Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 4, Ayat: 29-31)

Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله - عز وجل - : { يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُوۤاْ أَمْوَٰلَكُمْ بَيْنَكُمْ بِٱلْبَٰطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَٰرَةً } . الظاهر في الثنيا أنه من غير جنس المستثنى ؛ لأنه استثنى التجارة عن تراضٍ من أكل المال بالباطل بينهم ، وأكل المال بالباطل ليس من جنس التجارة ، ولا التجارة من نوع أكل المال بالباطل ، والثنيا في الأصل جعل تحصيل المراد في المجمل من اللفظ ؛ فإذا لم يكن من نوعه كيف جاز ؟ ! لكنه يحتمل - والله أعلم - أن يكون على الابتداء والائتناف ؛ كأنه قال : لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ، ولكن كلوا بتجارة عن تراض منكم ؛ وعلى ذلك يخرج قوله - عز وجل - : { لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً إِلاَّ سَلاَماً } [ مريم : 62 ] استثنى السلام ، والسلام ليس من جنس اللغو ، لكن معناه ما ذكرنا : لا يسمعون فيها لغواً ، ولكن يسمعون فيها سلاماً . ويحتمل أن يكون في الثنيا بيان تخصيص المراد في المطلق من الكلام ؛ كقوله - تعالى - : { إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إِلَىٰ قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ * إِلاَّ آلَ لُوطٍ } [ الحجر : 58 - 59 ] دل استثناؤه آل لوط على أنه أراد بقوم مجرمين قوم لوط خاصّة ؛ لأنه قد كان في قوم إبراهيم - عليه السلام - وفي غيرهم أقوام مجرمين ؛ دل الثنيا على مراد الخصوص ؛ فعلى ذلك يدل استثناؤه التجارة عن تراض منهم - على أنه أراد بأكل المال بالباطل تجارة عن غير تراض ، وإن كان - في الحقيقة - يصير مال هذا بمال هذا ، وهو أن يأخذ مال غيره فيتلفه ؛ فيلزمه بدله ؛ فيصير ما عوض من بدله بما أتلفه قصاصاً ؛ فهو - في الحقيقة - تجارة . أو يحتمل : أن يكون أكل المال بالباطل بينهم ما لا يجوز ولا يطيب ؛ لأن حرف البين لا يستعمل إلا فيما كان البدل من الجانبين ؛ فإذا كان ما وصفنا محتملا - كان الثنيا من ذلك من وجه يطيب ، ومن وجه لا يجوز ولا يطيب . وفيه دليل : أن التجارة هي جعل الشيء له ببدل ، وترك الشيء بالشيء ؛ ألا ترى إلى قوله - تعالى - : { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلَـٰلَةَ بِٱلْهُدَىٰ } [ البقرة : 16 ] ذكر الشرى ولم يكن منهم إلا ترك الهدى بالكفر ، ثم سمى ذلك تجارة بقوله - تعالى - : { فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } [ البقرة : 16 ] . وفيه دلالة : أن البيع يتم بوقوع التراضي بين المتبايعين ، وليس كما قال قوم : لا يتم البيع وإن تراضيا على ذلك حتى يتفرقا عن المكان ؛ فكانوا تاركين - عندنا - لظاهر هذه الآية ، فإن احتجوا بالخبر الذي روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " المُتَبَايِعَانِ بِالخَيَارِ مَا لَمْ يَتَفْرَقَا " - لكن معناه عندنا : أن يقول الرجل للرجل : بعتك عبدي بكذا ، فلصاحبه أن يقول : قبلت البيع ، ما دام في مجلسه . أو يحتمل : أن يكون إذا قال : بعتك ، كان له الرجوع قبل أن يقول الآخر : قبلت . على أن قوله - عليه السلام - : " مَا لَمْ يَتَفْرَّقَا " ، لا يوجب أن يكون تفرقاً عن المكان [ و ] تفرق الأبدان ؛ ألا ترى أن الله - سبحانه وتعالى - قال : { وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ ٱللَّهُ كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ } ، ولا يفهم المعنى من ذلك تفرق المكان والأبدان ؛ ولكن وقع ذلك على القول والطلاق . على أن في الآية بيان تمام البيع بوجود التراضي بقوله : { إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَٰرَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ } . ومما يدل على ذلك - أيضاً - : قوله - تعالى - : { وَأَشْهِدُوۤاْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ } [ البقرة : 282 ] فلو كان البيع لا يتم بالتراضي ؛ فمتى يشهد : قبل التفرق أو بعد التفرق ؟ إن أشهد قبل التفرق ، فهل المقر صادق في أن لصاحبه عليه الثمن أو كاذب ؛ إذ كان البيع لم يتم ، وما ينفعه الإشهاد إن كان للمقر أن يبطل إقراره برد السلعة . وإن كان إنما يشهد بعد التفرق فقد يجوز أن يتلف المال بالتفرق قبل الإشهاد ؛ فأين التحصين الذي أمر الله تعالى ؟ ! ومما يدل على تأويلنا في الخبر : ما روي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الْبَيِّعَانِ بِالخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا مِنَ بَيْعِهِمَا ، أَوْ يَكُونُ بَيْنَهُمَا خِيَارٌ " ، وما روي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم - : " الْبَيعَانِ بالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا ، وَلاَ يَحِلُّ لأَِحدٍ أَنْ يُعَجِّلَ فِرَاقَهُ خشية أَنْ يَسْتَقيلَهُ " . وقوله : " يستقيله " يدله على أن ليس له أن يرده إلا بأن يقيله صاحبه ؛ ويدل قوله صلى الله عليه وسلم : " مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا مِنْ بَيْعِهِمَا " - على أن التفرق هو الفراغ من عقد البيع لا غيره . ومما يدل على أن الخيار ليس بواجب : قول عمر - رضي الله عنه - إن البيع عن صفقة أو خيار ؛ فكان موافقاً لما روى أبو هريرة - رضي الله عنه - يقول : دل قوله - تعالى - : { لاَ تَأْكُلُوۤاْ … } إلى قوله : { تِجَٰرَةً عَن تَرَاضٍ } - على الإذن في الأكل إذا وجدت التجارة عن تراض من الناس ، والتجارة معروفة عند جميع من له عقل ، ومعروف أن تفرق المتعاقدين بعد الفراغ من العقد لم يعرف - فيما هو عند الخلق - تجارة ، ولكن التفرق بانقضاء ما له الاجتماع والفراغ منه بما ليس من معاقدة العقلاء الوقوف في مكان بلا حاجة ؛ فليس التفرق مما يحتمل أن يظنه حكيم أو سفيه من التجارة ، وقد أذن في الأكل ، والأكل عبارة عن الأخذ وأكل أنواع المنافع بالباطل ؛ فثبت أن قد ملك بالفراغ عن التجارة بغير الرضا ، وأيّد ذلك قوله : { وَأَشْهِدُوۤاْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ } [ البقرة : 282 ] والتبايع الذي عليه الإشهاد هو التعاقد ، لا التفرق ، ومن البعيد أن يكلفوا الإشهاد على التبايع قبل وجوب الواجب من الحق الذي عليه الإشهاد ؛ فثبت بذلك وجوب ما جعل البائع بوجوبه دون التفرق ؛ وإذن ثبت الذي ذكرنا من أحكام القرآن مع الكفاية بالأمر الذي لا يجوز شذوذ حق لا يسلم عنه بشر عن علم جميع البشر ، وكل أهل التبايع به يتعارفون الحق بينهم بالفراغ من العقود ، ولا يجوز شذوذ العلم بحقٍّ ذلك محله ؛ فيكون اتفاق الخلق على الجهل بالاعتقاد في أمر يعرفه الرسول صلى الله عليه وسلم ثم أئمة الهدى ، لا ينتهون عن ذلك ، والله أعلم . فإذا لزم ذا الولاء المروي من الخيار : أن كل متبايعين بالخيار ما لم يتفرقا ، حمل الخبر على ما فيه بعض العلم بحق القرآن ، وما عليه أمر الخلق على اتساع لغير ذلك الوجه ، بل لعله بغيره أولى ، ثم يخرج على وجوه : على إضمار : حُقَّ على المتبايعين أن يكونا كذلك في حق الجعل ، لا في حق العبادة عن واجب ؛ دليله رواية عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " البَيِّعَانِ بِالخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفْرَّقَا " . أو لا يحل لأحدهما أن يفارق صاحبه ؛ خشية أن يستقيله ؛ ثبت أن المعنى بالخيار في حق الجعل لو طلب - كالفسخ في الاستقالة ، والله أعلم . والثاني : أن يريد به : ما داما في التبايع ؛ دليل ذلك احتمال اللفظ [ في ] قوله - سبحانه - : { وَأَشْهِدُوۤاْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ } [ البقرة : 282 ] والإشهاد على التبايع ، والتبايع هو فعل اثنين ، وقد ثبت منهما مع الفراغ - الإشهاد على التبايع ، وهذا أحق بوجوه : أحدها : حق اللغة أنه اسم التفاعل ، وهو اسم لفعلهما ؛ فيستحقان ذلك في وقت كونهما فيه : كالتضارب ، والتقاتل ، ونحو ذلك ، وبعد الفراغ التسمية تكون بحق الحكاية دون تحقيق الفعل . والثاني : بما روي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " البَيِّعَانِ بِالْخِيَّارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا مِنْ بَيْعِهِمَا ، وَبَيْعُهُمَا مَعْرُوفٌ " ، والله أعلم . والثالث : متفق القول من أهل العقل على رؤية وجوب البيع دون التفرق عن المكان ، والله أعلم . والرابع : أن يجعل ذلك الحد لإصلاح البياعات أنهما ما لم يتفرقا يملكان الاصطلاح ، وإذا تفرقا لا ، وهو أولى ؛ إذ قد جعل التفرق التام شرطاً للفساد ومنع الإصلاح ، وقد كان في بعض العقود مما يصلح بالقبض ؛ فهو على الوجود قبل التفرق ، ثم لا يصلح إذا وجد التفرق ؛ فمثله مما كان الصلاح بالقول في الإصلاح ؛ وعلى ذلك إذا قال أحد للآخر : اختر - انقطع خياره لو كان تفرقاً من القول ، وليس فيه زيادة على ما في قوله : بعت منك ، في حق الإصلاح ؛ فثبت أن التفرق لقطع الإصلاح ، لا للإصلاح - والله أعلم - قوله : إن للناس عرفاً في التبايع من وجهين : أحدهما : في التعاقد . والثاني : في التقابض ؛ فيكون المعنى من الخبر فيما البيع عن تقابض ، وهو بيع المداومة إذا ترك كل واحد منهما الآخر يفارقه على ما سلم وقبض كان ذلك بينهما ، وجاز ذلك - أيضاً - بحق الآية في الإباحة عن تراض ، واسم التجارة قد يقع على تبادل ليس فيه قول البيع ؛ كقوله - تعالى - : { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلَـٰلَةَ بِٱلْهُدَىٰ } [ البقرة : 16 ] وقوله : { إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ } [ التوبة : 111 ] وذلك مع قوله - سبحانه وتعالى - : { فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ } [ البقرة : 16 ] وفي ذلك أن البيع الموقوف إذا أجيز يباح الأكل ؛ لما كان وقت الأكل قد وجدت التجارة عن تراض ، وفي ذلك دليل وجوب خيار الرؤية ؛ إذ قد جعل الرضا سبباً ، وهو بما يجهل غير محق ، وإنما يعلم بالرؤية . وفيه أنه بالقبض يمضي حق العقد ؛ إذ التجارة للأكل ، ولا يوصل إليه إلا بالقبض ، فإذا فات ، فات ما له التجارة ؛ فيبطل ، والله أعلم . وفي قوله - أيضاً - : " تبايعا " وإن كان اسما لفعل اثنين ، فلما يتصل صحة كلام كل واحد منهما إذا كان الآخر حاضراً ؛ فكأنهما اشتركا في صحته ؛ فصارا به متبايعين ، نحو قوله : [ حتى يتفرقا ] ، والتفرق اسم لفعل اثنين ، لكن أحدهما إذا فارق مكان البيع والآخر لم يفارقه - فقد وجد حق التفرق من أن ليس أحدهما يجنب الآخر ؛ فكأنهما اشتركا في التفرق وإن لم يوجد الفعل من أحدهما ، والله أعلم . وقوله - جل وعز - : { وَلاَ تَقْتُلُوۤاْ أَنْفُسَكُمْ } . يحتمل وجهين : أي : لا يقتل بعضكم بعضاً ؛ فإنه إذا قتل آخر يقتل به ؛ فكأنه هو الذي قتل نفسه ؛ إذ لولا قتله إياه وإلا لم يقتل به . والثاني : أنه أضاف القتل إلى أنفسهم ؛ لأنهم كلهم كنفس واحدة ؛ إذ كلهم من جنس واحد ، ومن جوهر واحد . وقوله - عز وجل - : { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً } . أي : من رحمته : أن جعل لكم فيما بينكم القصاص ، وأخذ النفس بالنفس ، والمال بالمال ، وفي ذلك حياة أنفسكم ، وإبقاء أموالكم . ومن رحمته - أيضاً - : أن جعلكم من جوهر واحد ؛ إذ كل ذي جوهر يألف بجوهره ، ويسكن إليه ، والله أعلم . ومن رحمته : أرسل إليكم الرسل ، وأنزل عليكم الكتب ، وأوضح لكم السبل . ومن رحمته : أن أمهل لكم ، وستر عليكم ، ودعاكم إلى المتاب . ومن رحمته : دفع عنكم الآفات ، وأوسع لكم الرزق ، وبالمؤمنين خاصة برحمته اهتدوا ، وسلموا عن كل داء . وقوله - عز وجل - : { وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً } [ النساء : 30 ] عدواناً لمجاوزته حدود الله ، وظلماً على صاحبه . والعدوان هو التعدي والمجاوزة عن حدود الله ؛ كقوله - تعالى - : { وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ } [ البقرة : 229 ] . ويحتمل قوله : { وَظُلْماً } على نفسه ؛ كقوله - عز وجل : { وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ } [ الطلاق : 1 ] وقوله - تعالى - : { وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ ٱللَّهِ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّٰلِمُونَ } [ البقرة : 229 ] ، وقوله تعالى : { فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ } [ التوبة : 36 ] . وهذا الوعيد - والله أعلم - لما يفعل ذلك مستخفّاً بحدود الله واستحلالا منه لذلك ؛ وإلا لو كان ذلك على غير وجه الاستخفاف بها والاستحلال لها - لم يستوجب هذا الوعيد ؛ ألا ترى أنه قال - تعالى - : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِصَاصُ فِي ٱلْقَتْلَى } ثم قال - عز وجل - : { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ } [ البقرة : 178 ] إنما جاء هذا في قتلى العمد ، ثم أبقى الأخوة فيما بينهما ، وأخبر أن ذلك تخفيف منه ورحمة ، وفيما كان الفعل منه فعل الاستخفاف والاستحلال لا يجوز أن يكون فيه منه رحمة ، ويخلد في النار ؛ وعلى ذلك يخرج قوله - تعالى - : { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَٰلِداً فِيهَا } [ النساء : 93 ] إذا قتله مستحلا له مستخفّاً بتحريم الله إياه ؛ فاستوجب هذا الوعيد ، وأما من فعل على غير الاستحلال والاستخفاف بحدوده فالحكم فيه ما ذكرنا والله أعلم . وقوله - تعالى ، أيضاً - : { عُدْوَاناً وَظُلْماً } يحتمل : الاستحلال ؛ دليله قوله - عز وجل - : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِصَاصُ } ثم قال - عز وجل - : { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ } [ البقرة : 178 ] ، وقال : { ذٰلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ } فأبقى الأخوة التي كانت بقوله - عز وجل - : { يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } ؛ فثبت أن الإيمان بعدُ باق فأبقى له الرحمة والأخوة ، وهاهنا زال ؛ لذلك افترقت الآيتان . والثاني : أنه وعد اختلافهم ، ولم يذكر الخلود ، وجائز تعذيبه في الحكمة والتنازع في الخلود لا غير . والأصل في هذا ونحوه : أنه لم يتنازع أن يكون فعله الذي فيه الوعيد إن كان ثَمَّ خلود ، فهو الذي يزيل عنه اسم الإيمان ، ويبطل عنه حق فعله ، وإنما التنازع في إبقاء اسم الإيمان في لزوم الوعيد ؛ فهي فيمن لم يبق له الاسم ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ } . اختلف فيه : قال بعضهم : كبائر الشرك ؛ لأن كبائر الشرك أنواع ، منها : الإشراك بالله ، ومنها جحود الأنبياء صلى الله عليه وسلم ، ومنها : الجحود ببعض الرسل ، عليهم السلام ، ومنها : جحود العبادات ، واستحلال المحرمات ، وتحرم المحللات ، وغير ذلك وكل ذلك شرك بالله . فقيل أراد بالكبائر كبائر الشرك ، فإذا اجتنب كبائر الشرك صارت ما دونها موعوداً لها المغفرة بالمشيئة بقوله - تعالى - : { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } [ النساء : 38 ، 116 ] وعد المغفرة لما دون الشرك ، وقرنها بمشيئته ؛ فهو في مشيئة الله - تعالى - : إن شاء عذبه ، وإن شاء عفا عنه ، وبالله التوفيق . وقيل : أراد بالكبائر [ كبائر ] الإسلام . ثم يحتمل وجهين بعد هذا : يحتمل : أن تكون الصغائر مغفورة باجتناب الكبائر . ويحتمل : أن تكون الصغائر مغفورة بالحسنات ؛ ألا ترى أنه قال في آخره : { نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } ، والتكفير إنما يكون [ بالحسنات ] ؛ ألا ترى أنه قال : { إِنَّ ٱلْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ ٱلسَّـيِّئَاتِ } [ هود : 114 ] أخبر أن من السيئات ما يذهبها الحسنات . ويحتمل : أن يكون التكفير لها جميعاً وإن لم تجتنب ؛ ألا ترى أنه قال في آية أخرى : { إِن تُبْدُواْ ٱلصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ } إلى قوله - عز وجل - : { وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ } [ البقرة : 271 ] وقال - عز وجل - : { تُوبُوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } [ التحريم : 8 ] ؛ ألا ترى أنه روي عن أنس - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " شَفَاعَتِي نَائِلَةٌ لأَِهْلِ الكَبَائِرِ مِنْ أُمُّتي " . وروي عن علي [ بن أبي طالب ] - رضي الله عنه - أنه سمع امرأة تدعو : اللَّهُمَّ اجعلني من أهل شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم فقال : " مَهْ ! فَقُولي : اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنَ الفَائِزِينَ ؛ فَإِنَّ شَفَاعَةَ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم لأَِهْلِ الكَبَائِرِ " ثم قرأ : { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ … } الآية . ثم اختلف في كيفية الكبائر وماهيتها : فقال بعضهم : ما أوجب الحد فهو كبيرة : من نحو الزنا ، والسرقة ، والقذف ، وغير ذلك . وقال آخرون : الإشراك بالله ، وقتل النفس التي حرم الله بغير حقها ، وأكل مال اليتيم ، وأكل الربا ، وقول البهتان ، والفرار من الزحف . وروي عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - [ أنه سئل عن ذلك ؟ فقال : " من أول السور إلى هنا من المحرمات ، فهو من الكبائر . وروي أنه قيل لابن عباس : إن عبد الله بن عمر ، يقول : الكبائر تسع . فقال ] ابن عباس - رضي الله عنه - : هنّ إلى التسعين أقرب ، ولكن لا كبيرة مع توبة ، ولا صغيرة مع إصرار . وروي عن الحسن قال : قال [ رسول الله ] صلى الله عليه وسلم : " مَا تَقُولُونَ فِي الزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ ؟ " قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : " هُنَّ فَوَاحِشُ ، وَفِيهِنَّ عُقُوبَةٌ " ثم قال [ رسول الله ] صلى الله عليه وسلم : " أَلاَ أُنْبَئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ ؟ " قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : " الإِْشْرَاكُ بِاللهِ ، وَعُقُوقُ الوَالِدَيْنِ " قال : وكان متكئاً فجلس ثم قال : " أَلاَ وَقَوْلُ الزُّورِ ، أَلاَ وَقَوْلُ الزُّورِ " قاله ثلاثاً " . وقوله - تعالى - : { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } . ذكر تكفير السيئات إذا اجتنب الكبائر ، ولم يذكر الحكم إذا لم يجتنبها ؛ فليس فيه أنه إذا لم يجتنب لا يكفر ، فهو في مشيئة الله : [ إن شاء كفر ، وإن شاء عذب ] ؛ على ما ذكرنا : أن وجوب الحكم لا يوجب إيجاب ذلك الحكم في حال أخرى ، حظراً كان أو إحلالا ، والله أعلم . ويقرأ في بعض القراءات : ( إن تجتنبوا كبير ما تنهون عنه ) فإن ثبت هذا فهو يدل على التأويل الذي ذكرنا آنفاً : أنه أراد بالكبائر كبائر الشرك ، [ والله أعلم ] . قوله - عز وجل - : { وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً كَرِيماً } . قيل : الجنة .