Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 40, Ayat: 28-35)
Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله - عز وجل - : { رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ } . هذا يحتمل وجهين : أحدهما : من آل فرعون في الظاهر ، وإلا لم يكن في الحقيقة من آله ، وإنما هو من آل موسى وأتباعه ؛ حيث آمن به وترك اتباع فرعون ، والله أعلم . والثاني : من آله ، أي : من نسبه ؛ لأنه ذكر أنه كان ابن عمه ، والله أعلم . وقوله : { يَكْتُمُ إِيمَانَهُ } . إشفاقاً على نفسه ، ولا يظهر الموافقة لهم على ما هم فيه ؛ إذ قدر على الكتمان دون إظهار الموافقة لهم ، وعلى ذلك المكره على إظهار الكفر إذا قدر على ألا يظهر ما أريد منه من كلمة الكفر ولا يقتل بالامتناع لا يسع له إظهار ذلك لهم ، فإن لم يقدر فحينئذ يسع ؛ فعلى ذلك ما ذكرنا ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ ٱللَّهُ } . فيه إخبار أنه كان يكتم إيمانه ؛ إشفاقاً على نفسه ، فلما خاف إهلاك رسول الله موسى - عليه السلام - فعند ذلك أظهر ما كان يكتمه وإن كان في إظهار ذلك إهلاك نفسه بعد أن يرجو نجاة نبي من الأنبياء - عليهم السلام - وهكذا يجب ألا يسع كتمان ما كان يكتمه وإن كان نفسه تهلك إذا أظهر إذا كان في إظهار ذلك نجاة رسول من رسل الله تعالى - عليهم السلام - بحجج يدفع الهلاك بها عن نفس ذلك الرسول ؛ وكذلك ذكر عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - أن أهل مكة لما هموا قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وإهلاكه ، ألقى أبو بكر - رضي الله عنه - نفسه عليه ، وقال ما قال ذلك الرجل الذي كان يكتم إيمانه حيث قال : { أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ ٱللَّهُ } فعند ذلك نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم تكن نزلت قبل ذلك ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَقَدْ جَآءَكُمْ بِٱلْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ } . أي : جاءكم من البينات ما يبين أنها آيات من عند الله لا اختراعاً من موسى - عليه السلام - ويبين أنه صادق فيما يقول ويدعي . وقوله : { وَإِن يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ ٱلَّذِي يَعِدُكُمْ } . أي : وإن كان كاذباً فيما يدعوكم إليه فعليه كذبه ، وإن كان صادقاً فيما يقول ويدعي يصيبكم بعض الذي يعدكم ، فهو يعلم أنه صادق فيما يقول حقيقة ، ولكن لما كان عند القوم احتمل الأمر ، ذكر على ما في زعمهم ؛ دفعاً للقتل عن موسى ، عليه السلام . ثم الإشكال أنه قال : { يُصِبْكُمْ بَعْضُ ٱلَّذِي يَعِدُكُمْ } ذكر أنه يصيبهم بعض الذي يعد الرسل ، [ والرسل ] إذا وعدوا شيئاً يصيبهم بكماله ، لا يجوز أن يكون خلاف ما أخبروا أو دون ما ذكروا ، لكن يخرج على وجوه : أحدها : أنه كان وعده إياهم أن يصيبهم العذاب في الدنيا والآخرة ، فيقول : { يُصِبْكُمْ بَعْضُ ٱلَّذِي يَعِدُكُمْ } ، وهو ما وعد لهم أن يصيبهم في الدنيا ، وأما ما وعد لهم في الآخرة ، فهو يصيبهم في وقت آخر وهو في الآخرة ، فما أصابهم في الدنيا فهو بعض ما جرى الوعيد منه لهم ؛ لأن الوعيد كان منه في الدنيا والآخرة ، والله أعلم . والثاني : يحتمل أنه كان - عليه السلام - وعدهم بأنواع من العذاب ، وقد أصابهم بعض ذلك من الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم ونحو ذلك ، وفي بعض ما وعدهم هو هلاكهم ؛ فكأنه يقول لهم : إنكم قد أصابكم كثير من ذلك ، فيصيبكم بعض ما يعدكم الذي فيه هلاككم مبالغة في الزجر ؛ لما قد أصابهم ما وعد لهم من أنواع العذاب ، ولم يكن وعده كذباً ، فبعض ما يعدكم - وهو الهلاك - كيف يكون كذباً ؟ ! والله أعلم والموفق . والثالث : [ أراد ] بالبعض : الكل ؛ لأنه أراد بهذا البعض : الهلاك ، وهو البعض الأقصى ، فيدخل العالي فيه لأنه إذا أوعده بأنواع من العذاب منها الهلاك يكون الهلاك هو البعض الأقصى ؛ إذ لا عذاب في الدنيا بعد الهلاك ، فيكون سائر أنواع العذاب في الدنيا يكون قبل الهلاك ، فإذا أريد به هذا البعض يدخل فيه ما قبله ، ويكون ذكره ذكرا للكل ؛ إذ لا وجود له بدون سائرها ؛ لذلك قال : { يُصِبْكُمْ بَعْضُ ٱلَّذِي يَعِدُكُمْ } ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ } ، هذا يخرج على وجهين : أحدهما : أنه لا يهدي من هو في علمه أنه يؤثر الإسراف والكذب . والثاني : لا يهدي من هو مختار الإسراف والكذب وقت اختيارهم الإسراف والكذب . وقوله - عز وجل - : { يٰقَومِ لَكُمُ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي ٱلأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ ٱللَّهِ إِن جَآءَنَا } . يخرج على وجهين : أحدهما : يحتمل أن يقول ذلك بعد ما سألوه أن يتبع دينهم وما هم فيه : إني لو اتبعتكم وأجبتكم ومعكم الملك والحشم والغلبة وليس معي ذلك ، فإذا جاء بأس الله وعذابه فصرتم أنتم ممتنعين عنه بما معكم ، فمن ينصرنا من عذاب الله وليس معنا ذلك ؟ ! وإن كان يعلم حقيقة أن ما معهم من الغلبة لا يمنع من عذاب الله ، لكن قال ذلك بناء على اعتقادهم ؛ إظهاراً للعذر عندهم ؛ كي لا يقدموا على قتله لصيانة حياته ، ومثل هذا لا بأس به ، والله أعلم . والثاني : يقول على الرفق بهم وإظهار الموافقة لهم في الظاهر ؛ يقول : إنه قد جاءنا من الله البينات ما أوضح الحق وبين السبيل ، فإذا رددنا ذلك وكذبناهم جاءنا بأس الله جملة وعذابه ، فمن يمنعنا عنه وينصرنا من عذابه إذا خالفنا أمره وتركنا اتباع دينه ؟ ! على هذين القولين يخرج القول منه ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { قَالَ فِرْعَوْنُ مَآ أُرِيكُمْ إِلاَّ مَآ أَرَىٰ } . قال بعضهم : أي : ما آمركم إلا بما رأيته لنفسي . وقال بعضهم : ما أختار لكم إلا ما أختار لنفسي ذلك ، لكن [ ليس ] للعين أن يختار لهم ما اختار لنفسه ؛ لأن ما اختار لنفسه باطل فاسد ، وكذب اللعين أيضاً حيث قال : ما أختار لكم إلا ما أختار لنفسي ؛ لأنه اختار لهم أن يعبدوه ولم يختر لنفسه عبادة أولئك أن يعبدهم ، فهو كذب من القول . وقوله - عز وجل - : { وَمَآ أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ ٱلرَّشَادِ } . كذب أيضاً في قوله : إنه لا يهديهم إلا سبيل الرشاد ، بل كان يهديهم سبيل الغي . وقوله - عز وجل - : { يٰقَوْمِ إِنِّيۤ أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِّثْلَ يَوْمِ ٱلأَحْزَابِ * مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَٱلَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ } . كأن فيه إضمار القول : إني أخاف عليكم يوما مثل يوم الأحزاب ، ويوما مثل يوم قوم نوح وعاد ، فهو - والله أعلم - صلة قوله فيما تقدم : { يٰقَومِ لَكُمُ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي ٱلأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ ٱللَّهِ إِن جَآءَنَا } وعظهم مرة واحتج عليهم بما جاءهم موسى بالبينات ؛ حيث قال : { أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ ٱللَّهُ وَقَدْ جَآءَكُمْ بِٱلْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ } ، وتتركون اتباعه وتتبعون رجلا لم يأتكم بالبينات ، هذا منه احتجاج عليهم : أن كيف تقتلون رجلا وتتركون اتباعه بعد ما جاءكم بالبينات من ربكم ، وتتبعون من لا بينة معه ولا برهان ؟ ! يسفههم في صنيعهم الذي أرادوا أن يصنعوا به ، والله أعلم ، ووعظهم أيضاً وعظاً لطيفاً فيه رفق حيث قال : { يٰقَومِ لَكُمُ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي ٱلأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ ٱللَّهِ إِن جَآءَنَا } يقول - والله أعلم - : إنكم إن قتلتم ذلك الرجل بعدما جاءكم بالبينات وتركتم اتباعه ، فجاءكم عذاب الله وبأسه ، فمن ينصركم عن ذلك العذاب ويمنعكم عنه إذا قتلتم نبيه بغير حق ؟ ! ثم وعظهم وعظاً بما نزل بمكذبي من كان قبلهم من الرسل حيث قال : { مِّثْلَ يَوْمِ ٱلأَحْزَابِ * مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ } يقول : إني أخاف عليكم أن ينزل بكم ويقع عليكم من عذاب الله بتكذيبكم الرسول موسى - عليه السلام - وترككم اتباعه بعدما جاءكم بالبينات أنه رسول وأنه صادق فيما يقول ويدعي ، كما نزل ووقع من العذاب بالأحزاب الذين كانوا من قبلكم ممن ذكر بتكذيبهم الرسل واستقبالهم إياهم بما استقبلوا بعد ظهور صدقهم عندهم بما تستقبلون أنتم رسولكم موسى ، بعدما ظهر صدقه عندكم بالبينات التي جاءكم ، والله أعلم . ثم ما ذكر من الأحزاب فيحتمل أن يكون تفسيره ما ذكر على أثره من قوم نوح وعاد وثمود ، ويحتمل سواهم من الأمم ، والله أعلم . ثم قوله : { مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ } قال بعضهم : أي : مثل صنيع قوم نوح ومن ذكر وفعلهم . وقال بعضهم : أي : مثل عذاب قوم نوح ومن ذكر ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَمَا ٱللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعِبَادِ } . في هذه الآية للمعتزلة نوعُ تعلقٍ ؛ يقولون : إن الله تعالى قد أراد من العباد ما يفعلون من أفعال الظلم والجور ، وقد أخبر الله تعالى أنه لا يريد ظلماً للعباد . ولكن الآية في التحقيق عليهم ؛ لأنه قال في آية أخرى : { يُرِيدُ ٱللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّاً فِي ٱلآخِرَةِ } [ آل عمران : 176 ] أخبر أنه أراد ألا يجعل لهم حظّاً في الآخرة ، ولو لم يرد منهم ما يستوجبون به العذاب كان في تعذيبه إياهم ظالما على زعمهم ؛ دل أنه أراد منهم ما يستوجبون به العذاب وهو فعل الظلم ، والله أعلم . ثم تأويل الآية يخرج على وجهين : أحدهما : أن الإرادة هي صفة كل فاعل يفعل عن اختيار ، فكأنه قال : والله لا يظلم عباده ؛ كقوله تعالى : { وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّـٰمٍ لِّلْعَبِيدِ } [ فصلت : 46 ] . والثاني : فيه إخبار أنه لا يعاقَبُ أحد بذنب غيره ، ولا يؤاخذ بجريمة غيره ، ولا يزيد على قدر ما يستحقون به العذاب ، أو لا ينقصهم من ثواب حسناتهم شيئاً ؛ كقوله تعالى : { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } [ النساء : 40 ] وغير ذلك من الآيات ما فيها إخبار أنه لا يجزيهم بأكثر مما يستوجبون ليس على ظن أولئك ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَيٰقَوْمِ إِنِّيۤ أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ ٱلتَّنَادِ * يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ … } الآية . وعظهم أيضاً بعذاب الآخرة وما يكون منهم من الندامة بتركهم اتباع الرسول ، بعدما وعظهم بعذاب الدنيا وما نزل بأوائلهم بصنيعهم مثل صنيعهم ، وهو ما قال : { إِنِّيۤ أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ ٱلتَّنَادِ * يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ … } الآية . ثم قوله : { يَوْمَ ٱلتَّنَادِ } فيه لغات ثلاث : إحداها : { يوم التنادي } بالياء . والثانية : بالتخفيف على حذف الياء . والثالثة : بالتشديد . فمن قرأها بالتشديد ، يقول : هو من ند يند ندّاً إذا مضى لوجهه هارباً فارّاً من عذاب الله ، إذا عاينوا العذاب ، وهو من ند الإبل وغيره - والله أعلم - . ومن قرأه بالياء فهو التفاعل من النداء ، فهو على نداء بعضهم بعضاً يوم القيامة ؛ كقوله - تعالى - : { وَنَادَىۤ أَصْحَابُ ٱلْجَنَّةِ أَصْحَابَ ٱلنَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً } [ الأعراف : 44 ] ، وقوله - عز وجل - : { وَنَادَىٰ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ أَصْحَابَ ٱلْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ ٱلْمَآءِ } [ الأعراف : 50 ] ، وقوله : { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ ٱلَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ } [ القصص : 62 ] ، وقوله : { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَآ أَجَبْتُمُ ٱلْمُرْسَلِينَ } [ القصص : 65 ] ونحوه . ومن قرأه بغير الياء ، فقد حذف الياء ؛ كقوله : { فَٱقْضِ مَآ أَنتَ قَاضٍ } [ طه : 72 ] ، وأصله : التنادي ، والله أعلم . ثم قوله تعالى : { يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ } قال بعضهم : يوم تولون هاربين من النار مدبرين عنها ؛ كقوله تعالى : { يَوْمَ يَفِرُّ ٱلْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ } [ عبس : 34 ] . وقوله - عز وجل - : { مَا لَكُمْ مِّنَ ٱللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ } . أي : ما لكم من عذاب الله إذا نزل بكم من مانع يمنعكم من عذابه . وقوله - عز وجل - : { وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } قد ذكرناه . وقوله - عز وجل - : { وَلَقَدْ جَآءَكُـمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بِٱلْبَيِّنَاتِ } . أي : جاءكم يوسف من قبل موسى - عليه السلام - بالبينات ، أي : بالآيات والأدلة على رسالته وصدقه ، جائز أن يكون هذا قول ذلك الرجل لقومه يخبرهم عن سفه أوائلهم من تكذيبهم يوسف بأرض مصر قبل موسى ، وما كان من القول منهم بعدما ذهب من بينهم وردهم آياته وحججه التي أتاهم بها ، وما أخبر أنهم وأوائلهم لم يزالوا في شك وريب مما جاءتهم الرسل من الآيات والأدلة ، وهو ما قال - عز وجل - : { فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَآءَكُـمْ بِهِ } يقول : لم تزل عادتكم وعادة أوائلكم هذا . وقوله - عز وجل - : { حَتَّىٰ إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ ٱللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولاً } . جائز أن يكون وإن خاطبهم بقوله : { جَآءَكُمْ مُّوسَىٰ بِٱلْبَيِّنَاتِ } [ البقرة : 92 ] ، وقوله : { فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَآءَكُـمْ } ، وقوله : { قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ ٱللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولاً } إنما أراد آباءهم وأوائلهم ؛ لأن يوسف - عليه السلام - لم يكن في زمن هؤلاء مبعوثاً إليهم على ما عاتب الأبناء بصنع آبائهم في غير آي من القرآن ؛ كقوله : { فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَآءَ ٱللَّهِ مِن قَبْلُ } [ البقرة : 91 ] ، وقوله : { ثُمَّ ٱتَّخَذْتُمُ ٱلْعِجْلَ مِن بَعْدِهِ } [ البقرة : 92 ] ، وهؤلاء لم يقتلوا الأنبياء ولا اتخذوا العجل ، وإنما فعل ذلك آباؤهم وأوائلهم ، ثم جاء العتاب لهم بسوء صنيع آبائهم وأوائلهم ؛ فعلى ذلك هذا . وجائز أن يكون وإن خاطبهم بما ذكر من سوء الصنيع والتكذيب ، إنما يخبر عن صنيع آبائهم وأوائلهم فيحذرهم عن مثل صنيع أولئك من التكذيب لهم والرد لأدلتهم ، والقول بعد ذهابه من بينهم ، والكذب على الله : إنه لم يبعث رسولا ؛ يقول : إياكم أن تكذبوه وتردوا آياته وحججه ، ثم تقولوا إذا مات موسى : لن يبعث الله من بعده رسولا ، كما قال أوائلكم : إذا مات يوسف : لم يكن من بعده رسول بقولهم : { حَتَّىٰ إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ ٱللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولاً } يشبه أن يخرج الآية على هذا ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { كَذَلِكَ يُضِلُّ ٱللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ } . فقد ذكرنا تأويله من وجهين فيما تقدم . ثم قوله : { حَتَّىٰ إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ ٱللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولاً } يخرج من وجهين : أحدهما : آمنوا به ، وأنكروا رسالة غيره بعده بقولهم : لن يبعث الله من بعده رسولا . والثاني : أي : أنكروا رسالته في حال حياته ولم يؤمنوا به ، فإذا هلك أنكروا أن يكون هو مبعوثاً إليهم رسولا ، فيحذر هؤلاء صنيع أولئك ألا يكونوا كأولئك آمنوا به وأنكروا رسالة غيره من الرسل بعده . أو يقول : لا تكونوا كأولئك يكذبونه ما دام حيّاً ، فإذا هلك يكذبون رسالته ، يحذرهم سفه أوائلهم ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { ٱلَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِيۤ آيَاتِ ٱللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ } . أي : يجادلون في دفع آيات الله وردها بغير حجة وسلطان أتاهم من الله ، أو بغير حجة مكن لهم الاحتجاج بها ، وإلا كان أهل الإيمان قد يجادلون فيها حتى إذا ظنوا أنها آيات الله آمنوا بها وأقروا بها ، لكن الوجه فيه ما ذكرنا ، أي : جادلوا في دفع آيات الله وردها بغير حجة أتتهم ؛ كقوله : { وَجَادَلُوا بِٱلْبَاطِلِ لِيُدْحِضُواْ بِهِ ٱلْحَقَّ } [ غافر : 5 ] ، والله أعلم . وقوله : { كَبُرَ مَقْتاً عِندَ ٱللَّهِ وَعِندَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } . هكذا الواجب على أهل الإيمان أن يمقتوا من الأعمال ما مقتها الله تعالى ، أو يمقتوا من مقته الله من أعدائه ؛ وعلى ذلك ذكر : إن خير أعمالكم حُبُّ ما أحبه الله وبُغْضُ ما أبغضه الله أو كلام نحوه ، وشر أعمالكم حب ما أبغضه وبغض ما أحبه الله تعالى . وقوله - عز وجل - : { كَذَلِكَ يَطْبَعُ ٱللَّهُ عَلَىٰ كُـلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ } . أي : هكذا يطبع الله على كل قلب من جادل في دفع آيات الله وردها بغير حجة ، أي : يطبع على كل من تعود التكبر والتجبر على الآيات والرسل ، والله أعلم . ثم قوله : { كَذَلِكَ يَطْبَعُ ٱللَّهُ عَلَىٰ … } من هو كذا ، وكذلك يضلل ، ونحوه كله حروف الاعتلال ، بين الله تعالى العلل التي لها لا يهديهم ويضلهم ؛ وكذلك في قوله : { لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ } ومسرف مرتاب ونحوه ، أي : لا يهدي من كان طبعه وعادته الإسراف والكذب وكفران النعم ودفع الآيات والحجج بلا حجة وبرهان ، فأمّا من كان طبعه وعادته غير هذا لكنْ لجِهْلٍ جَهِلَ ذلك ، أو لما يتحقق عنده لظنه وقلة التأمل ، أو لاشتغاله بأمور الدنيا ، أو لمعنى من المعاني يجوز أن يهديه الله تعالى ويرشده ، على هذا يخرج هذه الآيات ، والله أعلم . وعلى ذلك ما كان [ يصنعه ] فرعون اللعين من التمويهات والتلبيسات على أتباعه في أمر موسى - عليه السلام - بعد معرفته أن ذلك ليس بقدح في الآيات والحجج التي أتاهم موسى - عليه السلام - أراد أن يموه ويلبس على قومه ، فكل من كانت عادته وطبيعته ما ذكرنا من التمويه والتلبيس والمجادلة في دفع الآيات بلا حجة والتكبر عليها - فلا يهديه الله تعالى ويطبع على قلبه ، والله أعلم .