Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 4, Ayat: 54-55)

Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله - عز وجل - : { أَمْ يَحْسُدُونَ ٱلنَّاسَ عَلَىٰ مَآ آتَٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ } . يقول : بل يحسدون محمداً صلى الله عليه وسلم على ما آتاه الله من فضله من الكتاب والنبوة ؛ يقول الله - عز وجل - ردا عليهم : { فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَٰهِيمَ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ } فلم يحسدوه ؛ فكيف يحسدون محمداً صلى الله عليه وسلم بما آتاه الله - تعالى - من الكتاب والنبوة ، وهو من أولاد إبراهيم ، عليه السلام ؟ ! فهذا - والله أعلم - معناه . وقوله - عز وجل - : { وَآتَيْنَاهُمْ مُّلْكاً عَظِيماً } قيل : أراد الملائكة والجنود . وقيل : هو ملك سليمان بن داود ، [ وداود ] كان من آل إبراهيم ، عليه السلام . وقوله - عز وجل - : { أَمْ يَحْسُدُونَ ٱلنَّاسَ } يعني : محمداً صلى الله عليه وسلم { عَلَىٰ مَآ آتَٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ } يعني : من كثرة النساء ، لكن ذلك ليس بحسد ، إنما هو طعن طعنوه ، وعيب عابوه ؛ لأن الحسد هو أن [ يرى لآخر ] شيئاً ليس له ؛ فيتمنى أن يكون ذلك له دونه ، وقد كان لهم نساء ، لكنه إن كان ذلك فهو طعن طعنوه ، وعيب عابوه على كثرة النساء ، ويقولون : لو كان نبيّاً لشغلته النبوة عن النساء ، ويقولون : يحرم على الناس أكثر من أربع ، ويتزوج تسعاً وعشراً ؛ فأنزل الله - عز وجل - ردّاً عليهم : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ … } [ الرعد : 38 ] ، وكان لداود تسع وتسعون امرأة ، وما قيل - أيضاً - إن لسليمان - عليه السلام - ثلاثمائة سرية وسبعمائة حرائر . إن ثبت ذلك : فكثرة النساء له لا تمنع ثبوت الرسالة والنبوة ، وإنما تمنع كثرة النساء لأحد شيئين : إما [ لخوف الجور ] ، وإما للعجز عن القيام بإيفاء حقهن . فالأنبياء - عليهم السلام - يؤمن ناحيتهم الجور ، وكانوا يقومون بإيفاء حقهن مع ما كان قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة لتسع أو لعشر من النساء من آيات النبوة ؛ لأنه كان معروفاً بالعبادة لله ليلاً ، وبالصيام له نهاراً ، وتحمل الجوع وأنواع المشقة تباعاً ، ومعلوم في الخلق أن من كان هذا سبيله لم يقدر على وفاء حق امرأة واحدة ؛ فضلاً أن يقوم لإيفاء حق العشر وأكثر ؛ فدل أنه بالله قدر على ذلك ، وعلى ذلك قيام داود - عليه السلام - لمائة من النساء ، وقيام سليمان - عليه السلام - لألف منهن ، فذلك من آيات النبوة ؛ لما ذكرنا : أنه ليس من وسع أحد سواهم القيام بذلك . وكذلك في قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم لإظهار هذا الدين من غير اتباع كان له ، أو ملك ، أو فضل سعة - دليل أنه كان بنصر الله أظهر ، ويعوذه به جميع هذا الخلق على دينه . وفي قوله - أيضاً - : { أَمْ يَحْسُدُونَ ٱلنَّاسَ [ عَلَىٰ مَآ آتَٰهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ ] فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَٰهِيمَ … } الآية تحتمل وجهين : أحدهما : المحاجة : أن كيف يحسدون محمداً صلى الله عليه وسلم وأتباعه من آل إبراهيم وأولاده بما خصهم به من فضله ، ولم يزل ذلك في آل إبراهيم ، ولم يكونوا حسدوهم . وعلى هذا قوله - تعالى - : { فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ بِهِ } أي : بمحمد صلى الله عليه وسلم أو بكتابه الذي أنزل عليه . والثاني : أن يكون على التصبير على أذاهم الذي كان منهم بالحسد مما كان هذا فيمن تقدمه من آل إبراهيم ، ومن فضله ، ومن الحساد لهم في ذلك ، والمؤذين لهم ، فصبروا ، ولم يكافئوهم ؛ نحو قوله - تعالى - : { فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ بِهِ } : أي : بإبراهيم - عليه السلام - أو بما أنزل إليه ، أو آله ، والله أعلم . الأصل في اختلاف التأويل الآية واحدة فيما يجب في ذلك من الحق أنه على أقسام : أحدها : أنه يتسع الكل . ويحتمل : دخول الكل في المراد . ويحتمل : إرادة البعض ؛ فإن كان ذلك مما يجب العمل به يلزم طلب الدليل على الموقع للمراد ، فإن وجد من طريق الإحاطة شهد عليه بالمراد ، وإن لم يوجد عمل به [ على حسب الإذن في العمل به بالاجتهاد من غير الشهادة عليه أن المقصود لا غير ، والله أعلم ] . وإن كان ذلك مما لا يجب العمل به وإنما حقه الشهادة يشهد [ به ] على ما [ هو ] في الحكمة وجوب تلك الشهادة من غير أن يقضي على الآية بقصد ذلك إذا كانت بحيث تتسع له ولغيره ؛ نحو القول بأنه سميع عليم على إثر أمورهم من أدلة الخصوص ، لو كانت تحتمل الخصوص ، وفي الحكمة أنه سامع كل صوت ، وعليم بكل شيء ، فبه يشهد ، ولا يقال في ذلك : إنه أراد ذا من الخاص ، نحو قوله - تعالى - : { وَإِنْ عَزَمُواْ ٱلطَّلاَقَ فَإِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } [ البقرة : 227 ] قال قوم : لا يقع الطلاق حتى يوقع ؛ لأنه ذكر أنه سميع ولو أوقع الطلاق بغير قول ، لم يكن لذكر السميع في هذا الموضع فائدة . وقال قوم : { سَمِيعٌ } لإيلائه ؛ إذ هو قسم ينطق به ، { عَلِيمٌ } لعزمه ، وقد ذكر { سَمِيعٌ عَلِيمٌ } ؛ فيجب توجيه كل حرف إلى وجه ، ليفيد حقيقة ذلك في هذا الموضع ، ولو كان لا يقع دون القول لكان كل أمره مسموعاً ؛ ليلتقي القول بأنه سميع عن القول بأنه عليم . وفي جملة العقد من [ طريق ] الحكمة أنه سميع بكل صوت ، عليم بكل شيء ، لكن في النوازل يتوجه وجهين لا يجب القطع عليه في الإرادة إلا أن يجيء ما يوجب الإحاطة ، وقد عمل به الخلق على الاختلاف ، والله أعلم . ووجه آخر من التأويل : أنه يحتمل وجوهاً لا يسع للكل في حق العمل أو في حق الشهادة ، لكنها لأحد الحقين ، فإن كان ذلك في حق العمل يجب طلب دليله ، ويكون الدليل على وجهين : أحدهما : أن يوجب على حق العمل والشهادة جميعاً . والآخر : أن يوجب [ على ] حق العمل خاصة ، وقد بينا ذلك . وإن كان في حق الشهادة فيجب الوقف في تحقيق المراد ، والتسليم لله حتى يظهر ، وذلك في حق إضافة الاستواء إلى الله - تعالى - على العرش ، والقول بالرؤية من حيث يثبت ما به يرى على الإشارة إليه ، لا بالإحاطة ، ونحو ذلك من الأمور ، والله أعلم . ووجه آخر : أن يكون احتمال وجوهها إنما يكون بمقدمات ، فيختلف على اختلاف تلك المقدمات ، فلا يجوز تأويل تلك إلا بمعرفة [ المقدمة ] إذا لم يكن فيها غير معرفة الموقع من المقدمة ، ؛ نحو قوله - تعالى - : { فَإِذَا فَرَغْتَ فَٱنصَبْ } [ الشرح : 7 ] لم يكن لأحد تأويل واحد من الوجهين حتى يعلم بالسمع أنه فيم كان مشغولا . وقوله - تعالى - : { فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَآ أَزْكَىٰ طَعَاماً } [ الكهف : 19 ] لم يكن لأحد طلب مراد قائله أو تأويل مراده ، ولا يظفر به إلا بالوحي ، ولا قوة إلا بالله . والقول في حقه إلى أن يتبين ما كان في حق الشهادة ، فلازم الوقف فيه حتى يظهر ، وما كان في حق العمل ، فإن كان في نوع ما يحتمل الاحتياط فحقه القيامة به حتى يظهر دليل التوسيع ، ودليل التوسيع على الوجهين اللذين ذكرت ، وإن كان فيما لا يحتمل الاحتياط فحقه التوقف حتى يظهر والله أعلم . ولا يخلو شيء إلا أحد الوجهين به حاجة من دليل يكون له . وقوله - عز وجل - : { بَدَّلْنَٰهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا } . أي : غير الجلود النضيجة ؛ كقوله - تعالى - : { أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ } [ الرعد : 5 ] أي : تجدد ما قد فني ، وكذلك أعيد ما قد كان من الجلود قبل النضج جديداً في رأي العين من حيث صار الأول نضيجاً ، لا أن كان هذا غير الأول ، بل هو الأول غير نضيج ؛ إذ ذلك نعت الأول ، وتعذيب ما كان ارتكب المعصية ؛ لأن التعذيب - في الحقيقة - على غير الذي أثم فيه . وقال قائلون : الجلود والعظام ونحو ذلك لم تكن عصت ولا أطاعت ، بل استعملت قهراً وجبراً ، لا أنها عملت طوعاً ، لكن الذي به عملت والذي استعملها في الجسد به يتلذذ ويتألم ، فهو المعذب والمثاب بما صدر من الجسد ؛ ألا ترى أن أجساد أهل الجنة تزداد الحسن والجمال ، وجعل لأهلها حدّاً لا يزداد ولا ينتقص ، وأجساد أهل النار مشوهة قبيحة ؛ ليكون لهم في التقبيح عقوبة ، وللأول بالتحسين ثواب ، فكانت فيها أحوال للجزاء لم تكن للأعمال ، فثبت أن المثاب والمعاقب ما ذكرت ، لكنه يتألم ويتلذذ ، فجعلت على ما بها تمام اللذة والألم من الأجساد لا على إعادة أنفس تلك الأجساد ، بل على التجديد ، كما ذكره في القرآن ، وكذلك المقطوع على بعض الأعضاء في حال الكفر إذا أسلم يبعث سليماً ، لا كذلك ، ومثله في حال الإسلام لو أريد لم يرفع عنه ألم ذلك ؛ فدل الذي ذكرت على حق تجدد الثاني على ما شاء الله والذي به كان المأثم والبر على ما قد كان ، والله أعلم . وللمذهب الأول أن الجزاء هو لما يختم عليه ؛ إذ لو كان إسلام لتمنى لنفسه أحسن الأحوال ، وأسلم البنية ليستعملها بالخير ، فأوجب ذلك إبطال جميع السيئات كانت بجوارح ذهبت أو بقيت ، وكذلك من اختار الكفر فقد آثره ، واختار أن يكون على ذلك ، وإن سلمت جوارحه وتمت فلزمه حكم احتياط جميع ما تقدم بكل فائت منه وباق ، وفي الأول استوجب جعل جميع ما تقدم منه بالفائت والباقي حسنات لما ندم عن الكل بكل الجوارح ، فلحق حكم تبديل السيئات بالحسنات في الكل ؛ فيكون على حكم إعادة الأولى بحق التجديد في المعنى - والله أعلم - نحو قوله - تعالى - : { أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ } [ آل عمران : 22 ] وقوله : { فَأُوْلَـٰئِكَ يُبَدِّلُ ٱللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ … } الآية [ الفرقان : 70 ] . وفي الإعادة كقوله - تعالى - : { مَن يُعِيدُنَا … } الآية [ الإسراء : 51 ] ، وقوله - عز وجل - : { أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ … } الآية [ الرعد : 5 ] وغير ذلك من آيات البعث ، والله أعلم . وقال قائلون : الواجب من العقوبة للكفر ، وغيره بحكم التبع له ، وكذلك الثواب الواجب منه للإيمان ، ولغيره بحكم التبع ، بل به قام ، والأول به سقطت عنه مشيئة العفو ، فصار الذي به الجزاء خاصّاً ، وغيره بحكم التبع يزداد وينتقص ؛ فعلى ذلك أمر الجزاء والتجديد والإعادة ، وكل ذلك للذي هو بحق التبع ، والاتباع في الشاهد بتجدد أعين الأفعال ، ولا يدوم ، والاعتقاد في الأمرين يدوم ، فعلى ذلك أمر الجزاء ولذلك ، والله الموفق . ولهذا الوجه ما يبطل الخلود لما سوى الكفر ؛ إذ في ذلك إبطال الجزاء الدائم من حيث الأفعال ، وإدامة الجزاء المنقطع من حيث الأفعال ، فيكون فيه زيادة في العقوبة على المثل ، والله يقول : { فَلاَ يُجْزَىۤ إِلاَّ مِثْلَهَا } [ الأنعام : 160 ] ، والله الموفق . ثم اختلف في المبعوث أنه يبعث بجسده أو يبعث الروحاني منه ، سمته بعض الفلاسفة نفساً ، وبعضهم جوهراً روحانيّاً ، وبعضهم بسيطاً ، فإن كل جسد فيه روحاني في حياته ومنافعه ؛ وجسده له كالمانع عن جميع ما يحتمل من الأمور ؛ إذ الجوهر الروحاني لطيف ، ينفذ في الأشياء ، ويتخلل إلا بالحابس ، يبين ذلك أمر النائم أن النفس تخرج لقوله - تعالى - : { ٱللَّهُ يَتَوَفَّى ٱلأَنفُسَ حِينَ مَوْتِـهَا } [ الزمر : 42 ] ، أو هي مما يسكن الجوارح وينقطع عنها هم الجسدية يرجع إلى حصة جوهره فيراها تطوف في البلاد النائية ، وفي الأمكنة العلوية ، حتى لا تصفها أرض ولا سماء تأتي بالأخبار عنها كأنها شاهدة ، أما ما كان ذلك عملها بالجوهر حيث يكون من النفاذ إذا لم تحبس ، أو هي بالجوهر تخرج فتعمل ذلك وهي تسمع وتبصر وتعقل في المنام كأنها بالجسد كذلك ؛ فدل أن العمل في حال اليقظة وما له الجزاء لها ، فعلى ذلك أمر الجزاء ، وعلى ذلك جميع الجواهر التي بها الأغذية والحياة ليست بأعين تلك الأشياء ، ولكن بما جعل في سريتها من الروحاني ، وهي القوى التي تظهر في البدن إلى كل أجزاء البدن ، فتقوى وتصح فيه بحياة روحه ، وتزول عنه الآفات ، وكذلك عن السمع والبصر والعقل حل شيء ثم تلقى فعله ؛ فعلى ذلك أمر المعاد من الجزاء فهو على ذلك ، وكذلك الثواب يكون من كل موعود مما يعرف في الشاهد بجسده ويرجع إلى السرية التي هي روح لذلك فيكون هو الثواب ؛ لما هو بحكم روح في الجسد ؛ ألا ترى أنه لا يبقى في الآخرة بالأكل الأجساد التي تلقى ، وهي الأثقال التي تفضل في الجسد ، ويخرج عنها جميع ما فيها من الأقوية والروح ، فثبت أن الأمر يرجع إلى ما ذكرت ، وهذا معنى قوله - عليه السلام - : " مَا لاَ عَيْنٌ رَأَتْ ، وَلاَ أذُنٌ سَمِعَتْ ، وَلاَ خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ " لأن [ ذلك الجوهر ] لا تراه العين ، ولا تسمعه الأذن في الشاهد ، ولا يخطر على القلب ، وتكون لذة ذلك روحانيّاً ، لا هذه لذة الحياة بحياتها السمع والبصر ، وكل باطن في الجوهر ولذة الأجساد إنما يكون باللهاة في الطعم ، وبالعين في اللون ، وهذا النوع ، فيذهب هذا ، ويكون الأول ، وعلى ذلك تذهب العبادات الجسدانية ، وتبقى الروحانية من الحمد ، والثناء ، والتعظيم ، والهيبة ، والمعرفة ، ونحو ذلك يبقى أبداً ، بل يزداد ؛ لما يذهب عنها الحواجب من الجسداني ، وعلى ذلك يبطل تقدير الرؤية ، وإبطاله مما عليه أمر الشاهد لذهاب ما به كونها في الشاهد ، ورجوع الأمر إلى ما يحاط به على سقوط الحواجب ، والله أعلم . اختلف من ذكرت في أمر البعث : فمنهم من لا يرى على ما في الجسد من الروحاني فناء ، والبعث هو إسقاط الأجساد وخروج ما فيها من الروحاني بصورها . ومنهم من يقول : تفنى وتعاد على حالها ، ومعلوم أن ذكر الجديد لا يحتمل بلا ذهاب الأصل ، وذكر الإعادة بلا فوته ، وقال : { مَن يُعِيدُنَا قُلِ ٱلَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } [ الإسراء : 51 ] ، وجعل إنشاء الأولى دلالة للأخرى ، وليس ثَمَّ أخرى ، بل هي الأولى ، والأولى هي - على ما يزعمون - غير معروفة عند المنكرين ؛ فيحتج عليهم بها ، بل يجب أن يعرفوا الأولى أولا ، ثم يساعدوا على نفي البعث ، ويلزموا الإظهار . والدهرية ومنكري البعث يقولون في جميع العالم بالظهور بعد الكون ، وبالكون في الأصول بالقوة ، ثم الظهور بالفعل ، فكيف ينكرون البعث ليحتج عليهم بالخلق الأول ؟ ! والله أعلم . وقال قوم بالبعث بالأجساد على ما كانت ، لكنها كانت في الدنيا منشأة للفناء ، مشتمل عليها آثار الفناء ، ويحيط [ بها ] أعلام الهلاك ، ومن آفات كلها وسواتر تحجبن عن أعمال لطائف الجواهر ، وعن إدراك الروحانيين ، وإلا فهي كما وصفهم الله - تعالى - أنه خلقهم في أحسن تقويم ، وكرمهم بأقوم جوهر ، وأكمل أسر ، وأنقى خلقة ، فإذا وقعت عليهم الآفات ، وأعيدوا للبقاء ؛ فيزول عنهم جميع الظلمات التي هن حواجب وسواتر لهم على الإحاطة بحقائق الأشياء وبواطنها ، وعلى شكلهم تنشأ الأجساد المجعولة أجزاء لهم ، فيلحقون بجميع اللطائف جسداً بما فيها من الجوهر الروحاني [ و ] تصير هذه في اللطف كذلك الجوهر ، وهي لما تنقل إلى ألطف من ذلك ، وأنور لهم كالأرواح ؛ فيفضلون على الروحانيين بأجساد فيها معانيها من اللطافة ، والنفاذ في الأمور التي هي كالروحانيين في التمثيل وما فيهم حق الروحانيين ألطف من ذلك بارتفاع آثار الفناء عنها ، وخروجها من أن يعمل فيها الفساد ، وعلى ذلك أجساد الجزاء ، فإنها تخرج عن الآفات ، وتمنع عن الفساد ، و تصير أجسادها في الطيب والضياء كالروحاني ، وما فيها من الروحاني يبقى فيها على كل حال لا يفنى ، والأصل فيه أن الجزاء بحق الشهوات واللذات ، لا بحق الأغذية وحياة أجساد المستنفعين بها ، فتكون هي بحسدها وسريتها واحدة ، وبقاء الأجساد لها أحق من بقاء الروحاني في هذا العالم من طريق الاعتبار ؛ لأن الذي له حق الروحاني في الشاهد به البقاء والغذاء والحياة لا يدفع بها الآفات العارضة في الأرواح من جهة القوالب التي تضعف وتقوى ، وفي الآخرة لا تعرض الآفات [ التي ] يحتاج فيها إلى الأغذية ، وإنما ينال عنها الشهوات واللذات ، وإنما يكون ذلك من حق الأجساد في الشاهد ؛ لذلك كانت أحق أن تكون في الآخرة ، ثم هذا القول أوفق بما جاء به من حجج السمع وما عليه الاعتبار . فأما حجج السمع : فإن الله - عز وجل - قال : { إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ ٱلْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ … } الآية [ الحج : 5 ] ، وقال : { أَءِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً … } الآية [ الإسراء : 49 ] ، وقال - عز وجل - : { مَن يُحيِي ٱلْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا ٱلَّذِيۤ أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ } [ يس : 78 - 79 ] ، وغير ذلك مما حاج به منكري البعث ، والإشكال كان لهم في الأجساد ، وفيها جرت المحاجاة ؛ لذلك كانت هي أولى في الاعتبار مع ما كانت الأشياء اللطيفة [ التي ] لا تمس ولا تحس في التجديد لم يكن بحيث احتمال الإنكار لوجودهم في كل حال ؛ نحو العقول تذهب بأسباب ثم تعود ، وكذلك العلوم والسمع والبصر ، ونحو ذلك ، ثم الحسيات اللطائف : نحو الليل ، والنهار ، والنور ، والظلمة ، والظل ، ونحو ذلك يرون الفناء والعود في كل حين لا ينكرون هذا النوع ؛ ليحاجوا بالذي ذكر وبهذا ؛ فلذلك كان القول بالأجساد أحق ، والله أعلم . والاعتبار أن الله - سبحانه وتعالى - أنشأ هذا الخلق على ما يتلذذون ويتألمون ؛ ليكون ذلك علماً للترغيب والترهيب بالموعود ، وما يحل من الآفات وأضدادها في الروحاني في الجسد يكون له سرور وحزن ، لا يتألم ويتلذذ ، وقد جرى الوعد بالمؤلم والملذ . وكذلك حكمة خلق الجسد على ذلك بما يحقق العلم بالمرغب والمرهب من الموعود ، على أن السرور والغموم ليسا بحيث يرغب فيهما أو يزهد إلا من حيث يألم الجسد ويتلذذ ، بل كلٌّ يكون فيه الأمران ؛ ليسر ويحزن ؛ فلذلك كان القول بالأجساد أحق من طريق التقدير على ما جرى به حق السمع والعقل ، والله أعلم بحقيقة ذلك ، وبيده الملك ، يكرم من شاء بما شاء ؛ فضلاً منه ، ويهين من شاء ؛ بما شاء عدلاً منه ، والله الموفق . وقوله - عز وجل - : { فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ بِهِ } . بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم من اليهود { وَمِنْهُمْ مَّن صَدَّ عَنْهُ } . قال : { فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ بِهِ } يعني : بالكتاب الذي أعطي إبراهيم { وَمِنْهُمْ مَّن صَدَّ عَنْهُ } : عن الكتاب ، وهو قول ابن عباس ، رضي الله عنه . وقيل : { فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ بِهِ } يعني : إبراهيم { وَمِنْهُمْ مَّن صَدَّ عَنْهُ } يعني : عن إبراهيم ، عليه السلام . وقوله - عز وجل - : { وَكَفَىٰ بِجَهَنَّمَ سَعِيراً } . كأن جهنم - والله أعلم - معظم النار وجميع دركاتها ، والسعير هو التهابها ووقودها ؛ كقوله - عز وجل - : { وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ * لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ } [ الحجر : 43 - 44 ] . ويحتمل قوله : { وَكَفَىٰ بِجَهَنَّمَ سَعِيراً } أي : عذاباً ، والله أعلم . { وَكَفَىٰ بِجَهَنَّمَ } أي : بالتهاب جهنم التهاباً ؛ إذ السعير : الالتهاب ، والله أعلم .