Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 39, Ayat: 62-67)
Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله - عز وجل - : { ٱللَّهُ خَالِقُ كُـلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ } . هذه الآية تنقض على المعتزلة قولهم على وجوه : أحدها : أن قولهم : إن شيئية الأشياء لم تزل كائنة ؛ إذ من قولهم : إن المعدوم شيء ، فإذا كان المعدوم شيئاً - على قولهم - كما شيئية الأشياء لم تزل كائنة . ويقولون : إنه لم يكن من الله إلا إيجادها ، فإذا كان ما ذكروا لم يكن هو خالق شيء به ؛ فضلا عن أن يكون خالق كل شيء - على ما ذكر - ووصف نفسه بخلق كل شيء ، فيكون كل شيء قولهم في التحقيق والتحصيل قول الدهرية والثنوية ؛ لأن الدهرية يقولون بقدم الطينة ، والهيولى ، ونحوه ، وينكرون كون الشيء من لا شيء . وكذلك الثنوية يقولون بقدم النور والظلمة ، ثم كون كل جنس من جنسه ، وكون كل شيء من أصله . فعلى ذلك قول المعتزلة : إن المعدوم شيء يرجع في التحقيق إلى ما ذكرنا من أقاويلهما . ثم قوله : { خَالِقُ كُـلِّ شَيْءٍ } يخرج على ذكر الربوبية ، والألوهية ، والوصف له بالمدح ؛ لما ذكرنا أن إضافة كلية الأشياء إلى الله - عز وجل - تخرج مخرج الوصف له بالتعظيم والإجلال له ، وإضافة الأشياء المخصوصة إليه تخرج مخرج التعظيم للمضافة إليه . وإذا كان ما ذكر ما كان قوله - عز وجل - : { خَالِقُ كُـلِّ شَيْءٍ } مخصصاً شيئاً دون شيء - على ما يقوله المعتزلة - لم يخرج مخرج الوصف له بالربوبية والألوهية ، ولا خرج مخرج المدح له والتعظيم ، ثم إنه لا شك أنه لو لم يكن خالقاً لأفعال الخلق لم يكن خالقاً من عشرةٍ ألفَ شيء ، فدل أنه خالق الأشياء كلها للأفعال والأجسام والجواهر جميعاً . فإن قيل : إنكم لا تقولون : خالق الأنجاس والأقذار والخنازير ونحوه ، فإنما يرجع قوله - عز وجل - : { خَالِقُ كُـلِّ شَيْءٍ } إلى خصوص . قيل : إنه لا يقال ولا يوصف بخلق هذه الأشياء على التقييد والتخصيص : يا خالق الأنجاس والأقذار وما ذكر ؛ لأنه يخرج الوصف له بذلك مخرج الهجاء والذم ، وكان في الجملة يوصف بذلك ، ويدخل الأشياء كلها في ذلك ؛ لما ذكرنا أن قوله - عز وجل - : { خَالِقُ كُـلِّ شَيْءٍ } يخرج مخرج الامتداح والتعظيم له ، والوصف بالربوبية له والألوهية ؛ ألا ترى أنه لا يقال - على التخصيص - : إنه وكيل ؛ وإن كان في الجملة يقال - كما ذكرنا - : { وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ } ؛ لأنه في الجملة يخرج مخرج الربوبية له والألوهية ، والوصف له بالمدح ، وعلى التخصيص والإفراد ، [ يخرج ] على الهجاء والذم ؛ لذلك افترقا ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { لَّهُ مَقَالِيدُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } . كأنه يقول : { لَّهُ مَقَالِيدُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } . قيل : هي المفاتيح ، وهي فارسية عربت . وجائز أن يكون قوله - عز وجل - : [ { لَّهُ مَقَالِيدُ } أي : ] له مفاتيح : جميع البركات والخيرات على أهل السماوات والأرض ، يخبر أن ذلك كله بيده ، ليس بيد أحد سواه ، منه يطلب ذلك ، ومنه يستفاد ، والله أعلم . ثم لم يفهم مما أضيف إليه من المقاليد ما يفهم من مقاليد الخلق لو أضيف إليهم ؛ فكيف فهم مما أضيف إليه : من مجيء ، أو استواء ، وغير ذلك ما فهم مما أضيف إلى الخلق ، والله الموفق ؟ وقوله - عز وجل - : { وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِـآيَاتِ ٱللَّهِ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْخَاسِرُونَ } . كأن الله - عز وجل - جعل هذه الدنيا وما فيها لأهلها ، وبين أحوالهم ، يتخيرون بها ويشترون بها الآخرة ، ويتزودون لها ؛ ولذلك قال - عز وجل - : { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ٱبْتِغَآءَ مَرْضَاتِ ٱللَّهِ } [ البقرة : 207 ] ، وقوله - عز وجل - : { يَشْرُونَ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا بِٱلآخِرَةِ } [ النساء : 74 ] فمن [ لم ] يتزود [ لم ] يجعلها بلغة إلى الآخرة سمى : خاسراً مغبوناً ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { أَفَغَيْرَ ٱللَّهِ تَأْمُرُونِّيۤ أَعْبُدُ أَيُّهَا ٱلْجَاهِلُونَ } . دلت هذه الآية على أن سفه أولئك الكفرة قد بلغ غايته ، وجاوز حده ؛ حتى دعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عبادة من دونه ؛ بعد ما عرفوا فضيلة الرسالة والرسول وخصوصيته ؛ حتى أنكروا الرسالة في البشر ، وبعث البشر رسولا ، فلولا ما وقع عندهم من الفضيلة للرسول ، والخصوصية له ؛ وإلا لم يحتمل أن ينكروا وضعها في البشر وبعث البشر رسولا ، ثم قد أتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من البيان والحجج ما قد قرر عندهم أنه الرسول إليهم ، فمع ما تقرر عندهم ذلك دعوه إلى أن يعبد غير الله دونه ، فيكون لهم ، فهذا منهم تناقض في القول وسفه ؛ حين صيروا المفضل والمخصوص بالرسالة في العبادة من دونه كغير المفضل والمخصوص بها - والله أعلم - ليعلم أنهم لسفههم وتعنتهم كانوا يدعونه إلى عبادة من دون الله ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { أَيُّهَا ٱلْجَاهِلُونَ } . سماهم : جهلة بما أمروه ودعوه إلى عبادة غير الله ، وكذلك قال موسى - عليه السلام - لقومه حين سألوا موسى أن يجعل لهم إلها كما لهم آلهة ؛ فقال : { إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ } [ الأعراف : 138 ] . ثم يحتمل قوله - عز وجل - : { أَيُّهَا ٱلْجَاهِلُونَ } وجوهاً : أحدها : أيها الجاهلون في التسوية بين المفضل والمخصوص وبين من لم يخص ؛ فذلك في عبادة غير الله . أو جاهلون عن هداية الله وخصوصيته . أو جاهلون عن جميع نعمه وإحسانه ، حيث لم يذكروه فيها ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَلَقَدْ أُوْحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } . يحتمل هذا وجهين : أحدهما : كأنه يقول : ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك - وقيل : لكل رسول - { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } ، ذكر هذا ؛ ليعلم أن الشرك يحبط العمل ، وإن أتى به من قد جل قدره ، وعظمت منزلته عنده . والثاني : ولقد أوحي إليك وإلى من كان قبلك : لئن أشركت أنت ليحبطن عملك . وقوله - عز وجل - : { بَلِ ٱللَّهَ فَٱعْبُدْ وَكُن مِّنَ ٱلشَّاكِرِينَ } يحتمل وجوهاً : يحتمل : كن من الشاكرين لنعم الله جميعاً . أو الشاكرين للخصوصية التي خصصت بها أو الهداية التي هديت ، والله أعلم . وفي حرف ابن مسعود وأبيّ - رضي الله عنهما - : { لَّهُ مَقَالِيدُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } أي : له ملك السماوات والأرض . قال الكسائي : { مَقَالِيدُ } : فارسية معربة ، وواحد المقاليد : إقليد . وقال بعضهم في قوله - عز وجل - : { أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ } قال : بلى ، والله ليكفينه الله ، وبعزه وبنصره كاف عبده ، وأصله ما ذكرنا ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَٱلأَرْضُ جَمِيعـاً } ذكر أهل التأويل : أن اليهود أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا له : إن ربك كذا وكذا ، وإن السماوات على كذا منه ، والأرض على كذا ؛ ذكروه له ووصفوه كما يوصف الخلق ؛ فنزل قوله - عز وجل - : { وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } قيل : ما عرفوا الله حق معرفته ، ولا عظموه حق عظمته . ويذكر أهل الكلام : أن اليهود مشبهة ، وكذلك قالوا بالولد ؛ حيث قالوا : عزير ابن الله ، وقالت النصارى : المسيح ابن الله ؛ فلو لم يكونوا عرفوه بما يعرف به الخلق ، لم يكونوا يقولون له بالولد كما يقولون للخلق من الولد ؛ فدل ما وصفوا له وذكروا له أنهم عرفوه بمعنى الخلق ، فتعالى الله عما تقوله الملاحدة علوّاً كبيراً . ثم قوله - عز وجل - : { وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } أي : ما عرفوا الله حق معرفته . أو ما عظموه حق عظمته ما يحتمل وسع الخلق ، وكذلك لم يعرفوه حق معرفته التي يحتمله وسع البشر بينهم ، فأما معرفة الله حق معرفته أو تعظيم الله حق عظمته ما لا يحتمله وسع الخلق ، وهو لم يكلفهم أن يعرفوه حق معرفته أو يعظموه ؛ لأنه لا يحتمل وسع الخلق ذلك وإنما كلفهم ما احتمله وسعهم ؛ فالمشبهة - حيث وصفوه كما وصف الخلقُ من يعاينوه - لم يعرفوه المعرفة التي يحتمل وسع الخلق وبنيتهم ، ولا عظموه العظمة التي يحتمل وسع الخلق وبنيتهم . ثم إن الله - سبحانه - جعل سبب معرفته الاستدلال بآثار الأفعال ، لا بأفعال المحسوسات ، فلا تفهم معرفته ، ولا تقدر بمعرفة الخلق وتقديرهم مع ما جعل الله - سبحانه وتعالى - الخلق على قسمين : قسم منها مما يحاط به وتدرك حقيقته ، وهو المحسوس منه والمدرك . وقسم مما يعرف بآثار الأفعال والاستدلال بها ، وهو غير محسوس من العقل ، والبصر ، والسمع ، والروح ، وغير ذلك ، فإذ لم يدرك من خلقه ولم يحط به مما سبيل الاستدلال [ عليه ] بآثار الأفعال بالحس ، فالذي أنشأ ذلك وأبدعه أحق ألا يدرك ولا يحاط بمعرفته كما يحاط ويدرك المحسوس معرفته ؛ إذ الموصل إلى معرفته الاستدلال بآثار الأفعال [ لا ] بالمحسوس ، والله أعلم . وكذلك ما أضاف إلى نفسه من الأحرف لا يفهم منه ما لو أضيف ذلك إلى الخلق ؛ من نحو الاستواء ، والمجيء ، والإتيان ، ونحو ذلك ، ولا يقدر منه ما يقدر من الخلق على ما لم يفهم من مجيء الحق وإتيانه ما فهم من مجيء الخلق ولا إتيانهم ؛ فعلى ذلك لا يفهم قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه ما يفهم من قبضة الخلق وطيهم ويمينهم ؛ بل يفهم من ذلك كله [ ما يفهم ] من قوله - عز وجل - : { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [ النحل : 40 ] كل ما ذكر من القبضة والطي واليمين في ذلك { كُنْ } [ دون أن كان منه ] كاف أو نون أو شيء من ذلك ، لكنه ذكر { كُنْ } ؛ لأنه أخف كلام على الألسن ، وأوجز حرف يفهم منه المعنى ويعرف فيما بين الخلق ، والله أعلم . وأصله أن الله - عز وجل - خاطبهم بما تعارفوا فيما بينهم حقيقة ، وإن كان ما تعارفوا فيما بينهم منفي عن الله - تعالى - نحو ما ذكر { لاَ تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ } [ الحجرات : 1 ] ، وقوله - عز وجل - : { ذٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ } [ آل عمران : 182 ] ، وقوله : { لاَّ يَأْتِيهِ ٱلْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ } [ فصلت : 42 ] لما باليد يقدم ويؤخر في الشاهد ، وإن لم يكن ما ذكر عمل اليد ، وذكر بين يدي ما ذكر ، وإن لم يكن بين يديه ؛ لما في الشاهد كذلك يتقدم ؛ فعلى ذلك ما أضاف إلى نفسه من أحرف كانت تلك منفية عنه ؛ لما في الشاهد بذلك يكون ، والله أعلم . وأصل ذلك أن قد بينت بالتنزيل على ما ذكر من إضافة تلك الأحرف إلى الله ، وثبت بدليل السمع أن ليس كمثله شيء [ و ] في العقل تعاليه عن الأشباه والشركاء ، لزم القول بوقوع تلك الآيات على ما لا تشابه به يقع بينه وبين الخلق في الفعل ولا جهة من جهات الخلق ؛ إذ هو متعال عن جميع جهات الخلق في حد الإحداث والخلق ، فيلزم الإيمان بها على ما نطق به الكتاب وانتهى به عن المتشابه ، وتفويض المراد إلى من جاء عنه ذلك مع ما توجد الإضافة إلى الله - عز وجل - من نحو قوله - عز وجل - : { حُدُودَ ٱللَّهِ } [ البقرة : 229 ] ونحوه لا يحتمل فهم المضاف منه إلى غيره ، فكذلك ما ذكرنا يحتمل على إمكان وجوه فيما ينفي معنى التشابه من ذلك ما يضمن فيها معاني ، نحو قوله - عز وجل - : { إِن تَنصُرُواْ ٱللَّهَ يَنصُرْكُمْ … } الآية [ محمد : 7 ] ، { وَإِلَىٰ ٱللَّهِ ٱلْمَصِيرُ } [ آل عمران : 28 ] ، والمرجع ، و { يَرْجُواْ لِقَآءَ ٱللَّهِ } [ العنكبوت : 5 ] ، و { فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ } [ النساء : 59 ] ، في غير ذلك مما أضيف إلى الله ، ولا معنى لتحقيقه في ذلك ، فيضمن في ذلك منُّه ووعده ووعيده وغير ذلك من الوجوه مما يطول ذكره ويكثر ، فمثله أمر هذه الآيات . والثاني : أن إضافة الأمور في الشاهد إلى الملوك وذكر التولي لهم ليس يخرج مخرج تحقيق كما هو جرى به الذكر ، ولكن على الكناية والعبارة عن غيره ؛ نحو ما قال : بلدة كذا في يد فلان وقبضته ، وأمر كذا في [ يد ] فلان ؛ إنما يراد بذلك قوته وقدرته ؛ فعلى ذلك ما ذكر من قبضته ويده ويمينه إنما هو الوصف له بالقوة ، والسلطان ، والقدرة على ذلك . وقوله - عز وجل - : { سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ } يحتمل تنزيه نفسه عما وصفه المشبهة وشبهوه بالخلق ، أو عما أشرك عبدة الأصنام بالله في العبادة ، وتسميتهم إياها : آلهة . وقوله - عز وجل - : { وَٱلأَرْضُ جَمِيعـاً قَبْضَـتُهُ يَوْمَ ٱلْقِيَـٰمَةِ وَٱلسَّمَٰوَٰتُ } هو على التقديم والتأخير ؛ كأنه يقول - عز وجل - : الأرض والسماوات جميعاً في قبضته مطويات بيمينه ، والله أعلم .