Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 38, Ayat: 30-40)

Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله - عز وجل - : { وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ ٱلْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ } . أثنى الله - عز وجل - على داود وابنه سليمان - عليهما السلام - بالأوبة إليه والرجوع ، وهو ما قال - عز وجل - في داود - عليه السلام - : { وَٱذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا ٱلأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ } [ ص : 17 ] وقد فسرنا الأوّاب . وقال في سليمان - عليه السلام - : { إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِٱلْعَشِيِّ ٱلصَّافِنَاتُ ٱلْجِيَادُ … } إلى آخر ما ذكر . دل ذكر قوله - عز وجل - : { إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ } على أثر قوله : { إِنَّهُ أَوَّابٌ } أنه إنما كان أواباً بالذي ذكر منه ؛ لأن حرف { إِذْ } لا يذكر إلا عن شيء سبق ، وسمى - عز وجل - داود - عليه السلام - : أواباً بما ذكر من تسبيحه بالعشي والإشراق والفزع إليه بما هو به ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِٱلْعَشِيِّ ٱلصَّافِنَاتُ ٱلْجِيَادُ } : قيل : الصافنات : هو الخيل . وقال بعضهم : الصافنات : هي القائمات على ثلاث قوائم ، رافعات إحدى الرجلين ، أو إحدى اليدين على طرف الحافر . وقال بعضهم : الصافنات : هن القائمات لا غير ؛ وعلى ذلك ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من تمنى أن يقوم له الرجال صفوناً - أي : قياماً - فليتبوأ مقعده من النار " أو كلام نحوه . والجياد : قيل : السراع ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { فَقَالَ إِنِّيۤ أَحْبَبْتُ حُبَّ ٱلْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي حَتَّىٰ تَوَارَتْ بِٱلْحِجَابِ } . دل ما سبق من ذكر الصافنات الجياد بالعشي على أن قوله - عز وجل - : { حَتَّىٰ تَوَارَتْ بِٱلْحِجَابِ } إنما أراد به تواري الشمس بالحجاب ؛ إذ ليس شيء يتوارى بالحجاب في ذلك الوقت سوى الشمس . ثم قوله - عز وجل - : { إِنِّيۤ أَحْبَبْتُ حُبَّ ٱلْخَيْرِ } حتى شغلني عن ذكر ربي ؛ إذ المحبة يجوز أن يكنى بها عن الإيثار ، والله أعلم . والثاني : إني أحببت حب الخير حبا حتى شغلني عن ذكر ربي حتى توارت الشمس بالحجاب على التقديم والتأخير ، والله أعلم . ثم قوله - عز وجل - : { حُبَّ ٱلْخَيْرِ } يجوز أن يكنى بالخير عن الخيل نفسه ؛ على ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة " ، سمى الخيل : خيراً ؛ فعلى ذلك قوله - تعالى - : { إِنِّيۤ أَحْبَبْتُ حُبَّ ٱلْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي } ، والله أعلم . وقال بعضهم : صفونها : قيامها وبسطها قوائمها . وقوله - عز وجل - : { رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِٱلسُّوقِ وَٱلأَعْنَاقِ } . قال عامة أهل التأويل : أي : جعل يعقر سوق الخيل ويضرب أعناقها - والسوق : هو جماعة الساق - لما شغلته عن ذكر ربه وعن صلاة العصر حتى غفل عنها ، فجعل يقطع سوقها ويضرب أعناقها كفارة عما شغل عن ذكر ربه ، ثم إن ثبت ما ذكروا من عقر السوق والأعناق أنه على الحقيقة فهو يخرج على وجهين : أحدهما : أنه كان ذلك في شريعته جائزاً ، وإن كان في شريعتنا لا يجوز ، نحو ما ذكر عنه من تعذيب الهدهد وغيره جين تفقده ولم يجبه حيث قال - عز وجل - : { وَتَفَقَّدَ ٱلطَّيْرَ فَقَالَ مَالِيَ لاَ أَرَى ٱلْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ ٱلْغَآئِبِينَ * لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لأَاْذبَحَنَّهُ … } الآية [ الأنفال : 20 - 21 ] ، فمثله لا يجوز تعذيب الطير في شريعتنا ؛ فعلى ذلك جائز أن يكون ما ذكروا من عقر الخيل وضرب الأعناق له جائزاً في شريعته وإن كان ذلك لا يجوز عندنا ، والله أعلم . أو أن يكون ذلك منه قبل النهي عن القتل ، ثم جاء النهي عنه بعد ذلك فحرج عليه ذلك وعلينا جميعاً . وجائز أن يخرج تأويل الآية على غير حقيقة عقر الساق وضرب الأعناق لكن ما ذكر من الأعناق يكون كناية عن الذبح ، وقوله - عز وجل - : { فَطَفِقَ مَسْحاً بِٱلسُّوقِ } كناية عن التسليم إلى الناس ، أو أن يكون ما ذكر من المسح بالساق والأعناق كناية عن مسح وجهها ورأسها بعدما ردوها عليه ، والتسليم إلى الناس من غير أن كان هناك عقر أو ذبح أو كفارة عما غفل عن ذكر ربه . قال الحسن : قال سليمان - عليه السلام - : والله لا يشغلن عن عبادة ربي أحد ما عليك ، لكن كشف عراقبها وضرب أعناقها . ثم اختلف في تلك الخيل التي عرضت عليه ، فشغلته عن ذكر الله ، ففعل ما ذكر : قال بعضهم : إنها خيول ، أخرجها الشياطين من مروج البحر لسليمان - عليه السلام - لها أجنحة تعدو وتطير . وقال بعضهم : لا ، ولكن كانت خيلا ورثها من أبيه داود - عليه السلام - وكان داود - عليه السلام - أصابها من العمالقة ، وقال : وما بقي في أيدي الناس من الخيل فمن نسل بقية تلك الخيل ، والله أعلم . وقال بعضهم : لا ، ولكن أهل دمشق من العرب وأهل نصيبين جمعوا جموعاً لسليمان - عليه السلام - فأصاب منهم ألف فرس عراب ، فعرض عليه الخيل حتى شغلته عن ذكر ربه ، ففعل ما ذكر من قطع العراقيب وضرب الأعناق ، والله أعلم . وعن الحسن في قوله - عز وجل - : { رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِٱلسُّوقِ وَٱلأَعْنَاقِ } قال كسر عراقيبها وضرب أعناقها ، فأبدله الله خيراً منها ، وأرسل الريح { تَجْرِي بِأَمْرِهِ … } الآية . قال أبو معاذ : قوله - عز وجل - : { فَطَفِقَ مَسْحاً بِٱلسُّوقِ وَٱلأَعْنَاقِ } تقول العرب : مسح علاقة السيف مسحا ، أي ضربها . وقال القتبي : قوله - عز وجل - : { فَطَفِقَ مَسْحاً } ، أي : فأقبل يمسح يضرب سوقها وأعناقها . وقال أبو عوسجة : { فَطَفِقَ } ، أي : أخذ ، وجعل يمسح ، أي : يقطع ؛ يقال : مسح عنقه ، أي : قطعها . وقال القتبي : { ٱلصَّافِنَاتُ ٱلْجِيَادُ } يقال : هي القائمة على ثلاث قوائم وقد قامت الأخرى على طرف الحافر من يد كان أو من رجل ، والصافن في كلام العرب : الواقف من الخيل وغيرها على ما ذكر في الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من سره أن يقوم [ له ] الرجال صفوناً فليتبوأ مقعده من النار " أي : يديمون له القيام . وقال أبو عوسجة : الجياد من الخيل : السراع والواحد جواد ، ورجل جواد ، أي : سخي وقوم أجواد ، { أَحْبَبْتُ } ، أي : آثرت { ٱلْخَيْرِ } أي : المال على ذكر ربي وفي حرف حفصة : أي ألهاني حب الخير عن ذكر ربي ، أي : أشغلني . وقوله - عز وجل - : { وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَىٰ كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ } . اختلف أهل التأويل في سبب فتنة سليمان - عليه السلام - الذي ذكر أنه - عز وجل - فتنه وأنه ألقى على كرسيه جسداً - اختلافاً كثيراً بيناً ما يطول الكتاب بذكر كل ما ذكروا ، ولا ندري أكان ذلك سبب افتتانه أم لا ؟ مع علمنا أن ذلك كله لم يكن سبب فتنة إن كان وإنما كان واحد منها ولا ندري ما هو ؟ لذلك تركنا ذكر ما ذكر أولئك أنه كان سبب افتتانه . ثم يخرج قوله - عز وجل - : { وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ } على وجهين : أحدهما : أنه امتحن بأمر فكان منه في ذلك زلّة وغفلة ، فعوقب بما ذكر وعوتب بنزع ملكه . والثاني : أنه فتنه وامتحنه بنزع ملكه منه لا بزلة منه ولا عثرة ، وصرفه إلى غيره لا بسبب كان منه وزلة ويجعله لغيره ، ثم إن له أن ينزع الملك منه بأدنى سبب كان منه وزلة فعوقب ؛ لأن الأنبياء - عليهم السلام - كانوا مخصوصين بالعتاب والتعيير بأدنى شيء يكون منهم ما يعد ذلك الذي كان منهم من أفضل الأعمال على ما ذكرنا فيما تقدم ، ثم كان منهم من التوبة والتضرع إلى الله - عز وجل - بالذي كان منهم لما عرفوا لأنفسهم من الخصوصية لهم من الكرامات والفضائل التي خصوا هم بها ، فرأوا على أنفسهم بما أكرموا من أنواع الكرامات والفضائل التي خصوا هم بها من التوبة لله وفضل التضرع والابتهال إلى الله ؛ لما رأوا ما ارتكبوا كفرانا له فيما أنعم عليهم وأحسن إليهم - فضل تضرع وابتهال ما لا يلزم ذلك غيرهم فيماثل ما كان منهم ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَأَلْقَيْنَا عَلَىٰ كُرْسِيِّهِ جَسَداً } . يحتمل أن يكون كرسيه ملكه ؛ فيكون ما ذكر كناية عن نزع ملكه . وجائز أن يكون ما ذكر من إلقاء الجسد على كرسيه حقيقة الكرسي ألقى عليه جسداً يشبه جسد سليمان في الجسمية ، لا في العلم والمعرفة والبصر وما كان فيه من الكرامات ؛ كقوله - عز وجل - : { عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ } [ طه : 88 ] ، أي : عجلا مجسدا في الجسدية ، لا أن جسد العجل الذي اتخذه هو جسد العجل المعروف ؛ فعلى ذلك قوله - عز وجل - : { عَلَىٰ كُرْسِيِّهِ جَسَداً } يشبه جسد سليمان في الظاهر في الجسدانية ، لا في أن جسده كجسد سليمان فيما فيه من اللحم والبصر وغير ذلك ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { ثُمَّ أَنَابَ } . يحتمل وجهين : أحدهما : ثم أناب إلى الله تعالى ورجع إليه بجميع أموره إن كان فيه زلة وعثرة وأناب ورجع وأقبل وتاب ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { قَالَ رَبِّ ٱغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً } . يحتمل سؤال المغفرة عند سؤاله الملك أمراً فيما بينه وبين ربه ؛ لأن الملك مما يتلذذ به وفيه هوى النفس ؛ وعلى ذلك خرج سؤال زكريا - عليه السلام - لما سأل ربه - عز وجل - الولد سأل أمراً بينه وبين ربه في ذلك وهو ما قال : { رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً } [ آل عمران : 38 ] ؛ ولذلك خرج سؤال الأنبياء فيما سألوا مما فيه اللذة وهوى النفس من الولد وغيره فرقوا في ذلك السؤال أمراً بينهم وبين ربهم ، فعلى ذلك سؤال سليمان - عليه السلام - والملك قربة بالمغفرة في ذلك . ثم يحتمل سؤاله المغفرة نفسها عما يكون منه من التقصير في ذلك . أو يكون سؤاله المغفرة سؤال الأسباب التي بها يكون المغفرة لا نفس المغفرة ؛ نحو قول نوح - عليه السلام - لقومه : { ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً } [ نوح : 10 ] ، وقول هود - عليه السلام - : { ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوۤاْ إِلَيْهِ } [ هود : 52 ] لا يحتمل أن يأمروا قومهم أن قولوا : نستغفر الله ، ولكن أمروهم أن يأتوا بالأسباب التي بها يصيرون أهلا للمغفرة وبها يستوجبون التجاوز ، فعلى ذلك يحتمل سؤال المغفرة ما ذكرنا ، والله أعلم . ثم يحتمل سؤاله الملك - والله أعلم - أنه أراد أن يستسلم له الخلق في الإجابة إلى ما يدعو إليه من وحدانية الله تعالى وجعل العبادة له ؛ لما رأى أن إجابة الناس وإقبالهم إلى ما عنده من السعة والغناء أسرع ولقوله أقبل ورغبتهم فيه أكثر ، وإذا كان ما ذكرنا وهو متعارف فيما بينهم أن إجابتهم - أعني : إجابة الناس - للملوك ولمن عنده السعة والغنى أسرع لهم وأطوع ، فكان في سؤاله الملك له نجاة الخلق كلهم بما يستسلمون له ويجيبون إلى ما يدعوهم إليه ، فينجون نجاة لا هلاك بعدها ، والله أعلم . ثم قوله - عز وجل - : { وَهَبْ لِي مُلْكاً لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّن بَعْدِيۤ } يحتمل وجوهاً : أحدها : أنه سأله ملكاً لا ينزع عنه بعد إذ نزع مرة على ما يقوله أهل التأويل . والثاني : سأل ربه ملكاً لا يكون لأحد ما بقي وهو حي ، فيكون له آية لنبوته على ما ذكرنا [ ؛ إذ ] لو كان مثله لأحد منهم ، لم يكن له في ذلك آية لنبوته . والثالث : سأله ملكاً ليبقى له الذكر والثناء الحسن ؛ كقول الناس : " اللهم صل على محمد وعلى آلي محمد كما صليت على إبراهيم " ونحوه ، فعلى ذلك جائز أن يكون سليمان - عليه السلام - أراد أن يكون مذكوراً على ألسن الخلق بالثناء الحسن بالملك الذي يناله ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { فَسَخَّرْنَا لَهُ ٱلرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ } . بين ما أعطاه من الملك بما ذكر من تسخير الريح له والجن والشياطين وغير ذلك ما لم يكن لأحد من ملوك الأرض سواه ، وهذا يدل على أن تسخير هذه الأشياء التي ذكر أنه سخرها لسليمان - عليه السلام - كان بلطف من الله - عز وجل - لا يكون ذلك بالحيل ؛ إذ لا يملك أحد من الخلائق تسخير ما ذكر من الخلق لنفسه ، ولو كان يملك ذلك بالحيل لكان يبغي لذلك مع العلم أن كل ملك لا يترك لنفسه من الحيل ما يزيد من ملكه ويبقيه إلى ما بقي وهو حي ، فإذا لم يكن دل أنه إنما كان لسليمان ذلك بالله لطفاً منه ؛ ليكون آية من آيات النبوة ، والله أعلم . ثم قوله - عز وجل - : { تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَآءً حَيْثُ أَصَابَ } . وصف تلك الريح باللين والرخوة في هذا الموضع ، وقال في آية أخرى : { ٱلرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ } [ الأنبياء : 81 ] وصفها بالشدة : فجائز أن تكون هي في أصل الخلقة شديدة ، لكنها صارت لسليمان - عليه السلام - لينة سهلة . وقال قائلون : هي وقت الحمل شديدة ، لكنها تصير بالسير لينة سهلة ، والله أعلم . أو أن يكون قوله - عز وجل - : { عَاصِفَةً } على أعداء الله رخاء لينة على أوليائه ، والله أعلم . ثم فيما ذكر من جرية الريح بأمره حيث أراد وقصد ، لطف الله - عز وجل - بسليمان حين جعله بحيث تفهم الريح مراده ويفهم هو منها ما أرادت حتى كان يستعملها فيما شاء ، وكذلك ما فهم من نطق الطير وكلامه وكلام النمل الذي ذكر وتفهم هي منه ، فذلك كله لطف منه به ورحمة . وقوله - عز وجل - : { وَٱلشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّآءٍ وَغَوَّاصٍ } . أي : سخرنا له الشياطين حتى يستعملهم فيما شاء : بعضهم في البناء ، وبعضهم في الغوص في البحر لاستخراج ما فيه من الأموال ؛ ليتفرغ الناس لعبادة الله والخدمة لا يكون لهم شغل في البنيان ولا في مؤنة أنفسهم ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي ٱلأَصْفَادِ } . وآخرين لم يطيعوه فيما أمرهم من الأعمال في البناء والغوص وغير ذلك من الأعمال جعلهم في الأصفاد - وهي الأغلال تجعل في الأعناق - ليدفع شرهم وسوءهم عن الخلق حيث لم يطيعوه فيما أمرهم بالعمل للخلق ليتفرغوا للعبادة ، وهو ما ذكرنا من آية عجيبة لسليمان - عليه السلام - واللطف له حيث مكن له من استعمال ما ذكر من الجن والشياطين والريح وسخر له ذلك ؛ ليعلم أنه إنما قدر على ذلك بلطف منه لا بالحيل والأسباب . وقوله - عز وجل - : { هَـٰذَا عَطَآؤُنَا فَٱمْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } . قال عامة أهل التأويل : هذا في الشياطين التي ذكر أنه سخرها له في العمل ، وآخرين في جعله إياهم في الأصفاد ، خيره بين أن يمن على من شاء منهم فيخلي سبيله ، وبين أن يمسك من شاء منهم فلا يخلي سبيله . وقال بعضهم : ذلك التخيير في الشياطين وفي جميع ما أعطاه له من الملك يقول : إن شئت تمن فتعطيه من شئت ، وإن شئت أمسكت فلا تعط أحدا شيئاً ، ولا تبعة عليك في ذلك الإعطاء ولا في الإمساك ، والله أعلم . وجائز أن يكون لا على التخيير ، ولكن امتحن بالإعطاء لقوم والمنع عن قوم ، فيقول : { هَـٰذَا عَطَآؤُنَا فَٱمْنُنْ } أي : أعط وابذل لمن أمرت وامتحنت بالإعطاء من كان أهلا لذلك ، وأمسك عمن ليس هو بأهل لذلك ومن لم تؤمر بدفعه إليه ؛ وهو كقوله - عز وجل - : { إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً } [ الكهف : 86 ] أن ليس على التخيير ، ولكن على تعذيب من هو أهل للعذاب مستحق له ، واتخاذ الحسن فيمن كان أهلا على ما بين في ذلك وأظهر في الآية حيث قال - عز وجل - : { أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَىٰ رَبِّهِ … } الآية [ الكهف : 87 ] ، { وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَآءً ٱلْحُسْنَىٰ } [ الكهف : 88 ] ، فعلى ذلك يحتمل الأول ، والله أعلم . وقال الحسن : قوله - عز وجل - : { عَطَآؤُنَا فَٱمْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } يقول : هذا ملكنا الذي أعطيناك يقول : أعط منه ما شئت وامنع منه ما شئت ، لا تبعة عليك فيه في الآخرة ، وهو قريب مما ذكرنا في أحد التأويلين . وقال قتادة : احبس منهم في وثاقك هذا وعذابك وسرح منهم من شئت لا حساب عليك في ذلك ، وهو قريب مما ذكرنا في أحد التأويلين : رجع أحدهما إلى الشياطين خاصة في الحبس في العمل من شاء والتسريح لمن شاء منهم ، والآخر إلى كل ما أعطاه من الملك ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { بِغَيْرِ حِسَابٍ } . أي أعطى له من الملك ما لا يحسب من الكثرة والعدد . وقوله - عز وجل - { وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَىٰ } . أي : القربة ، { وَحُسْنَ مَآبٍ } أي : مرجع ، هذا يدل على أن ما أعطاه من الملك لم يحطه عن مرتبته ولا نقص من قدره عند الله ؛ لأنه إنما سأله الملك - والله أعلم - لما ذكرنا من رغبته في نجاة الخلق ؛ لسرعة إجابتهم إياه إلى ما يدعوهم إليه ، لا رغبة منه في الدنيا ولذاتها وطلب العز فيها ، ولكن لما ذكرنا ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَىٰ } . أي : الأسباب التي تزلفه إلى الله وتقربه من التوفيق والعصمة والمعونة على الطاعة ، وذلك يكون في الدنيا والأول يكون في الآخرة ، والله أعلم . وهذا من أعظم المنن واللطف حيث أمنه عن جميع أنواع التبعات ، يغفر له بغير حساب ويستر له بالزلفى وحسن المرجع ، والله أعلم . ثم اختلف في سبب فتنة سليمان - عليه السلام - وفي ذنبه : قال بعضهم : وذلك أن الله - تعالى - أمره ألا يتزوج امرأة إلا من بني إسرائيل ، فتزوج امرأة من غير بني إسرائيل وجعل لها صنما فعبد في بيته كذا كذا يوماً ، فابتلاه الله بسلب ملكه عقوبة له على قدر ما عبد من الصنم في بيته . وقال بعضهم : كانت فتنة سليمان - عليه السلام - التي ذكر في ناس من أهل الجرادة وكانت الجرادة امرأته وكانت من أحب نسائه إليه ، وكان إذا أراد أن يحنث أو يدخل الخلاء أعطاها خاتمه وأن ناسا من أهلها جاءوا يخاصمون قوماً إلى سليمان ، قالوا : وكان سليمان أحب أن يكون الحق لأهل الجرادة فيقضي لهم ، فعوتب حين لم يكن هواه فيهم واحداً ؛ وهو قول ابن عباس . وقد ذكرنا نحن أنه يجوز أن يكون نزع الملك منه وما ذكر فتنة إياه بلا زلة ولا سبب كان منه ابتداء محنة وابتلاء ، وذلك جائز ، ولله أن يفعل ما يشاء بمن شاء وكيف شاء من نزع الملك وغيره ، والله أعلم . وقال القتبي وأبو عوسجة : { رُخَآءً } أي : رخوة لينة ، وهو من اللين ، ويقال : رجل رخو ، أي : ضعيف في عمله ، وقوم رخاء ، قال : والرخاء : الساكن ، ويقال : استرخى ، أي : سكن . وقوله - عز وجل - : { فَٱمْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } . ومثله قوله : { وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ } [ المدثر : 6 ] أي : لا تعط لتأخذ من المكافأة أكثر مما أعطيت . وقال الفراء : سمى العطاء : منا . وقوله - عز وجل - : { حَيْثُ أَصَابَ } . أي : أراد ، قال الأصمعي : العرب تقول : أصاب الصواب ، فأخطأ الجواب ، أي : أراد الصواب ، والأصفاد : الأغلال التي يشد بها الأيدي إلى العنق . دل قول سليمان - عليه السلام - ودعاؤه ربه باستيهابه الملك قال : { قَالَ رَبِّ ٱغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّن بَعْدِيۤ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْوَهَّابُ … } على أن الملك الذي أعطاه لم يكن حقّاً عليه ؛ إذ لو كان حقا له لكان لا يستوهبه ولا يقول له : { إِنَّكَ أَنتَ ٱلْوَهَّابُ } ، ولكن يقول له : أعطني حقي ؛ إذ كل طالب حق له قِبَل آخر لا يوصف إذا أعطاه إياه أنه وهاب ، ولكن يؤدي حقّاً عليه . ويدل هذا أيضاً على أن ليس على الله حفظ الأصلح في الدين ؛ إذ لو كان عليه حفظ الأصلح في الدين وأعطى الآخر لكان لا يستوهب الملك إذ كان الملك له أصلح في الدين ، ولكن يقول : أعطني حقي ، فدل استيهابه منه الملك على أن ليس عليه حفظ الأصلح في الدين ولا إعطاء الأخْيَر ، وأن له ألا يعطيه ، وأنَّ إعطاءه الملك له فضل منه ورحمة ، والله أعلم . فإن قيل : فيه تفضيل الغنى والسعة على الفقر والضيق ؛ لما أن الله - عز وجل - جعل الغنى والسعة آية من آيات النبوة والرسالة ، ولم ير الفقر والضيق جعلهما آية من آيات النبوة ، فهلا دل جعل الغنى آية من آيات النبوة على أنه أفضل من الفقر ؟ يقال لهم : إن الغنى والملك إنما جعله آية لرسالة نبي واحد ، وأكثر الأنبياء - عليهم السلام - كانوا فقراء وأهل الحاجة والضيق في أمر الدنيا ، فمع ما كانوا ما ذكرنا من الضيق والفقر وقلة أعوانهم وأنصارهم نفذ قولهم وظهر ما دعوا الناس إلى ما دعوهم وهو التوحيد والإسلام ، مع وجود رغبة الناس فيمن عنده السعة والغنى ، ونفارهم ، وقلة رغبتهم فيمن عنده الفقر والضيق ؛ فدل اختيار أكثر الأنبياء الحال التي ينفر طباع الناس عنها على الحال التي يرغبون فيها مع حرصهم ورغبتهم في الدين - على أن الحال التي اختاروا هم أفضل وأخير من الحال الأخرى ، والله أعلم . وكذلك قوله - عز وجل - لرسول الله صلى الله عليه وسلم : { لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ } [ الحجر : 88 ] نهاه أن يمد عينيه إلى ما متعوا هم ، على العلم منه أن لو مد عينيه إلى ذلك ويختاره إنما يمد ويختار ليتبعه قومه وأصحابه في أبواب الشرف والخير ، وأنه لا يختار ولا يأخذ إلا ما يحل ويطيب ؛ فدل النهي عما ذكر على العلم منه ما وصفنا على أن ذلك أفضل من الآخر ، والله أعلم .