وتكلمت ، ولو كان النطق والكلام لنفس اللسان ، لكان يجب أن ينطق لسان كل ذي لسان لما له اللسان ، فإذا لم ينطق دل أنه للطف جعل فيه به ينطق ويتكلم ، فحيثما جعل ذلك المعنى واللطف نطق وتكلم ؛ وكذلك السمع والبصر وكل جارحة منه من اليد والرجل وغيره جعل لطفاً ومعنى به يسمع السمع ، وبه يبصر البصر ، وبه تأخذ وتقبض اليد ، وبه تمشي وتذهب الرجل ، فأينما جعل ذلك اللطف وذلك المعنى كان منه ذلك ما كان من السمع والبصر وغيره ؛ وكذلك الأطعمة والمياه ليس الغذاء في عينها ، ولكن في لطف جعل الله فيها لطفاً ومعنى يصير ذلك غذاء لهم ؛ ألا ترى أن عين الطعام تبقى فيرمى به وينتفع بما فيه من الغذاء ؟ ! والله أعلم . وقوله : { وَلَوْ نَشَآءُ لَطَمَسْنَا عَلَىٰ أَعْيُنِهِمْ فَٱسْتَبَقُواْ ٱلصِّرَاطَ فَأَنَّىٰ يُبْصِرُونَ } . قال بعض أهل التأويل : لو نشاء لطمسنا أعين الضلال ، فاستبقوا فلم يبصروا الطريق ، فأنى يبصرون وقد فقأنا أعينهم . وقال بعضهم : لو نشاء لحولنا أبصارهم من الضلالة إلى الهدى ، فلو طمست : أي : حولت [ عن ] الكفر - لاستبقوا الصراط ، يقول : لأبصروا طريق الهدى ، ثم قال : { فَأَنَّىٰ يُبْصِرُونَ } يقول : فمن أين يبصرون الهدى إن لم أعم عليهم طريق الكفرة ؟ ! { وَلَوْ نَشَآءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَىٰ مَكَـانَتِهِمْ } . أي : لأقعدناهم على أرجلهم لا يتقدمون ولا يتأخرون . ويشبه أن يكون على خلاف هذا على التمثيل ؛ يقول - والله أعلم - : لو طمسنا أعينهم وأعميناهم فاستبقوا الطريق { فَأَنَّىٰ يُبْصِرُونَ } ، أي : لا يبصرون الطريق ؛ فعلى هذا إذا طمسنا أعين القلوب فأعميناها ، فأنى يبصرون الهدى ، أي : لا يبصرون . { وَلَوْ نَشَآءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَىٰ مَكَـانَتِهِمْ فَمَا ٱسْتَطَاعُواْ مُضِيّاً وَلاَ يَرْجِعُونَ } . يقول [ ذلك ] - والله أعلم - على التمثيل ، أي : لو حولنا ظاهر خلقتهم وصيرناها خنازير وقردة حتى ذهبنا بمنافع أنفسهم ظاهرة ، فما استطاعوا مضيّاً ولا يرجعون ؛ فعلى ذلك إذا مسخنا قلوبهم وحولناها عن مكانها ما انتفعوا بها كما [ لم ] ينتفعوا بظواهر جواهرهم ، على التمثيل لا على التحقيق . وفي قوله : { وَلَوْ نَشَآءُ لَطَمَسْنَا عَلَىٰ أَعْيُنِهِمْ } ، { وَلَوْ نَشَآءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَىٰ مَكَـانَتِهِمْ } دلالة أن لله في ذلك صنعاً ؛ إذ لو لم يكن [ له ] فيما يختارون من الأفعال والأعمال صنع ، لم يكن لتوعدهم على إذهاب ذلك وتحويله عن مكانه معنى ، فدل أن له صنعاً في ذلك وفعلا . قال الحسن وقتادة في قوله : { وَلَوْ نَشَآءُ لَطَمَسْنَا عَلَىٰ أَعْيُنِهِمْ } فتركناهم عميا يترددون { وَلَوْ نَشَآءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَىٰ مَكَـانَتِهِمْ } : أي : لأقعدناهم على أرجلهم على ما ذكر . { فَمَا ٱسْتَطَاعُواْ مُضِيّاً وَلاَ يَرْجِعُونَ } . يقول - والله أعلم - : ما استطاعوا أن يتقدموا ويتأخروا . وابن عباس - رضي الله عنه - يقول ما تقدم ذكره ، أي : لو شاء غير أعين الضلال فلم يبصروا الطريق { فَأَنَّىٰ يُبْصِرُونَ } أي : كيف يبصرون ، أو نحوه من الكلام . ومقاتل يقول : لو شاء طمس أعينهم ظاهره { فَٱسْتَبَقُواْ ٱلصِّرَاطَ فَأَنَّىٰ يُبْصِرُونَ } ، أي : لا يبصرون ، وهو قريب مما ذكر آنفاً . وجائز أن يكون على التمثيل على ما ذكرنا بدءاً . ويحتمل على التحقيق أن من قدر على الطمس أو المسخ وما ذكر من النكس ، لا يعجزه شيء من البعث وغيره ؛ إذ خلق الإنسان للطمس أو المسخ خاصة لا لعاقبة تقصد ليس بحكمة . أو يذكر أنه لو شاء لطمسهم ولمسخهم ، لكنه تركهم فلم يطمسهم ولم يمسخهم ؛ ليبقوا في النعمة ؛ ليشكروا نعمه .