Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 39, Ayat: 27-35)

Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله : { وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ } ، أي : بينا للناس في هذا القرآن من كل ما يحتاجون إليه من أمر دينهم ودنياهم ؛ أخبر لهم ما لهم وما عليهم ، أو لبعضهم على بعض ، وأمثاله ، والله أعلم . وقوله : { لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } . هذا يحتمل وجهين : أحدهما : لكي يلزمهم التذكر والاتعاظ . والثاني : لكي يبلغهم ما يتذكرون ويتعظون . وقوله : { قُرْآناً عَرَبِيّاً } أي : جعلناه قرآناً عربيّاً ؛ كقوله : { إِنَّآ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً } [ يوسف : 2 ] لكي يفقهوه ويعرفوه ؛ كقوله - تعالى - : { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ … } الآية [ إبراهيم : 4 ] . وقوله : { غَيْرَ ذِي عِوَجٍ } يحتمل وجهين : أحدهما : أنه لا يخالف الكتب السالفة ؛ بل يوافقها ؛ لأن كتب الله جاءت كلها على الدعاء إلى توحيد الله وربوبيته ، فكذلك القرآن ، فهو لا يخالف سائر الكتب ؛ بل يوافقها . والثاني : لا عوج فيه ؛ لما لا يخالف بعضه بعضاً ، ولا يناقض ؛ بل خرج كله موافقاً بعضه بعضاً مستقيماً على تباعد نزوله في الأوقات ، وبالله التوفيق . وأصله : { غَيْرَ ذِي عِوَجٍ } أي : ليس بمائل ولا زائع عن الحق . وقوله : { لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } أي : يتقون المهالك ، أو سخط الله ونقمته . وقوله : { ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً } أي : لا يستويان . يشبه أن يكون ما ذكر من المثل لرجلين من البشر كله : المسلمون والكافرون ، ثم يحتمل الرجل الذي فيه شركاء متشاكسون ؛ أي : يتشاكسون في نسبه ، يدعي كل نسبه . أو يتشاكسون في الملك فيه ، يقول كل : هو لي أو في الملك في قوم يدعي كل أن الملك له فيه . أو يدعي كل أن الملك فيهم ، ولا يثبت لواحد منهم النسب فيه لينتسب هو إلى واحد منهم ، فيبقى متحيراً تائهاً ؛ ولذلك لا يثبت لواحد منهم الملك الذي يدعي ؛ ليطلب هذا منه النفقة ، وما يجب على ذي الملك من حقوق الملك ، فسعى ضائعاً متحيراً ، وإذا كان الملك لرجل واحد ، أو النسب أو الملك سالم له يصل إلى كل حق له ، ويكون محفوظاً في نفسه معروفاً ، فيكون مثل الذي فيه شركاء متشاكسون ، هو الذي يعبد الشيطان أو الأصنام ، أو هوى النفس ، يدعو كل شيطان إلى غير الذي دعا الآخر ، وكذلك الهوى يدعو صاحبه مرة إلى كذا ، ومرة إلى غير ذلك ، فهو كالذي فيه شركاء متشاكسون يدعي هذا وهذا ، والذي يعبد إله الحق الذي يثبت ألوهيته بالحجج والآيات كالرجل السالم الواحد يكون أبداً على حالة واحدة ، مطيعاً لله ، خالصاً له . وقوله : { هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً } أي : هل يستوي الرجل الذي يدعي فيه شركاء متشاكسون والرجل الذي يكون لرجل واحد ، فيما ذكرنا ؟ ! أي : لا يستويان . وقال أهل التأويل : { هَلْ يَسْتَوِيَانِ } من يعبد آلهة شتى مختلفة ، والذي يعبد ربّاً واحداً ، وهو المؤمن ، وقد رأوا أنهم قد استووا [ في ] هذه الدنيا ، وفي الحكمة التفريق بينهما ، وفيه دلالة البعث ، وكذلك في قوله : { مَثَلُ ٱلْفَرِيقَيْنِ كَٱلأَعْمَىٰ وَٱلأَصَمِّ وَٱلْبَصِيرِ وَٱلسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ } [ هود : 24 ] وقد استووا في هذه الدنيا دل أن هنالك داراً أخرى يفرق بينهما [ فيها ] ؛ إذ في الحكمة والعقل التفريق بينهما ، والله أعلم . وقوله : { ٱلْحَمْدُ للَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } ذكر الحمد على أثر ذلك يخرج على وجهين : أحدهما : أن يحمد ربه على ما خصه بالتوحيد من بين الكفار { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } توحيد ربهم . والثاني : أمره أن يحمد ربه على ما جعله سالماً خالصاً ؛ لم يجعل فيه شركاء متشاكسين . قال أبو عوسجة والقتبي : { شُرَكَآءُ مُتَشَاكِسُونَ } أي : مختلفون ، يتنازعون ، ويتشاحُّون { وَرَجُلاً سَلَماً } أي : خالصاً . ومن قرأ : { سَلَمَاً لِّرجُلٍ } أراد : سلم إليه ، فهو سلم . ثم قوله : { تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ ٱلَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ } يحتمل الأنبياء منهم والخواص ؛ كقوله : { إِنَّمَا يَخْشَى ٱللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ ٱلْعُلَمَاءُ } [ فاطر : 28 ] . وجائز أن يكون أراد جميع المؤمنين ، وكذلك ذكر في حرف ابن مسعود : { تقشعر منه جلود الذين يؤمنون بربهم ثم تطمئن جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله } وفي حرف حفصة : { ثم يثبت جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله } . وقال بعضهم في قوله - عز وجل - : { يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوۤءَ ٱلْعَذَابِ } : يقول - والله أعلم - : ليس الضال الذي يتقي النار بوجهه كالمهتدي الذي لا تصل النار إلى وجهه ؛ ليسا بسواء ؛ على ما ذكرنا . { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ } وجه ذكر هذا على أثر ما تقدم من قوله : { ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً } وقد استووا في هذه الدنيا من أخلص نفسه ودينه لله وللرسول ، ومن جعل فيه شركاء ولم يسلم نفسه له ، وهو الكافر ، ثم تموت أنت ويموتون هم ، فلو لم تكن دارٌ أخرى يميز فيها ويفرق بين الذي جعل نفسه سلماً لله ، خالصاً له ، وبين من لم يفعل ذلك - لكان في ذلك استواء بين من ذكر ، وفي الحكمة أن لا استواء بينهما ، وقد يموت السالم نفسه لله ، ويموت الآخر دل أنّ في ذلك بعثاً ، يثاب هذا ، ويعاقب الآخر ، والله [ أعلم ] . أو أن يذكر هذا ؛ لما كانوا يتشاءمون برسول الله صلى الله عليه وسلم ويتطيرون فيما يصيبهم من المصائب والشدائد ، حتى قال - عز وجل - : { أَفَإِنْ مِّتَّ فَهُمُ ٱلْخَالِدُونَ } [ الأنبياء : 34 ] أي : لا يخلدون ، فعلى ذلك يقول - عز وجل - : { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ } أيضاً ، أي : لا يبقون بعد موتك أبداً ، ولكنهم يموتون ، ولو كان ما يصيبهم بك أنت على ما يزعمون ، فيجئ ألا يصيبهم بعد موتك ؛ نحو هذا يحتمل ، والله أعلم . أو أن يقول : إنك ميت فتصل إلى ما وعد لك من الكرامات والثواب ، ويموتون هم فيصلون إلى ما أوعدوا من المواعيد والعقوبات ، والله أعلم . ثم قوله - عز وجل - : { ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ } روي عن ابن عمر - رضي الله عنه - قال : كنا لا نعلم ما يفسر هذه الآية ، وكنا نقول : من يخاصم ؟ فلما وقعت الفتنة بين أصحاب رسول الله ، حتى كفح بعضنا وجوه بعض بالسيوف ، فعرفت أنها نزلت فينا . وذكر عن الزبير : لما نزلت هذه الآية ، فقال : يا رسول الله ، أتكرر علينا الخصومة بعد الذي كان بيننا في الدنيا ، فقال : ( نعم ) ، فقال : إن الأمر إذن لشديد . وروي عن بعض الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين - لما نزلت هذه الآية أنهم قالوا : كيف نختصم ونحن إخوان ؛ ! فلما قتل عثمان ظلماً وعدوانا ، علموا أنها لهم وفيهم ، والله أعلم . ثم خصومتهم هذه يوم القيامة تحتمل وجهين : أحدهما : في المظالم [ أو ] في الحقوق التي كانت لبعض على بعض ، أو في الدين ، أو في أمر الدنيا . أو أن يكون قوله - عز وجل - : { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ } لما بلغت المحاجة غايتها في الدين والدنيا ، ولم تنجع فيهم ولا قبلوها أخبر أنهم يختصمون في ذلك يوم القيامة في الوقت الذي يعاينون العذاب ، ويظهر لهم الحق ، فينقادون لها في ذلك الوقت ، فلا ينفعهم ذلك ، والله أعلم . وفي حرف ابن مسعود : { إنك مائت وإنهم مائتون } والعرب تقول : مات يمات فهو مائت . وقوله - عز وجل - : { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ علَى ٱللَّهِ وَكَذَّبَ بِٱلصِّدْقِ إِذْ جَآءَهُ } يقول : لا ظلم أعظم ولا أفحش مما يكذب على من يتقلب في إحسانه ، ويتصرف في نعمائه ، وأنتم تتقلبون في نعم الله وأنواع إحسانه ، فلا ظلم أعظم ولا أفحش من الكذب عليه . { وَكَذَّبَ بِٱلصِّدْقِ إِذْ جَآءَهُ } ولا ظلم أعظم وأفحش من تكذيب خبره ورده ؛ إذ لا خبر أصدق من خبره ، ولا حديث أحق من حديثه . وقوله - عز وجل - : { أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ } كأنه يقول : أليس جهنم كافٍ للكافرين مثوى ؛ كقوله - عز وجل - : { حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا } [ المجادلة : 8 ] أي : حسبهم جهنم عقوبة لهم بكفرهم وتكذيبهم ، والله أعلم . وقوله : { وَٱلَّذِي جَآءَ بِٱلصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ } اختلف أهل التأويل فيه : قال بعضهم : { وَٱلَّذِي جَآءَ بِٱلصِّدْقِ } : جبريل ، عليه السلام ، { وَصَدَّقَ بِهِ } : محمد صلى الله عليه وسلم . وقال بعضهم : { وَٱلَّذِي جَآءَ بِٱلصِّدْقِ } : محمد { وَصَدَّقَ } أبو بكر . وقال بعضهم : { وَٱلَّذِي جَآءَ بِٱلصِّدْقِ } محمد { وَصَدَّقَ } أصحابه جميعاً . قلنا : أهل التأويل على اختلافهم اتفقوا أن الذي جاء به جبريل أو محمد هو التوحيد ، فإن كان التأويل ما ذكر أهل التأويل ، فعلى ذلك قوله : { ذَلِكَ جَزَآءُ ٱلْمُحْسِنِينَ } أي : الموحدين ، ففيه نقض قول الخوارج والمعتزلة أنّ صاحب الكبيرة ليس بمؤمن ، وأنه يخلد في النار ؛ لأنه قال : { وَٱلَّذِي جَآءَ بِٱلصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ } وكل مرتكب الكبيرة مصدق بالذي جاء به جبريل ومحمد ، ثم أخبر أنهم هم المتقون ؛ أي : اتقوا الشرك ، وقال لأولئك - أيضاً - : إنه يكفر عنهم ما ارتكبوا من المساوي ، وهو قوله : { لِيُكَـفِّرَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ ٱلَّذِي عَمِلُواْ } دل أن لهم مساوي ، ثم إن شاء عذب على تلك المساوئ وقتا ثم أعطاهم ما وعد ، وإن شاء عفا عنهم وتجاوز وأعطاهم ما ذكر ، فكيفما كان ، فلهم ما ذكر ؛ إذ هم على تصديق بما جاء [ به ] محمد صلى الله عليه وسلم ، والله أعلم . وجائز أن يكون قوله - عز وجل - : { وَٱلَّذِي جَآءَ بِٱلصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ } يحتمل وجهين : أحدهما : صدق بقلبه ؛ أي : جاء بالقول وتصديق القلب . والثاني : صدق به في المعاملة في اختيار كل ما يصلح ويوافق الذي جاء به ، وعلى ذلك ذكر عن الحسن قال : يا بن آدم ، قلت : لا إله إلا الله ، فصدقها . فإن كان التأويل هذا فهو أشد ، لكنه وإن لم يعمل الذي يوافق الذي جاء به وهو التوحيد لم يجتنب ما ذكرنا ، فإن له ما ذكر إما بعد التوحيد ، وإما بعد العفو ، والله أعلم . وقوله : { لَهُم مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَآءُ ٱلْمُحْسِنِينَ } دل هذا أن ذلك الوعد للجماعة ، وليس لواحد ولا اثنين ، وهو لجميع المؤمنين . وقوله : { لِيُكَـفِّرَ ٱللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ ٱلَّذِي عَمِلُواْ وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ٱلَّذِي كَـانُواْ يَعْمَلُونَ } ذكر نوعين من العمل السيئ والحسن ، ثم أخبر أنه يكفر عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم بأحسن [ الذي كانوا يعملون ] ، فيحتمل : الأحسن : الحسنات نفسها يجزيها ، ويكفر السيئات . ويحتمل أنه يكفر [ أسوأ ] السيئات وأعظمها ، ويجزي على أحسن الحسنات وأعظمها ، فعلى هذا أحسن وأسوأ من نوعها ، أحسن الحسنات وأسوأ السيئات ، وعلى الأول من غير نوعها أي يكفر السيئات ، ويجزي بالحسنات ، والله أعلم .