Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 4, Ayat: 6-6)
Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله - عز وجل - : { وَٱبْتَلُواْ ٱلْيَتَامَىٰ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ } . اختلف فيه : قال بعضهم : قوله - عز وجل - : { حَتَّىٰ إِذَا } حرف ، " حتى " صلة ؛ وتأويله : وابتلوا اليتامى إذا بلغوا النكاح ؛ وهو قول الشافعي ، يجعل الابتلاء بعد البلوغ . ويحتمل أن يكون المراد بالابتلاء - قبل البلوغ ؛ لوجهين : أحدهما : أن يبتلي الأيتام قبل بلوغهم بأنواع العبادات والآداب ؛ ليعتادوا بها ويتأدبوا ؛ ليعرفوا حقوق الأموال وقدرها ، ويحفظوها إذا بلغوا ؛ لأنهم إذا ابتلوا بعد البلوغ لم يعرفوا ما عليهم من العبادات والفرائض وقت البلوغ ، وكان في ذلك تضييع حقوق الله وفرائضه ؛ إذ لا سبيل لهم إلى القيام بها حتى البلوغ ، فأمر الأولياء والأوصياء أن يبتلوهم قبل البلوغ ، حتى إذا بلغوا ، بلغوا عارفين لما عليهم من العبادات والحقوق ، حافظين لها ؛ ألا ترى إلى ما روي في الخبر أنه أمر الأب أنه يأمر ولده بالصلاة إذا كان ابن سبع ، وأمر بالضرب والتأديب إذا كان ابن تسع ، وبالتفريق في المضاجع ، وهو من حقوق الخلق ؟ ! فهذا ليعتادوا ، ويأخذوا الأدب قبل البلوغ ، حتى إذا بلغوا عرفوا ما عليهم ، وهان القيام بها ، وإذا لم يُعَوَّدُوا قبل ذلك يشتد عليهم القيام بإقامة العبادات وأداء الحقوق ؛ فعلى ذلك الأول . ووجه آخر : أن يبتلي عقولهم بشيء من أموالهم يتجرون بها ، ويتقلبون فيها ؛ لينظروا : هل يقدرون على حفظ أموالهم عند حدوث الحوادث والنوائب ؟ ففيه دليل جواز الإذن في التجارة في حال الصغر ؛ لأنه لا يظهر ذلك إلا بالتجارة . وإن كان المراد بالابتلاء بعد البلوغ والكبر فهو - أيضاً - يحتمل وجهين : يحتمل العلم بها نفسه ؛ ويحتمل العمل بها والعلم ، ولا يضعوها في غير موضعها . وقوله : " إن حرف { حَتَّىٰ } صلة " : إنه لو جاز له أن يجعل هذا صلة ، لجاز لغيره أن يجعل الرشد صلة فيه ؛ إذ لا فرق بين هذا وبين الأول أن يجعل صلة . ثم اختلف في قوله : { فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً فَٱدْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ } . قال بعضهم : هو أن يصير هو من أهل الشهادة ؛ فحينئذ يدفع إليه المال ؛ فعلى قوله يجيء أن ينتزع الأموال من أيدي الفساق ؛ لأنه لا شهادة لهم ؛ ومن قوله : إن اليتيم من أهل الكفر لا يدفع إليه المال إلا بعد استئناس الرشد منه ، فلو كان شرط الرشد هو شهادة لكان الكافر لا يدفع إليه عنده ؛ لما لا يقبل الشهادة ما لزم الكفر على أحد ؛ دل أن الرشد ليس ما ذكر ، ولكن ما قيل من العقل والحفظ لماله ، والإصلاح فيها . وروي عن ابن عباس - رضي الله عنه - في قوله - تعالى - : { فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً } قال : إذا أدرك بحلم وعقل ووقار . وهو يقول - أيضاً - في قوله - تعالى - : { مِّنْهُمْ رُشْداً } : إن الله - سبحانه وتعالى - يقول : اختبروا اليتامى من عند الحلم ، فإن عرفتم منهم رشداً في حالهم ، والإصلاح في أموالهم - : { فَٱدْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ } . وفي حرف ابن مسعود - رضي الله عنه - : " فإن أحسستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم " . وفي حرف حفصة : " وابتلوا اليتامى في أموالهم حتى إذا بلغوا النكاح بعد كبرهم " . ثم لا يخلوا منع الأموال منهم من أوجه ثلاثة : إما أن يمنع ؛ لفرط البذل والإنفاق ، جوداً وسخاوة ، وحسن الظن بالله أنه - عز وجل - يرزقهم ويعطيهم خلف نفقتهم ، وهذا لا يحتمل ؛ لأن هذا من أخلاق الأنبياء - صلى الله عليهم وسلم - وسيرتهم ؛ فلا يحتمل النهي عن ذلك . أو يمنع ؛ لغلبة شهوتهم ، ولقضاء وطرهم وحاجتهم ، ينفقون الأموال ؛ ليصلوا إلى ذلك ، فإنهم إن مُنِعوا عن أموالهم يتناولوا من أموال غيرهم ، ويتعاطوا ما لا يحل ولا يحسن ؛ فلا يحتمل أن يمنعوا لذلك . أو أن يمنع عنهم الأموال ؛ لآفة في عقولهم ، ونقص في لُبِّهم ، فإن كان لهذا ما يمنع أموالهم عنهم ؛ فيجب أن يمنع أبداً ، لا وقت في ذلك ولا مدة إلا بعد ارتفاع ذلك وزواله عنهم ، وهو الوجه ، يمنع منه حتى يؤنس منه الرشد . ثم جعل إدراكه وبلوغه بالاحتلام ؛ لأن كل جارحة من جوارح الإنسان يجوز استعمالها إلا الجارحتين منهما ؛ فإنه لا يقدر على استعمالهما إلا هو ، إحداهما : الذكر ، والأخرى : اللسان ؛ فإن هاتين الجارحتين لا يمكن استعمالهما إلا صاحبهما ؛ فجعل الاحتلام علماً لبلوغه وإدراكه لذلك ؛ ولهذا لم يعمل الإكراه عليهما ، نحو من أكره [ على الزنا ] ؛ فزنا ؛ فإنه عليه الحد ؛ لأن الإكراه لا يعمل عليه ؛ فإنما كان بفعل منه ، إلا الوالي ؛ فإنه إذا أكره آخر بالزنا ففعل لم يقم عليه الحد ؛ لما جعلنا ذلك كالعلم بالسبب الذي يحل ؛ وكذلك لو أكره حتى وطىء امرأة لزمه المهر ، ولا يرجع على المكره . ولو أكره على إتلاف مال من أمواله ففعل لرجع على المكره ؛ للمعنى الذي وصفنا ؛ ولهذا ما وقع طلاق المكره ونكاحه وعتاقه ؛ لأن هذه الأشياء إنما تقع باللسان ، واللسان مما لا يعمل عليه الإكراه ؛ لذلك جاز ، والله أعلم . وأما البيوع والأشربة والعقود كلها سوى هؤلاء ، تكون بالتسليم والقبض دون النطق باللسان والتكلم بها ؛ ، فالإكراه مما يعمل عليها ؛ لما أمكن استعمالها غيره ؛ لذلك افترقا ؛ ولهذا ما قلنا : إن الإيمان يكون بالقلب دون اللسان ؛ لأنه إذا أكره حتى يكفر ؛ فأجرى كلمة الكفر على لسانه ، وكان قلبه مطمئنّاً بالإيمان - لم يكفر ، فإذا اطمأن قلبه بالكفر - كَفَرَ ؛ لأن الإكراه لا يعمل على القلب ، ولا يصير المكره مستعملا له ، إنما المستعمل هو ؛ لا غير ؛ لذلك كان الجواب ما ذكرنا . ومعنى جعل الاحتلام بلوغا هو إمكان استعمال سائر الجوارح دونه - يعني : الفرج - إلا بعد الكبر ، وما كان المعروف من الآباء والأولاد ، وما كان مما يجرى الأمر بابتغاء المكتوب من الولد يكون بعد البلوغ ، وبعيد ذلك ، إلا في الوقت الذي لو ابتغى لوجد ولقدر عليه ، وليس ذلك إلا في خروج الماء للشهوة . ثم يكون في المتعارف الاحتلام عن ذلك ؛ فجعل علماً له ؛ ولذلك قيل : { حَتَّىٰ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ } ثم فرق في حق الكتاب بين اللسان وغيره ؛ من حيث لا يملك أحد قهر لسان آخر حتى ينطق دون صاحبه ؛ فبه يظهر سبب جري القلم من الإقرار بالبلوغ ، وهذا معنى ما جعل سببه بما لا يعلمه غيره ؛ ليكون أول أحوال البلوغ وقوع قوله بحيث البلوغ ، مع ما كان النطق فعل من يجري في جنسه الخطاب ؛ وكأنه اتصل أمره بالسبب الذي خص به الممتحن من العقل ؛ إذ كان العقل قد يعرف بالمحنة والاحتلام لا ؛ فأمرنا بالابتلاء من حيث العقول ، ولم نؤمر من حيث الاحتلام ، بل يقبل قوله في ذلك . ودل قبول قول من بلغ بالإخبار عن احتلامه ، وبه يجري القلم عليه ، ويلزم الحقوق - أن يقبله ، يجوز في ذلك الوقت - وبخاصة على قول من يرى الابتلاء بعد الإدراك - أنه لو لم يقبل فبم نبتليه ؟ ثم إذا جاز قوله لزم كل أمر علق به ، وعلى ما ذكرت من أول ما علق به القول في حق البلوغ دليل اتصال حكم القول بالعقل ، وتمام العقل بالبلوغ ؛ إذ به يجري القلم . ودل ما ذكرت من امتناع اللسان عن سلطان غير صاحبه عليه - على لزوم كل حق معلق به على الإكراه ؛ إذ لا يلزم بغيره ، وهو لا يجري عليه ، ثم كل أمر يكون لا به يصير اللسان سببا فيه كَالْمُعْلِم عنه ، وهو مما يجري عليه القهر ، ويعلم به ؛ فيبطل ، والله أعلم . وقوله : { وَلاَ تَأْكُلُوهَآ إِسْرَافاً وَبِدَاراً } . الإسراف : هو كل ما نُهي عنه . وقيل : الإسراف : هو أكلٌ في غير حق ؛ وكأن الإسراف هو المجاوزة عن الحد ، وهو كقوله : { وَٱلَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ } [ الفرقان : 67 ] ، وكان القتر مذموماً ، فعلى ذلك الإسراف في النفقة في مال اليتيم . وقوله - تعالى - : { إِسْرَافاً وَبِدَاراً } ، قيل : البدار : هو المبادرة ، وكلاهما لغتان ، كالجدال والمجادلة ، وهو أن يبادر بأكل مال اليتيم ؛ خشية أن يكبر ؛ فيحول بينه وبين ماله ، وهو قول ابن عباس رضي الله عنه . وفي حرف ابن مسعود - رضي الله عنه - : " ولا تأكلوها إسرافاً وبدارا خشية أن يكبروا " . وقوله - عز جل - : { وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِٱلْمَعْرُوفِ } أطلق الله - تعالى - لولي اليتيم - بظاهر الآية ؛ إذا كان فقيرا - أن يأكل بالمعروف من غير إسراف ، وذلك هو الوسط منها ، وكذلك روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّ رجُلا سَأَلَهُ ، فَقَالَ : لَيْسَ لِي مَالٌ ، وَلِي يَتِيمٌ ؟ فَقَالَ : " كُلْ مَالَ يَتِميك غَيْر مُسْرِفٍ ، وَلا مُتَأَثِّلٍ مَالَكَ بمَالِهِ " وفيه دليل أن الغني لا يجوز له أن يأكل مال اليتيم ، وأن الفقير إذا أكل منه : أنفق نفقة لا إسراف فيها . وعن عمر - رضي الله عنه - : قال : إني أنزلت نفسي من مال الله منزلة مال اليتيم : إذا استغنيت استعففت ، وإذا احتجت أكلت بالمعروف ، فإذا أيسرت قضيت . وروي عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال : الوصي إذا احتاج وضع يده مع أيديهم ، ولا يكتسى عمامة . وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت : في قوله - تعالى - : { وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِٱلْمَعْرُوفِ } ، قالت : يأكل والي اليتيم من مال اليتيم ؛ إذا كان يقوم له على ماله ، ويصلح إذا كان محتاجاً . وقيل : يأكل قرضاً ثم يرد عليه إذا أيسر ، وهو قول ابن عباس ، رضي الله عنهما . وقيل : { فَلْيَأْكُلْ بِٱلْمَعْرُوفِ } ، أي : من مال نفسه ، حتى لا يفضي إلى مال اليتيم . وقيل : يأكل إذا كان يعمل له ، ويقوم عليه . وقيل : يأكل قرضاً ؛ ألا ترى إلى قول الله - تعالى - : { فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ } : أمر بالإشهاد عليهم عند الدفع ، ولو كان أمانة في يده لم يحتج إلى الإشهاد في الدفع ، ولكن يجوز أن يأمر بالإشهاد لا لمكان الوصي نفسه ؛ ولكن لما يجوز أن يحدث بينه وبين ورثة الوصي خصومة فَيُشْهِد ؛ ليدفع تلك الخصومة عنهم . وقيل : الأكل بالمعروف هو ما يسد به جوعه ، ويواري عورته . وقوله - عز وجل - : { وَكَفَىٰ بِٱللَّهِ حَسِيباً } . قيل : شهيدا بما أخذ من ماله وأنفق . ويحتمل قوله : { حَسِيباً } يحاسبه في الآخرة ؛ إذا لم يحاسبه اليتيم في الدنيا .