Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 42, Ayat: 6-12)

Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله : { وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ } . يحتمل قوله : { أَوْلِيَآءَ } : الأصنام التي عبدوها دون الله ؛ كقوله تعالى : { لاَّ يَتَّخِذِ ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ ٱلْمُؤْمِنِينَ } [ آل عمران : 28 ] وقوله - تعالى - { لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ } [ الممتحنة : 1 ] ، وقوله - تعالى - : { إِنَّهُمُ ٱتَّخَذُوا ٱلشَّيَاطِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ ٱللَّهِ } [ الأعراف : 30 ] . وقوله - عز وجل - : { ٱللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ } . يخبر أنه لا عن غفلة وجهل منه يعملون ما يعملون ، ولكنه حفيظ عليهم وعلى أعمالهم ، لكنّه يؤخر ذلك عنهم لحكمة ، والله أعلم . وقوله : { وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ } . يحتمل وجهين : أحدهما : وما كنت عليهم بوكيل ، أي : لا تؤاخذ أنت بمكانهم ؛ كقوله : { فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمِّلْتُمْ } [ النور : 54 ] . والثاني : { وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ } ، أي : بمسلط عليهم ولا حفيظ ، إنما أنت رسول فعليك البلاغ ، كقوله تعالى : { إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ ٱلْبَلاَغُ } [ الشورى : 48 ] ، وقوله : { وَمَا عَلَى ٱلرَّسُولِ إِلاَّ ٱلْبَلاَغُ } [ النور : 54 ] ، والله أعلم . وقوله : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً } ؛ ليكون أقرب إلى الفهم ، وأولى أن يكون حجة عليهم وأبلغ في الحجاج ؛ لأنه ذكر فيه الأنباء السالفة والأخبار المتقدمة باللسان العربي ، غير لسان تلك الأنبياء ، ومن غير أن يختلف إلى أحد من أهل ذلك اللسان ؛ لتوهم التعلم منهم بلسانهم ، والنقل بلسان نفسه ؛ فدل أنه إنما عرف بالله تعالى ، وقوله : { لِّتُنذِرَ أُمَّ ٱلْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا } . أي : لينذر أهل أم القرى وأهل من حولها من القرى . ثم يحتمل تسمية مكة : أم القرى وجوهاً ثلاثة : أحدها : سماها : أم القرى ؛ لما منها دحيت سائر الأرضين والقرى . والثاني : سماها : أم القرى ؛ لأنها أول بيت وضع للناس ، وأول بناء بني في الأرض ، فسماها لذلك : أمّ القرى ، والله أعلم . والثالث : سماها : أم القرى ؛ لما على الناس أن يؤموها ويقصدوها بالزيارة ، ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أول ما بعث رسولا فيها ، فإليها يؤم ويقصد بالدعوة أول ما يؤم ويقصد ، ثم من بعد ذلك يؤم إلى سائر القرى والبلدان ، ويقصد ، والأمّ : القصد ، ومنه أخذ التيمم ؛ ولذلك سمّاها : أمّ القرى ، والله أعلم . وقوله : { وَتُنذِرَ يَوْمَ ٱلْجَمْعِ } ، أي : وينذر بيوم الجمع . ويحتمل أن يكون قوله : { وَتُنذِرَ يَوْمَ ٱلْجَمْعِ } ، أي : ينذر بالقرآن يوم الجمع لا ريب فيه . وقوله : { فَرِيقٌ فِي ٱلْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي ٱلسَّعِيرِ } قد بين الله - تعالى - السبيلين جميعاً على الإبلاغ ، وبين عاقبة كل سبيل إلى ماذا يفضي من سلكها ، والله أعلم . وقوله : { وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً } يخبر أن عنده من اللطائف والقدرة ، ما لو شاء لجعلهم جميعاً أمة واحدة وعلى دين واحد ، وهو ما قال : { وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ ٱلنَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِٱلرَّحْمَـٰنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ … } الآية [ الزخرف : 33 ] ، فلو جعل ذلك لأهل التوحيد والإيمان ، لكانوا جميعاً على دين الإسلام ؛ على ما أخبر أنّه لو كان ذلك مع أهل الكفر لكانوا جميعاً أهل كفر . ثم قوله : { وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً } لا يحتمل مشيئة الجبر والقسر على ما يقوله المعتزلة لوجوه : أحدها : لما لا يكون الإيمان في حال الجبر والقهر ؛ لأنه لا صنع لهم في ذلك ، ولا اختيار لهم . والثاني : أنّ كل أحد بشهادة الخلقة مؤمن موحد لله - تعالى - ثم لم يصيروا بذلك مؤمنين ؛ فعلى ذلك بالجبر والقهر ؛ إذ في الحالين يكون فعل المؤمن إنما هو فعل غيره ؛ فدل أنه أراد أن يشاء منهم ما يكون مختارين في الإيمان لا مجبورين . والثالث : أنّ الإيمان بالجبر والقهر ممّا لا يعرفه الناس ، ولا يطلق اسم الإيمان عليه في العرف ، وقد وعدهم الإيمان ، وجعل الدين واحدا ، وهذا عند المتعارف ينصرف إلى ما يوجد منهم عن طوع واختيار ، لا بالجبر والقهر ؛ فتكون الآية منصرفة إلى المعهود عند النّاس ؛ على ما هو الأصل في الكلام ، والله الموفق . وعندنا : أراد به مشيئة الاختيار ، وأخبر أن عنده من اللطائف ما لو أعطى الكل لآمنوا جميعاً عن اختيار ، لكنه لم يعطهم ذلك ولم يشأ ؛ لما علم منهم أنهم لا يرغبون فيه ، ولا يختارون ذلك ، ولكن إنّما يختارون ضد ذلك ونقيضه ؛ لذلك لم يشأ لهم ، وإنما يشاء لمن علم أنه يختار ذلك فضلا . وقوله : { وَلَـٰكِن يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِي رَحْمَتِهِ } يخبر أن من أعطي ذلك إنما يعطيه رحمة منه وفضلا ، لا أنهم يستوجبون ذلك منه ، ويستحقونه عليه ، والله الموفق . ثم إن الله تعالى سمى الإيمان مرة : رحمة بقوله : { وَلَـٰكِن يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِي رَحْمَتِهِ } [ الشورى : 8 ] ، ومرة سماه : منّة بقوله : { وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَمُنُّ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ } [ إبراهيم : 11 ] ، وبقوله : { بَلِ ٱللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ … } الآية [ الحجرات : 17 ] ، فلو كان الإيمان يقوم بالذي يكون الكفر من القدرة ولم يكن من الله - تعالى - إلى المؤمنين إلا وقد كان مثله إلى الكافر ، على ما يقوله [ المعتزلة ] : إن الإيمان إنما يكون بالذي يكون الكفر ، لم يكن لتسمية هذا نعمة ومنَّة ورحمة ، وتسمية الكفر ضده - معنى ، والله أعلم . وبعد : فإنه لو كان على ما يقوله المعتزلة لكان ما ذكر من النعمة والمنّة والرحمة إنما يكون بالخلق منهم ، لا بالله - تعالى - ومنه دل أن عنده لطائف ، من أعطي تلك اللطائف آمن واهتدى ، ومن لم يعطه إيّاها لم يؤمن ، وقد أعطي المؤمن تلك ، ولم يعط الكافر ؛ لذلك كان ما ذكرنا ، والله الموفق . ثم في تخصيص أمّ القرى ومن حولها بالنذارة وجوه ، لأنه ذكر في آية أخرى أنه نذير للعالمين جميعاً بقوله : { لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً } [ الفرقان : 1 ] فإذا كان مبعوثاً إلى جميع العالم ، لا إلى بعض دون بعض ، كما كان بعض الأنبياء - عليهم السلام - فلا بد أن يكون لتخصيص أمّ القرى ومن حولها معنى وحكمة : أحدها : لما يحتمل أن يكون لأهل مكة طمع في شفاعته وإن لم يتبعوه : إما بحق القرابة والاتصال ، وإما بحق الأيادي ، ومن حولهم بحق الجوار ؛ فذكر تخصيصهم بالإنذار بيوم الجمع حتى يزول طمعهم بدون الاتباع ، والنزوع عن الشرك ؛ إذ ذلك لا يزول بمطلق الإنذار ؛ لما عندهم - في زعمهم - أن المراد بذلك غيرهم ؛ لما لهم من زيادة سبب الوسيلة معه . والثاني : أن ينذر هؤلاء ومن ذكر شفاهاً ، ولمن بعد منهم خبراً . أو خصّ هؤلاء بحق البداية ثم بالأقرب فالأقرب ، وعلى ذلك يخرج قوله - تعالى - : { وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ ٱلأَقْرَبِينَ } [ الشعراء : 214 ] على الوجوه التي ذكرنا . وقوله - سبحانه وتعالى - : { وَٱلظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِّن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ } ، أي : ما لهم من وليّ يشفع ، ولا من نصير ينصرهم ، ويمنعهم من عذاب [ الله ] . وقوله : { أَمِ ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ } ، أي : أرباباً ، { فَٱللَّهُ هُوَ ٱلْوَلِيُّ } ، أي : هو الربّ ، { وَهُوَ يُحْيِـي ٱلْمَوْتَىٰ } وقد عرفوا أنّ الإحياء إنما يكون بالله - تعالى - لا بالأصنام التي عبدوها ، وإن كانوا ينكرون البعث والإحياء بعد الموت ، فلو عرفوا أنه لو كان إنما يكون بالله - تعالى - لا بالأصنام التي عبدوا دونه ، { وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } ظاهر ، قد تقدم ذكره . وقوله : { وَمَا ٱخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى ٱللَّهِ } يحتمل قوله : { وَمَا ٱخْتَلَفْتُمْ فِيهِ } وجوها : أحدها : في القرآن . والثاني : في رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رسول أو ليس برسول ، فقد أقام من الدلائل والبراهين ما يدل على رسالته ونبوته : سمعيات وعقليات ، ما لا يتعرض لردّها إلا من كابر عقله وعاند لبّه ، وكذلك لو كان اختلافهم في الدين فقد أقام ما يعلم كل ذي عقل ولب : أنه هو الصواب ، وأن غيره من الأديان ليس بحق . وقال بعض أهل التأويل في قوله : { وَمَا ٱخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى ٱللَّهِ } أي : إلى كتاب الله ، كقوله : { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ } [ النساء : 59 ] أي : إلى كتاب الله . لكن هذا لا يصح ، فإن قوله : { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ } [ النساء : 59 ] إنما هو في المؤمنين إذا وقع بينهم الاختلاف في شيء من الأحكام يردّ ذلك إلى كتاب الله ، وإلى سنّة رسوله صلى الله عليه وسلم . وأمّا قوله - تعالى - : { وَمَا ٱخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى ٱللَّهِ } إنما هو في محاجة الكفرة ، فهو في غير ذلك المعنى ؛ إذ هم لا يعتقدون كونه حجة ، وإنما يرجع إلى دليل آخر عقلي . وقوله : { ذَلِكُمُ ٱللَّهُ رَبِّي } ، أي : ذلك الذي يفعل هذا هو ربي { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ } ، في كل أمري ، { وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } بالطاعة . ويحتمل أن يكون اختلافهم الذي ذكر هو اختلافهم في الله - تعالى - كقوله : { وَٱلَّذِينَ يُحَآجُّونَ فِي ٱللَّهِ } [ الشورى : 16 ] . وقوله : { ذَلِكُمُ ٱللَّهُ رَبِّي } ، أي : ذلكم الذي اختلفتم فيه هو ربي { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ } ، أي : عليه اعتمدت ، { وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } ، أي : إليه أرجع . ثم نعته فقال : { فَاطِرُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } ، وقال هو في موضع آخر : { ٱلْحَمْدُ للَّهِ فَاطِرِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } [ فاطر : 1 ] ، وفي موضع آخر : { خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ } [ الأنعام : 1 ] ، وقال في موضع آخر : { بَدِيعُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } [ البقرة : 117 ] . قال بعض الباطنية : المبدع : هو الذي ينشئ الأشياء لا من شيء ، والخالق : هو الذي ينشئ الشيء من شيء ولا من شيء ، والفاطر : هو الذي ينشئ من شيء أو نحوه من الكلام . وعندنا أن هذه الأسماء وإن اختلفت ألفاظها وافترق اشتقاقها ومأخذها ، فهي في المعاني واحدة ؛ الإبداع هو الإنشاء بلا احتذاء سبق ، والخلق هو الإنشاء والتقدير ، لكن غيره لا يجوز أن يسمى : خالقاً ؛ لأنه لا يقدر على تقدير شيء إلا على مشاهدة : عاينه ورآه ، والفاطر كأنه مأخوذ من الشق ، يشق الشيء ويخرج منه أشياء ، كله خلق ، وفاعله خالق على الحقيقة ، وهو الله تعالى ، وبالله القوة والتوفيق . وقوله : { جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً } أي : جعل من نفس آدم وحواء - عليهما السلام - أزواجاً نسبنا جميعاً إليهما ؛ لأنهما الأصل ، وإنا جميعاً إنما كنا من ذلك الأصل ، وهو كنسبته إيانا إلى التراب بقوله : { خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ } [ الروم : 20 ] وإنما خلق أصلنا من التراب ، لكنه نسبنا إليه ؛ لما منه كنا جميعاً ؛ فعلى ذلك جائز أن يكون قوله : { جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً } أي : من نفس آدم وحوّاء ، ونسبنا إليهما ؛ لما منهما كنّا جميعاً ، والله أعلم . والثاني : يقول : جعل بعضكم من بعض أزواجاً أي : حلائل ، أي : خلق الإناث من الرجال ، والرجال من الإناث ، وهو ما ذكر في آية أخرى : { خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوۤاْ إِلَيْهَا … } الآية [ الروم : 21 ] . والثالث : أي : جعل لكم من مثل خلقكم أزواجا ؛ أي : أصنافاً وأشكالا ، جعل الخلائق كلها ذات أشكال وأمثال ، وذات أزواج ، وكذلك يخرج قوله : { وَمِنَ ٱلأَنْعَامِ أَزْواجاً } على وجهين : أحدهما : يقول - والله أعلم - : إنه جعل الأنعام - أيضاً - ذات أزواج وأشكال . والثاني : جعل منها الذكور والإناث - أيضاً - كما جعل من البشر . وقوله : { يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ } اختلف في تأويل قوله : { يَذْرَؤُكُمْ } ، والمراد بقوله : { فِيهِ } : أن الهاء كناية عن ماذا ؟ قال بعضهم : { يَذْرَؤُكُمْ } أي : يكثركم . وقيل : يعيشكم فيه . وقيل : يرزقكم فيه ، ويعمركم . وقيل : يخلقكم . وأما قوله : { فِيهِ } قال بعضهم : يجيء قوله : { فِيهِ } ، أي : فيها ، كناية عن الأنعام ، وكذلك ذكر في حرف ابن مسعود - رضي الله عنه - : { يذرؤكم فيها } أي : في الأنعام ؛ لما جعل للبشر فيها من أنواع المنافع . وأما من قرأه { يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ } بغير ألف فهو يجعله كناية عن العالم ؛ كأنه يقول : { يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ } أي : يخلقكم في العالم ويكثركم فيه ويعيشكم ويعمركم . وقال بعضهم : { يَذْرَؤُكُمْ } أي : يكثركم في هذا التزويج الذي جعل بينكم ؛ أي : يكثركم بسبب هذا التزويج لم يكثر الناس . وجائز أن يكون قوله : { فِيهِ } كناية عن التدبير ؛ يقول : { يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ } : يخلقكم فيه نسلا بعد نسل ؛ كقوله - تعالى - { ذَرَأَكُمْ فِي ٱلأَرْضِ } [ المؤمنون : 79 ] ، وهو قول القتبي وأبي عوسجة . وقوله - عز وجل - : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ … } الآية . يستدل بعض أهل التشبيه بأن له مثلا بقوله - تعالى - { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } يقولون : لو لم يكن مثل لم يذكر كاف التشبيه ؛ حيث قال : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } ، لكن نفى مثلية الأشياء عن مثله ؛ فيكون فيه إثبات مثل له لا يشبه سائر الأشياء سواه ؛ أو كلام نحو هذا . وعندنا : قوله - تعالى - { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } أي : ليس مثله شيء ، والكاف قد تزاد في الكلام . وقال بعضهم : أي : ليس كهو شيء ، والعرب قد تقيم المثل مقام النفس . وأصله : أن الخلق ذو أعداد ، وكل ذي عدد له أشكال وأمثال من حيث العدد . والأصل في ذلك : أن الخلق وإن كانوا ذا أمثال وأشكال وأشباه ، فليس يشبه بعضهم بعضاً من جميع الوجوه وكل الجهات ، ولكن إنما يشبه بعضهم بعضا [ لا ] من جميع الوجوه ، أو بوجه أو بصفة ، أو بجهة أو بنفس ، ثم صار بعضهم أمثالا لبعض وأشباهاً بتلك الجهة وبذلك الوصف ؛ فدل أن الله - تعالى - ليس يشبه الخلق ، ولا له مثال منهم بوجه من الوجوه ، ولا له شبه منهم ، لا ما يرجع إلى النفس ، وهو يتعالى عن جميع معاني الخلق وصفاتهم ، ودل قوله - تعالى - : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } : أنه شيء ؛ لأنه نفى عن نفسه المثلية ولم ينف الشيئية ، لكن يقال : شيء لا كالأشياء ينفى عنه شبه الأشياء ، والشيء إثبات ، وفي الإثبات توحيد ، ولو لم يكن شيئاً لكان يقول : ليس هو شيئاً ؛ دل أنه ما ذكر . وقوله - سبحانه - : { وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْبَصِيرُ } ذكر في غير موضع ، والله الموفق . وقوله - عز وجل - : { لَهُ مَقَالِيدُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } ، وقال في آية أخرى : { وَعِندَهُ مَفَاتِحُ ٱلْغَيْبِ } [ الأنعام : 59 ] وقوله : { وَلِلَّهِ خَزَآئِنُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } [ المنافقون : 7 ] ، وقوله : { بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ } [ يس : 83 ] ، ونحو ذلك من الآيات التي فيها ذكر المفاتيح والمقاليد والخزائن التي أضافها إلى نفسه ، ثم لم يفهم الخلق من المفاتيح المضافة والمقاليد والخزائن ما يفهم لو أضيف إلى الخلق ؛ بل فهموا من المفاتيح المضافة إلى الخلق والمقاليد المنسوبة إليهم معنى لم يفهموا ذلك المعنى من المفاتيح والمقاليد المضافة إلى الله - تعالى - فما ينبغي أن يفهموه من قوله : { بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ } [ يس : 83 ] ، وقوله - تعالى - { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ } [ المائدة : 64 ] ، وقوله : { لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ } [ ص : 75 ] ، ونحو ذلك ما يفهموه من اليد المضافة إلى الخلق ، لكنه ذكر المفاتيح والمقاليد وأضافها إلى نفسه ، لأن كل محجوب ومستور عن الخلق فيما بينهم إنما توصلهم إلى ذلك المحجوب والمستور عنهم بالمفاتيح والمقاليد التي ذكر ؛ فعلى ذلك ما أضاف إلى نفسه من اليد وغيرها ؛ لما باليد يبسط في الشاهد ، وبها يمنع ، وبها يكتسب ويفعل ما يفعل ؛ فأضاف إلى نفسه ما به يكون في الشاهد من الفعل والبسط والمنع كناية عن هذه الأفعال ، والله الموفق . وقوله : { يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ } فيه دلالة نقض قول المعتزلة ؛ لأن الرزق المذكور يحتمل وجوهاً : أحدها : ما ذكر في قوله - تعالى - : { وَفِي ٱلسَّمَآءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ } [ الذاريات : 22 ] ، وهو المطر . والثاني : الأملاك التي يكتسبون . والثالث : المنافع التي جعل لهم . ثم الإشكال أن الأملاك التي تكون لهم ، والمنافع التي ينتفعون بها وجعلت لهم إنما تكون بأسباب واكتساب منهم ، ثم أضاف ذلك إلى نفسه في البسط والتقتير ؛ حيث قال { يَبْسُطُ ٱلرِّزْقَ لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ } ؛ دل أن لله - تعالى - في ذلك صنعاً وتدبيراً ، وهو أَنْ خلق أكسابهم وأسبابهم التي بها يوصل إليهم الرزق . وقوله : { إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } تقدم .