Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 4, Ayat: 15-16)

Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله عز وجل : { وَٱللاَّتِي يَأْتِينَ ٱلْفَٰحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ فَٱسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنْكُمْ } ، { وَٱللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا } قيل : كان هذا الحكمان في أول الإسلام : الأول منهما للمرأة ، والثاني للرجل . وقيل : إن آية الأذى كانت في الرجل والمرأة ، وآية الحبس كانت في حبس المرأة . ويحتمل أن تكون آية الآذى في البكر في الرجل والمرأة جميعاً ، وآية الحبس في الثيب في الرجل والمرأة جميعاً . ويحتمل أن تكون آية الأذى في الرجال خاصّة : فيما يأتي الذكرُ ذكراً ؛ على ما كان من فعل قوم لوط ، وآية الحبس في الرجال والنساء جميعاً . فإن كانت آية الأذى في الرجال خاصّة ؛ ففيها حجة لأبي حنيفة - رضي الله عنه - حيث لم يوجب على من عمل عمل قوم لوط الحدَّ ؛ ولكن أوجب التعزير والأذى ، وهو منسوخ إن كان في هذا ، وإن كانت في الأول ؛ فهي منسوخة . ثم اختلف بما به نسخ : فقال قوم : نسخ بقوله : { ٱلزَّانِيَةُ وَٱلزَّانِي فَٱجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ } [ النور : 2 ] . لكن عندنا هذا يجوز أن يجمع بين حكميهما ؛ فكيف يكون به النسخ ؟ ! ولكن نسخ عندنا بالخبر الذي روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " خُذُوا عَنِّي ، خُذُوا عَنِّي ، قَدْ جَعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً : البِكْرُ بِالبِكْرِ ، والثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ ، البِكْرُ يُجْلَد ويُنْفَى ، والثَّيِّبُ يُجْلَدُ وَيُرْجَمُ " ؛ ففيه دليل حكم نسخ القرآن بالسنة . فإن قيل : في الآية دليل وعد النسخ بقوله : { أَوْ يَجْعَلَ ٱللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً } ؛ فإنما صار منسوخاً بما وعد [ الله ] في الآية من النسخ ، لا بالسنة . قيل : ما من آية أو سنة كان من حكم الله النسخ إلا والوعد فيه النسخ ، وإن لم يكن مذكوراً ؛ لأن الله - عز وجل - لا يجعل الحكم في الشيء للأبد ثم ينسخ ؛ لأنه بدو ، وذلك فعل البشر لا فعل الربوبية ؛ فإذا كان ما ذكرنا فلا فرق بين أن ينسخه بوحي يكون قرآناً يتلى وبين أن ينسخه بوحي لا يكون قرآناً ، وفيه أخبار كثيرة : روي أنه رجم ماعزاً لما أقرّ بالزنا ومراراً ، ورجم - أيضاً - غيره : ما روي أن عسيف الرجل زنا بامرأته ، وقال : سأقضي بينكما بكتاب الله تعالى ، وقال : " وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا ، فَإِنْ هِيَ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا " . وعن عمر - رضي الله عنه - قال : خشيت أن يطول بالناس زمان حتى يقول قائله : ما نجد الرجم في كتاب الله ، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله ، ألا وإن الرجم حق إذا أحصن الرجل ، وقامت البينة ، أو اعترف ، وقد قرأناها : " الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة نكالا من الله " ، رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده . وقال قوم : الرجم بين اليهود والنصارى كهو بين المسلمين كالجلد بالآية ، ولما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أنه رجم يهودَّيين " . قيل : إنما رجم بحكم التوراة ؛ ألا ترى أنه روي أنه دعا بالتوراة ، ودعا علماءهم فأمرهم أن يقرءوا عليه ؛ فوضعوا أيديهم على الموضع الذي فيه ذكر الرجم فقرءوا غيره ؛ فقال ابن سلام : إنهم كتموه يا رسول الله ، ثم قرأ هو ؛ فأمر برجمهم ، ولا شك أن القرآن نسخ حكم التوراة ؛ لذلك لم يقم عليهم الرجم . فإن قال قائل : إن الحد يقام على من عمل عمل قوم لوط بقوله - تعالى - : { ٱلزَّانِيَةُ وَٱلزَّانِي فَٱجْلِدُواْ كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ } [ النور : 2 ] . قيل : لا يحتمل وجوب الحد عليه بذلك ؛ لأنه مختلف حكم هذا من هذا في الحرمة ، ووجوب المهر ؛ وغير ذلك ، فلا يحتمل أن يعرف حكم شيء لما يخالفه في جميع أحكامه وجميع الوجوه . وقوله - عز وجل - : { وَٱللاَّتِي يَأْتِينَ ٱلْفَٰحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ } - : في الآية دليل جواز القياس ؛ لأنه ذكر الحكم في النساء ، ولم يذكر في الرجال ذلك الحكم ، وهما لا يختلفان في هذا الحكم ؛ ما يلزم المرأة في ذلك الفعل يلزم الرجل مثله ؛ دل أن ما ترك ذكره في المنصوص إنما ترك ؛ للاستدلال عليه ، والاستنباط من المنصوص والانتزاع منه . وقال قوم : إن على الثيب الجلد والرجم جميعاً ؛ ذهبوا في ذلك إلى ما روي عن عبادة ابن الصامت ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " خُذُوا عَنِّي خُذُوا عَنِّي ؛ قَدْ جَعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبَيلاً : البِكْرُ بالِبِكْرِ يُجْلَدُ وَيُنْفَى ، وَالثَّيِّبُ بالثَّيِّبِ يُجْلَدُ وَيُرْجَمُ " أوجب الجلد والرجم على الثيب . أما عندنا : فإنه لا يوجب مع الرجم الجلد ؛ لما روينا من الأخبار عن [ رسول الله صلى الله عليه وسلم ] أنه رجم ماعزاً ، ولم يذكر أنه جلده ، وما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أغْدُ يَا أُنَيْسُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا ، فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا " لم يُذكر هنالك جلد ، والأخبار كثيرة في هذا . وروي أنه قال : " مَنْ أصَابَ مِنْ هَذِهِ القَاذُورَاتِ شَيْئاً فَلْيَسْتَتِرْ بِسَتْرِ اللهِ الَّذِي سَتَرَه عَلَيْهِ ، فَإِنَّ مَنْ أَبْدَى لَنَا صَفْحَتَهُ أَقْمَنَا عَلَيْهِ حَدَّ اللهِ " . ثم يحتمل قوله صلى الله عليه وسلم : " الثَّيِّبُ بالثَّيِّبِ يُجْلَدُ وَيَرْجَمُ " في اختلاف الأحوال : يجلد في حال ، ويرجم في حال ، أو يجلد ثيب ويرجم آخر ؛ لأنه لا كل ثيب يرجم ؛ لأنه إذا كان ثيباً غير محصن لا يرجم ؛ دل أنه على ما ذكرنا . أو يحتمل قوله صلى الله عليه وسلم : " البِكْرُ بِالبِكْرِ يُجْلَدُ وَيُنْفَى ، وَالثَّيِّبُ بالثَّيِّبِ " ، أي : البكر مع البكر ، والثيب مع الثيب ؛ فيكون ثيباً يجلد وثيباً آخر يرجم . ثم اختلف أهل العلم في نفي البكر : قال قوم : النفي ثابت واجب . وعندنا : إن كان فهو منسوخ ، ودليل نسخه : ما روي في خبر زيد بن خالد ، وكان الرجل بكراً ، لم يذكر أنه نفي . وما روي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه نفى رجلا ؛ فارتد ولحق بالروم ؛ فقال : لا أنفي بعد هذا أبداً . وما روي أنه قال : كفي بالنفي فتنة . وإن كان فهو عقوبة وليس بحد ؛ كحبس الدعارة وغيره . والدليل على أن النفي ليس بحد أن الله - سبحانه وتعالى - قال في الإماء { فَإِذَآ أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَٰحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى ٱلْمُحْصَنَٰتِ مِنَ ٱلْعَذَابِ } [ النساء : 25 ] والأمة لا تنفي ؛ لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم [ أنه ] قال : " إِذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ فَلْيَجْلِدْهَا ، ثُمَّ إِذَا زَنَتْ فَلْيَجْلِدْهَا ، ثُمَّ إِذَا زَنَتْ فَلْيَبِعْهَا وَلَوْ بِضَفِيرٍ " أمر بجلدها ولم يأمر بالنفي ، ولو كان حدّاً لأمر به كما أمر بالجلد ؛ دل أنه ليس بحدٍّ في الحر ، ولأنه أوجب على الإماء نصف ما أوجب على الحرائر ، ولا نصف للنفي ؛ دل أنه ليس بحد ، ولا يجب ذلك ، أو إن كان فهو حبس ، وفي الحبس نفي ، فيحبسان أو ينفيان ؛ لينسيا [ ما أصابا ؛ لأن كل من رآهما يذكر فعلهما ؛ فينفيان لذلك ، لا أنه حد ؛ ولكن لينسيا ] ذلك ولا يذكر . وقوله - أيضاً - : { وَٱللاَّتِي يَأْتِينَ ٱلْفَٰحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ … } إلى قوله - تعالى - : { فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا } [ النساء : 16 ] - يخرج على وجهين - لو كان الإتيان الزنا : أحدهما : أن يكون في جميع الإناث الحبس ، وفي الذكور : الإيذاء ؛ ولذلك جمع بين الجميع في الخبر الذي به النسخ ؛ فارتفع الحبس والأذى جميعاً ، وذلك معقول : تأديب الرجل به أزجر له ، وحبس المرأة أقطع لوجوه الزنا . أو أن تكون الآية الأولى : في المحصنات ؛ على تضمن المحصنين بالمعنى ، والآية الثانية : في الذكور ؛ على تضمن الإناث بالمعنى ، لكن جرى الذكر على ما ظهر من فضل صيانة الأبكار في الإناث : إما تديناً ، أو حياء الافتضاح ، أو بما الغالب عليهن الصون من المحارم ، والحفظ عن قرب الذكور ، ليس بشيء من ذلك في الذكور ولا في الثيبات من النساء ، على أنه بعيد بلوغ النساء في قلة الحياء إلى أن يُعْلِنَّ حتى يشهده أربع ، والغالب عليهن ألاَّ يخالطن هذا القدر من العدد . ثم الدلالة على دخول الكل - قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خُذُوا عَنِّي ، قَدْ جَعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً … " ذكر لهن ؛ على ما جرى به الذكر في القرآن ، ثم جمع في التفسير بين الكل ؛ ثبت أن الذكر قد يضمن الكل ، وذلك يبطل تأويل من يصرف الآية إلى الأبكار من الإناث والذكور ، ومتى يحتمل وجود الكل مثل ذلك بعد النكاح على إثر خلوة الأزواج بهن والاطلاع على ما فيه المسبة الدائمة ، والعار اللازم لهن ، ثم كشف ذلك لجميع محارمها ، ثم خوف الانتشار به ظاهراً ، وكيف يحتمل في مثل تلك الحال إلى تمكن من ذكر بحضرة من ذكر دون أن ينضم إلى زوجها ؟ فتأويل من وجَّهَ الآية إلى الأبكار خارج عن المعروف . ثم المروي من السنة ، ثم بما أجمع عليه أهل التأويل عمل صاحبه على هذا جهله بألا يجوز بيان نسخ حكم بينه الكتاب بالسنة ، ويحكم على الله - تعالى - وعلى رسوله بحجر هذا النوع . وقوله - عز وجل - : { وَٱللاَّتِي يَأْتِينَ ٱلْفَٰحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ فَٱسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنْكُمْ فَإِن شَهِدُواْ … } الآية ، ومعلوم أن عقوبة الزناة يتولاها الأئمة ، فكأن الخطاب عليهم خرج ، ثم قد أثبت الفاحشة منهم ، ولم يأذن في إقامة عقوبتها حتى يستحضر أربعة فيشهدون بها ؛ فعلى هذا أن ليس للأئمة تولى حدّ الزناة بعلمهم حتى يكون ثَمَّ شهود ، وفي ذلك لزوم حق الستر إلى أقصى ما ينتهي إليه من إعلان الفعل من الزناة ؛ إذ ذلك أمر معلوم فيما يحل ألا يفعل إلا في أحوال الخلوات التي تعلم حقيقة ذلك بالولد يكون ، فأما من حيث الكون دونه فإنما هو غالب الظن ، فالذي لا يحل من ذلك أن يكون بحيث لا يعلم حقيقته أبداً ؛ يدل على ذلك جميع الأمور التي منها المباح أو المحظور : أن المحظور منه أبعد من الظهور والعلم به من المباح ؛ فعلى ذلك أمر هذا مع ما زيد هاهنا ما جعل فيه من حد الزاني وجهين : أحدهما : الزجر عن هتك هذا النوع من الستر حتى خرجت شهادة من رمى بذلك ؛ بما هتك ستر الله . والثاني : فحش الشين بفاعل ذلك ، ولزوم المسبَّة في صاحب ذلك ، وذلك غاية معنى لزوم الشين ، وكذلك روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " مَنْ أَصَابَ [ مِنْ ] هَذِهِ القَاذُورَاتِ شَيْئاً فَلْيَسْتَتِرْ [ بِسَتْرِ الله ] ، فَإِنَّهُ مَنْ أَبدَى لَنَا صَفْحَتَهُ أَقَمْنَا عَلَيْهِ حَدَّ الله " فإذا بلغ العمل الذي حده ما ذكرت [ من العقوبة ] من نهاية الستر النهاية من الإعلان حتى أظهر ذلك الجماعة بفعل من يشينه فعله ما ذكرت ، استحق ما ذكرت من العقوبة بجرأته على ذلك بحله ، وبقلة حيائه ، حيث أظهر الذي ذلك حقه الستر عقوبة ذلك الفعل ، فألزم من إليه ذلك القيام به لله ، ثم جعل الله في ذلك الفعل عقوبات مختلفة على اختلاف أوقات الفعل وأهله ، على ما علم من مصلحة الخلق بها ، وزجرهم ، وتكفيرهم بها . ثم إن الله - سبحانه وتعالى - جعل أول عقوبة الزنا في نوع من الخلق في الإسلام الحبس في البيوت ، فهو - والله أعلم - مخرج على أوجه : أحدها : إنه كان الزنا في الابتداء في نوع ظاهر يكتسبون به عرض الدنيا في ذلك في الإماء حتى قال الله - تعالى - : { وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى ٱلْبِغَآءِ … } الآية [ النور : 33 ] ، وحتى كانوا يدعون الأنساب في أولاد الزناة من الإماء ، حتى بلغ من ظهور ذلك إلى أن يمازج به الحرائر في الطرق تعامياً عن حالهن ؛ فنزل قوله - سبحانه وتعالى - : { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَآءِ ٱلْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ ذٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ } [ الأحزاب : 59 ] وإن كان هذا حالهم في ذلك الوقت غلب عليهم خوف مواقعة الزنا ، [ وكذلك على ] الحرائر ؛ لكثرة ما يرين أو يسمعن ، وذلك معنى يبعث من شَرِهَتْ نفسه ، وقل تفكره في أمر عاقبته مما ينزل به أو يشينه ، وقد ركبت هذه الشهوة في كل البشر ، فخفف الله عقوبته في الابتداء أن جعل فيه الحبس والإمساك في البيوت ، ثم صار ذلك إلى الضرب ؛ لما أن تحرج الناس وعظم ذلك في أعينهم ، وجعل في الشتم به الحدّ ؛ ليعرفوا عظم موقعه عند الله وينتهوا عن فعله ، وقد جعل في ذلك في بعض الأحوال الرجم ، وهي الحال التي يزول فيها كل وجوه العذر ، ويرتفع جميع معاني الشبه لعظيم أمره . والثاني : أن السبب الباعث على ذلك قرب بعض لبعض ، ومخالطة بعض ببعض على عظم الشهوة ؛ فغلب عليهم الأمر ، واستعدتهم الشهوة حتى واقعوا ذلك . ثم في الحبس وجهان : أحدهما : الكف عن المعنى الذي يدعو إليه من الاختلاط وتلاقي الأبصار . والثاني : ما فيه من فضل ضجر وتضييق الحال ؛ إذ جعل ذلك إلى الموت ، فيكون في ذلك عقوبة من حيث الضجر ، ومعونة على الكف عنه بالحبس حتى لا يقع بصر ذكر على أنثى وأنثى على ذكر . والثالث : أن يكون في الحبس ترغيب الأرحام في الحفظ وإلزام القرابة بعض ما يزجر عن تضييع حقوق الرحم ، ويدعو إلى القيام بالكفاية ؛ إذ ضيق على الفاعل ذلك ، وذلك يوجب قبل المواقعة الاستعلام عن الأحوال والجهد في الحفظ ؛ إذ في ذلك بعض عقوبة أهل الاتصال من تكليف الإمساك والقيام بالكفاية ؛ فيكون أبلغ في العفاف ، وأقرب إلى الصلاح ، وعلى مثل ذلك جعل أمر المعاقل ؛ ليقوم أهل الصلاح في كل قبيلة في كف أهل الفساد عن الفساد ، والله أعلم . ثم لما انقطعت العادة وقام الناس بالتعاهد ، وتفرق الفريقان حتى لا يؤذن بالاجتماع ، إلا أن يكون ثَمَّ مَنْ جُبِلَ على الإياس من ذلك وأنشىء على قطع الشهوة فيهن ، فجعل في ذلك حد ، وجعل في ذلك لهن سبيلا ، وذلك - والله أعلم - يخرج على أوجه ، يجب التأمل في الوجه الذي سمى ما نسخ به اللازم في ذلك ، وذكر فيما ذكر حد مرة ورجم ثانياً ، ومعلوم أن المجعول له السبيل ، والرجم والحد أشد عليهم من الحبس ، وقد رُوي عن نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم أنه قال : " خُذُوا عَنِّي ، خُذُوا عَنِّي ، قَدْ جَعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً ، البِكْرُ بِالبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وَتَغْريبُ عَامٍ ، والثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ يُجْلَدُ وَيُرْجَمُ " فهو - والله أعلم - أن بهذه الشريعة خلى سبيلهن ، لا أن أوجب على المحبوسات إقامة ذلك بما قد حبس بالزنا ، ولكن في هذا تخلية السبيل ، على أنهن ؛ إذا زنين فعل بهن ذلك على رفع الحبس عنهن إذا حبس بما لم يبين حد ذلك ، فإذا بين زال ذلك ولا حد حتى يكون منها ذلك ، فالسبيل المجعول لهن تخلية السبيل ، ثم بين الحكم في الحادث . ووجه آخر : أن السبيل في الحقيقة مجعول لمن كلف إمساكهن ، وإن أضيف إليهن بما فيهن ضيق عليهم الأمر ، وذلك كقوله - تعالى - : { فَٱنكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } [ النساء : 25 ] والإماء لا يؤتين الأجر ، لكن بما بمعنى فيهن ذكر الأجر ، فأضيف إليهن ، وعلى نحو أضيف أهل القرى إلى القرى بالتسمية ، فأخرجت على تسمية القرى ، وإذا كان المراد أهل ذلك في حق تسمية الأهل التذكير والقرية التأنيث ، فكأنه جعل للمأمورين بالإمساك سبيلا في أن يقيموا الحد ، ويزول عنهم مؤنة الإمساك والقيام بالكفاية . والثالث : أن يكون في طول الحبس ضجر [ و ] ضيق ، وحيلولة بين المحبوس والشهوات كلها ، وقطع [ ما ] بينه وبين الأحباب ، وتحمل مثله بمرة أيسر على النفس وأهون من دوام الذل والقهر ، ثم لا مخلص عن ذلك إلا بما في الأول يكون ثمرة ؛ فلذلك سمي - والله أعلم - ذلك سبيلا لهن . ثم دل الخبر الذي ذكرت على أمرين : أحدهما : أن الحبس - وإن كان مذكوراً في النساء خاصة - فهو في جميع الزناة ؛ لأنه قال [ رسول الله صلى الله عليه وسلم ] : " خُذُوا عَنِّي ، خُذُوا عَنِّي ، قَدْ جَعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً " ثم ذكر ما به جعل لهن السبيل ، في الذكور والإناث ، في المحصنين وغيرهم جميعاً ؛ ليعلم أن الحكم يجمع الكل وإن كان الذِّكْرُ فيهن ، وذلك كما ذكر حد المماليك في الإماء ، وحد الزناة في قذف المحصنات ، والحكم يجمع الذكر والأنثى من حيث اتفاق المعنى الذي له جعل ، فمثله فيما نحن فيه . والثاني : بيان نسخ المذكور من الحكم في الكتاب بالسنة ، وذلك لوجهين : أحدهما : أنه لم يوجد على الترتيب الذي ذكر في القرآن مع ما ذكر تخلية السبيل ، وليس بمذكور في شيء من القرآن ؛ ثبت أن ذلك كان بوحي غير القرآن . والثاني : أنه - عليه السلام - قال : " خُذُوا عَنِّي ، خُذُوا عَنِّي " ثم أخبر عن جعل الله لهن السبيل ؛ فدل قوله صلى الله عليه وسلم : " خُذُوا عَنِّي ، خُذُوا عَنِّي " [ أنه بيان الله ] ، وهكذا معنى النسخ أن بيان جعل الله مدة حكم الأوَّل بما يحدث فيه الحكم ، وليس قول من يقول في هذا في القرآن وعد بقوله - عز وجل - : { أَوْ يَجْعَلَ ٱللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً } - معنى ؛ لأن كل شيء في حكم الله أنه ينسخه ، فالوعد في حكمه قائم ، إلا أن يقول قائل : لا يصدق الرسول صلى الله عليه وسلم ببيان وعد الحكم ، وإنما يصدق ببيان وعد الشرط ؛ فيحتاج أن يحدث منه إيماناً ، والله الموفق ، مع ما إذا جاز أن يعد النسخ المذكور في القرآن حقيقة ، لا فيه يجوز أن ينسخ المذكور حقيقته لا فيه . وبعد ، فإن من يقول هذا بعثه عليه جهله بمعنى النسخ : أنه البيان عن منتهي حكم المذكور من الوقت ، ولا ريب أن لرسول الله صلى الله عليه وسلم بيان منتهي الحكم من النوع ، فمثله الوقت . ثم إذا كان هذا أول عقوبة في الإسلام ؛ فثبت به نسخ الحكم بالتوراة والعمل إذا كان فيه الرجم ، وقد ذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما رجم بحكم التوراة ، وقال : " أَنَا أَوَّلُ مَنْ أَحْيَا سُنَّةً أَمَاتُوهَا " وإذا ثبت أن ذلك حكم التوراة ثم ثبت نسخ حكمه ، فلا يقام عليهم الرجم إلا بعد البيان مع ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " مَنْ أَشْرَكَ بِاللهِ فَلَيْسَ بِمُحْصَنٍ " ، وأنه أخبر بالرجم في القرآن للمحصن . وقال قوم : عقوبة الحبس في الإناث خاصة ، وأما في الذكور ففيهم الأذى باللسان والتعزير بقوله - تعالى - : { وَٱللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا … } الآية ، وهذا قريب من حيث كانت النساء مكانهن البيوت ، وأمكن حفظهن عن الزنا ، وتسليمهن إلى الأزواج مرة والمحارم ثانياً ، والرجال إذا حبسوا تحولت مؤنهم إلى غيرهم ، فتكون عقوبة فعلهم تلزم غيرهم ، والراحة تكون لهم ، وأمّا النساء فمؤنهنَّ في الأصل على غيرهنَّ ، فليس في حبسهنَّ زيادة على غيرهن ، فذلك عقوبة لهنَّ مع ما كان الرجال بحيث يمكن تعييرهم ، وذلك أبلغ ما يزجر العقلاء ، وقد يحتمل أن يكون ذلك في الرجال خاصة ؛ إذ لا يذكر في عمل قوم لوط العقوبة ، وقد علم الله - سبحانه وتعالى - حاجة الناس إلى معرفة عقوبة ذلك ؛ إذ قد جعل الله - تعالى - في إتيان النساء حقوقاً وحرمات وأحكاماً ليست في إتيان الذكور ، عرف الخلائق تلك ؛ فلم يحتمل أن يترك ذكر عقوبة للذكور في الزنا بعد أن فرق أحكام الأمرين ؛ فيشبه أن تكون الآية على ذلك ؛ وأيد ذلك عز وجل أنه - سبحانه وتعالى - قال : { فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَآ } ولم يذكر في ذلك جعل السبيل ، وقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك في كل أقسام الزنا ، ثبت أن ذلك فيما ذكر ، فتكون عقوبة الأولى في ذلك أخف من الحدّ ، فكذلك عقوبة الثانية مع ما يكون فيما يؤذيان بتفريق ، وهو تعزير ، وذلك هو الباقي أبداً إذا لم يظهر معنى النسخ ، وأيد الذي ذكرت استواء الذكور والإناث في جميع عقوبات الزنا في قديم الدهر وحديثه من حدود المماليك والأحرار ، والثيبات والأبكار ، فعلى ذلك أمر تأويل الآية . والنفي المذكور في الخبر يحتمل وجوهاً : أحدها : ما ذهب إليه الخصوم من جعله عقوبة ، وأنَّه النفي من البلد ، لكن الحدود إذا جعلت كفارات قد جعلن زواجر ، وفي الزنا بخاصّة إذا أمر فيه بالحبس أريد قطع السبيل إليه ، وفي الإشخاص والإخراج من البلدان تمكين ، وذلك بعيد ، والله أعلم . فعلى ذلك لو كان عقوبة فهو على الحبس ، فينتفي عن وجوه الاجتماع على ما كان من قبل ، فينتفي ذلك العذر منه ؛ لظهور خشوع التوبة . وقد يحتمل أن يراد بالنفي قطع الذكر ورفع المسبَّة ، فينفي ؛ لينسى ذلك ؛ فلا يعير بذلك ، وكذلك في الإماء ولا في الكفر ؛ إذ ما فيهم من الذل أعظم مع ما لا يجب بسبِّ من ذكرت حد ؛ ليعلم عظيم موقع ذلك في الأحرار ، ولو كان على العقوبة فهو منسوخ بما جرت السنة في الإماء بحدهن من غير ذكر الحبس ، وقد قال الله سبحانه وتعالى : { فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى ٱلْمُحْصَنَٰتِ مِنَ ٱلْعَذَابِ } [ النساء : 25 ] والمذكور في الثيب يحتمل : يجلد في حال ويرجم في حال ؛ إذ لا كل ثيب يجلد ، وإن كان ثم نسخ بما ذكر من خبر ماعز وغيره . وقوله - عز وجل - : { فَآذُوهُمَا } [ قيل : فآذوهما ] بالحدّ . وقيل : فآذوهما بالتعيير { فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا } كُفُّوا عن ذلك . وقيل : سبوهما ، لكن ذا قبيح ، والتعيير أقرب .