Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 43, Ayat: 57-65)

Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله - عز وجل - : { وَلَمَّا ضُرِبَ ٱبْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ } اختلف فيما ذكر من ضرب المثل لعيسى بن مريم عليهما الصلاة والسلام : قال بعضهم : لما نزل قوله - تعالى - : { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ } [ الأنبياء : 98 ] فقال أولئك الكفرة الذين كانوا يعبدون الأصنام : إن عيسى عبد دونه ، وعزير والملائكة يعبدون دونه ، فهؤلاء جميعاً في النار إذن ؛ لأنهم عبدوا دونه ، فإن كان هؤلاء في النار فقد رضينا أن نكون معهم وهم معنا ، وهو ما ذكروا على إثره : { ءَأَ ٰلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ } يعنون بقولهم : { هُوَ } : عيسى - عليه السلام - فذلك منهم يخرج على وجهين : أحدهما : لئن جاز أن يعذب عيسى - عليه السلام - ومن عبد من هؤلاء دون الله في النار رضينا أن تعذب آلهتنا في النار ؛ إذ هم ليسوا بخير من عيسى - عليه السلام - وهؤلاء الذي عبدوا دون الله من الملائكة وغيرهم . والثاني : يقولون : إن كان عيسى يعذب في النار لما عبد دونه فآلهتنا التي نعبدها دونه خير منه فلا تعذب ؛ لأنها خير . فأحد التأويلين يرجع إلى أنهم يقولون : لو جاز وصلح أن يعذب كل معبود دونه جاز أن تعذب الأصنام التي نعبدها نحن . والثاني : يقولون : إن كان يعذب عيسى وغيره الذين عبدوا دونه فالأصنام التي نعبدها نحن لا تعذب ؛ لأنها خير من أولئك ، والله أعلم . فنقول : إنما يكون لهم هذا الاحتجاج بالآية ؛ أن لو كانت الأصنام إنما تحرق في النار تعذيباً لها ، أعني : الأصنام ؛ فأما إذا كانت الأصنام إنما تحرق بالنار تعذيباً لمن عبدها ، وعقوبة لمن اتخذها أرباباً دون الله فلا ، وإنما تحرق الأصنام التي اتخذوها من الحجارة والحديد والصُّفْر ؛ لزيادة تعذيب العبدة ؛ كقوله - تعالى - : { وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلْحِجَارَةُ } [ البقرة : 24 ] مع أنه لا جناية من الأصنام ، ولا ضرر لها بالإحراق ؛ فكيف يحرق عيسى ومن عبد دونه من الملائكة ، وفي إحراقهم تعذيبهم ؛ إذ هم يتضررون بها ، ولا جناية منهم ، فإذا كان إدخال الأصنام التي عبدوها وإحراقها في النار لتعذيب أولئك الذين عبدوها فلا معنى لتلك الخصومة والمجادلة التي كانت منهم ، والله أعلم . وبعد : فإن في الآية بياناً على أن الذي ذكر من جعل المعبود حصباً للنار راجع إلى عبادة الأصنام والأوثان خاصة دون غيرهم ؛ لأنه خاطب أهل مكة بقوله : { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ … } الآية [ الأنبياء : 98 ] ، وأهل مكة كانوا لا يعبدون إلا الأصنام والأوثان ، لا عيسى ولا غيره من البشر والملائكة ، فذلك لهم ولكل عابد الأصنام دون غيرهم من المعبودين ؛ استدلالا بهم ، والله أعلم . على أن في الآية بياناً - أيضاً - أنه لم يرجع إلى ما ذكروا من عيسى وغيره ، فإنه قال : { وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ } [ الأنبياء : 98 ] وكلمة " ما " تستعمل في [ غير ] العقلاء من الجمادات وغيرها ، لا في ذوات العقلاء . وعلى أن في الآية بياناً من وجه آخر - أيضاً - على أنهم غير مرادين بها ، فإنه استثنى وخصّ بقوله - تعالى - : { إِنَّ ٱلَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا ٱلْحُسْنَىٰ أُوْلَـٰئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ } [ الأنبياء : 101 ] أخبر أن من سبقت [ له ] منه الحسنى يكون مبعداً عنها ، ولا شك أن عيسى والملائكة - عليهم السلام - قد سبقت لهم منه الحسنى ، فلا يحتمل صرف تلك الآية إليهم ، والله أعلم . ويحتمل أن يكون قوله : { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ … } الآية [ الأنبياء : 98 ] ، إلى كل من منه الأمر بالعبادة لهم والدعاء إلى ذلك ، وهم الشياطين ؛ لأن من عبد دون الله أحداً إنما يعبده بأمر الشياطين ودعائهم إليه ، فأما من كان يتبرأ من الأمر لهم بذلك وعبادتهم له فلا يحتمل ، وذلك نحو قوله - تعالى - : { يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ } [ الفرقان : 17 ] ، وقال إبراهيم لأبيه : { يٰأَبَتِ لاَ تَعْبُدِ ٱلشَّيْطَانَ } [ مريم : 44 ] ، ولا أحد يقصد قصد عبادة الشيطان ، لكن من عبد شيئاً دون الله إنما يعبده بأمر الشيطان ، فإذا عبده بأمره فكأنه عبده ؛ هذا وما ذكرنا كله يبطل مجادلة الكفار فيما خاصموا ، والله أعلم . وقال بعضهم : ضرب المثل لعيسى - عليه السلام - هو أن الله - تعالى - لما ذكر عيسى - عليه السلام - في القرآن قال مشركو العرب من قريش لمحمد صلى الله عليه وسلم : ما أردت بذكر عيسى ؟ وقالوا : إنما يريد محمد أن نحبه كما أحبت النصارى عيسى وعبدته ، فقالوا : { ءَأَ ٰلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ } فلا يصنع محمد ذلك بآلهتنا ، فوالله لهم خير من عيسى ، أو ما قالوا ؛ فقال الله - عز وجل - : { مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً } أي : إلا ليجادلوك بالباطل ، وهو قول قتادة . ويحتمل أن يكون ما ذكر من ضرب المثل بابن مريم - عليهما السلام - من قومه - أعني : عيسى - لا من قوم محمد صلى الله عليه وسلم وذلك أن قومه قد اختلفوا فيه ؛ فمنهم من قال : إنه إله وإنه رب ، ومنهم من قال : إنه ابن الإله ، ومنهم من قال : إنه وأمه إلهان ، ونحو ذلك من الاختلاف الذي كان بينهم فيه ، فيكون قوله : { وَلَمَّا ضُرِبَ ٱبْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً } قال قومه على ما ذكروا فيه ، ثم قال : { إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ } أي : يعرضون عن عيسى ويضجون على ما ذكرنا ، والله أعلم . أو أن نكف ونمسك عن بيان ذكر المثل الذي ذكر في الآية ؛ لما لا حاجة إلى ذلك ، وهو شيء ذكره أولئك الكفرة ، والله أعلم . ثم قوله - تعالى - : { إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ } قرئ برفع الصاد وكسرها . قال القتبي وأبو عوسجة : { يَصِدُّونَ } بالكسر : يضجون ، والتصدية منه ، وهو التصفيق ، ومن قرأ بالرفع يقول : يعدلون ويعرضون . وقوله - عز وجل - : { وَقَالُوۤاْ ءَأَ ٰلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ } هو يخرج على الوجهين اللذين ذكرناهما ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِّبَنِيۤ إِسْرَائِيلَ } أي : عبرة وآية لبني إسرائيل ؛ لما كان هو مولوداً من غير والد ، ولما كان يحيي الموتى ، ويبرئ الأكمه والأبرص ، وما كان منه من تكليمه للناس وهو في المهد ، وغير ذلك من الآيات التي كان خص بها ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَلَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَا مِنكُمْ مَّلاَئِكَةً } على وجهين : أحدهما : أي : لو نشاء لجعلنا من جوهركم وجنسكم ملائكة ؛ ليعلم أن إنشاء الملائكة من النور على ما ذكر ليس ذلك منه استعانة بذلك النور لإنشاء الملائكة منه قادر بذاته لا يعجزه شيء ، ينشئ ما يشاء مما شاء كيف شاء . والثاني : أي : لو نشاء لجعلنا الملائكة بدلا منكم نهلككم ونبدل مكانكم ملائكة لا يعصون ، ولا يخالفون ولا يفترون عن العبادة ولا يستحسرون ، لكن لم يفعل ذلك ؛ لما ليس في عصيان من عصاه ولا مخالفة من خالفه له ضرر ، ولا بطاعة من أطاعه واتبع أمره ونهيه نفع ، ولا أنشأ هذا العالم والخلق لحاجة نفسه ، ولا امتحنهم بأنواع المحن لمنفعة نفسه ، ولا لمضرة يدفع بذلك عن نفسه ، ولكن أنشأهم وامتحنهم لحاجة أنفسهم ، فإذا كان ما ذكرنا : إنشاء ما يعلم أنه يعصيه ولا يطيعه حكمة ، وفعل من يعلم في الشاهد أنه يضره ولا ينفعه سفه ؛ لأنه إنما يفعل ما يفعل لحاجة نفسه ، فصار فعله مع علمه ما ذكرنا يكون سفهاً ، فافترق الأمران ، والله الموفق . ثم قوله - تعالى - : { مَّلاَئِكَةً فِي ٱلأَرْضِ يَخْلُفُونَ } يحتمل وجهين : أحدهما : أي : يخلف الملائكة بعضهم بعضاً ، قرناً عن قرن بالتناسل والتوالد ؛ كالبشر يخلف بعض بعضاً ، قرناً عن قرن بالتناسل والتوالد ؛ إذ ليس في الملائكة توالد [ ولا ] تناسل . والثاني : { يَخْلُفُونَ } أي : يكونون خلفاً وبدلا عنكم بعد هلاككم على ما ذكرنا ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ } وعَلَمٌ للساعة كلاهما قد قُرئا ، ثم اختلف في ذلك : فمنهم من يقول : هو عيسى ، يكون نزوله من السماء علماً للساعة وآية لها ؛ فيكون على هذا هو صلة ما تقدم من قوله : { وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِّبَنِيۤ إِسْرَائِيلَ } كأنه قال : { وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً } أي : آية وعبرة لهم على ما ذكرناه ، وجعلناه - أيضاً - علماً للساعة . وقال بعضهم : قوله : { وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ } أي : محمد صلى الله عليه وسلم وما أنزل عليه من القرآن علم للساعة ؛ لأنه به ختم النبوة والرسالة ، وقال : " أنا والساعة كهاتين " وأشار إلى إصبعين من يده ، وإنما بعثه الله - تعالى - عند قرب الساعة ، فهو علم للساعة . ثم قراءة { عَلَمٌ للساعة } بالتثقيل ، فمعناه : العلامة لها والدليل عليها ، ومن قرأ { علم للساعة } بالجزم ، فمعناه : يعلم به قرب الساعة . وقوله : { فَلاَ تَمْتَرُنَّ بِهَا } أي : لا تشكنّ بالساعة فإنها كائنة لا محالة ، وعلى ذلك يقولون في بعض التأويلات في قوله - تعالى - : { فَقَدْ جَآءَ أَشْرَاطُهَا } [ محمد : 18 ] أي : أعلامها ؛ أي : محمد ، عليه أكمل التحيات . وقوله - عز وجل - : { وَٱتَّبِعُونِ هَـٰذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ } ، فإن كان قوله : { وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ } هو محمد صلى الله عليه وسلم فكأنه قال - عليه السلام - : أنا علم للساعة وقريب منها فاتبعوني ، وإن كان عيسى - على نبينا وعليه السلام - يقول : إنه علم للساعة وآية لها ، فاتبعوني قبل أن يخرج وينزل . وقوله : { وَلاَ يَصُدَّنَّكُمُ ٱلشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } . يحتمل قوله - تعالى - : { وَلاَ يَصُدَّنَّكُمُ ٱلشَّيْطَانُ } عن الإيمان بالساعة وكونها ؛ فإنه عدو مبين . ويحتمل : لا يصدنكم عن محمد وعن الصراط المستقيم الذي ذكر ؛ فإنه عدو مبين بين عداوته إياكم ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَلَمَّا جَآءَ عِيسَىٰ بِٱلْبَيِّنَاتِ … } الآية . قال أهل التأويل : بيناته : هي ما كان يأتي به من نحو إحياء الموتى ، وإبراء الأكمه والأبرص ، والإنباء بما يأكلون وما يدخرون ، ونحو ذلك . والأصل في آيات الأنبياء والرسل أنها كانت من وجوه ثلاثة تُلزمهم التصديق بهم : أحدها : ما يأتون في كل شيء صغر أو عظم ، دلالة ذلك ما يعلم كل ذي لب وعقل على أن ذلك حكمة وعقل عليهم اتباعهم في ذلك ، وهو توحيد الله - تعالى - وتنزيهه عما لا يليق به ، والله أعلم . والثاني : كانت في أنفسهم وأحوالهم التي كانوا عليها بينات تلزمهم تصديقهم ، وهو أنهم لبثوا بين أظهرهم ، وكانوا فيهم طول عمرهم ، فلم يؤخذ عليهم كذب قط ، ولا ظهر منهم ما يرجع إلى دناءة الأخلاق ، ولا شيء من ذلك ، والله أعلم . والثالث : ما كانوا يأتون من الأفعال والمعجزة الخارجة عن توهم العباد والمعتاد من فعلهم يلزم كل صنف قبولها . فعلى هذه الوجوه التي ذكرنا كانت آيات الرسل - عليهم السلام - والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { قَدْ جِئْتُكُم بِٱلْحِكْمَةِ } . قال بعضهم : الحكمة - هاهنا - هي الإنجيل ، وقد ذكر في آية أخرى الكتاب والحكمة ؛ حيث قال : { وَإِذْ عَلَّمْتُكَ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحِكْمَةَ وَٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ } [ المائدة : 110 ] . ثم جائز أن يكون الكل واحداً . وجائز أن يكون الكتاب : ما يكتب ويتلى والحكمة : ما أودع في المتلو والمكتوب من المعنى ، والله أعلم . ويحتمل أن تكون الحكمة راجعة إلى كل ما يوجب العقل للقول به وقوله ، وقد ذكرناه فيما تقدم ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَلأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ ٱلَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ } . قال بعضهم : أي : أبين لكم كل الذي تختلفون فيه ؛ إذ لا يجوز أن يبين بعضاً ويترك البيان لبعض ، وقد يذكر البعض ويراد به الكل ؛ نحو ما يقال في كثير من المواضع : الخطاب للرسول - عليه السلام - والمراد بذلك أمته . ويحتمل أن يكون المراد من البعض هو البعض نفسه لا الكل . ثم هو يخرج على وجوه ثلاثة : أحدها : أي : أبين لكم بعض ما تختلفون فيه ، ثم يأتيكم رسول بعدي ويبين لكم باقي ذلك ، أو كلام نحوه ؛ لأنه لم يقل : أبين لكم بعض ما اختلفتم فيه ، ولكن قال : { بَعْضَ ٱلَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ } ، فهو في الظاهر على الاستقبال . والثاني : يقول : أبين لكم الأصول ما تقدرون على استخراج الفروع من تلك الأصول ، والله أعلم . والثالث : يقول : أبين لكم الذي تختلفون فيه ، وهو يرجع إلى أمر الدين دون الراجع إلى أمر المعاش ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُونِ } فيما آمركم به وأدعوكم إليه وأنهاكم عنه . ويحتمل أن يكون يقول : اتقوا مهالككم ، والزموا ما به نجاتكم ، وأطيعوني في ذلك . وقوله - عز وجل - : { إِنَّ ٱللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَٱعْبُدُوهُ } ذكر هذا ؛ ليعلموا أنه وإن عظم قدره عند الله وجلت صولته عنده فإنه [ لا ] يخرج من العُبُودة ، وأنه عبد الله ، ليس بإله ، ولا ابنٍ له ، على ما زعم أولئك الكفرة ، والله الهادي . وقوله - عز وجل - : { فَٱخْتَلَفَ ٱلأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ } . هذا يحتمل وجهين : أحدهما : أن يكون حرف " من " صلة زائدة ، ومعناه : فاختلف الأحزاب بينهم ، والاختلاف فيما بينهم في عيسى أمر ظاهر بين { فَٱخْتَلَفَ ٱلأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ } أي : اختلف الأحزاب من اختراع كان منهم فيما بينهم ، أو كلام نحوه ؛ ولذلك كان الاختلاف الواقع بينهم إنما كان باختراع من ذات أنفسهم ، لا أن كان ذلك سماعاً من الرسل - عليهم السلام - ولذلك نهى هذه الأمة عن الاختلاف والتفرق ؛ حيث قال : { وَلاَ تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَٱخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلْبَيِّنَاتُ } [ آل عمران : 105 ] وقد اختلفت هذه الأمة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قاتلهم أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - على ذلك ، واتبعه سائر الصحابة على ذلك ، حتى قاتل الرجال ، وسبى النساء والذراري ، وظهرت - أيضاً - الخوارج في زمن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - على ذلك ، حتى اجتمعوا على الوفاق ، وغير ذلك من الاختلاف والتفرق الذي كان ظهر ووقع فيما بينهم ، وكان في ذلك دلالة الرسالة لرسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه ذكر - عز وجل - في كتابه أنهم يختلفون بعد وفاته ، وأنهم ينقلبون على أعقابهم ؛ حيث قال : { أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ ٱنْقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ … } الآية [ آل عمران : 144 ] ، وقال في ارتدادهم : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي ٱللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } [ المائدة : 54 ] هذا في أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - وقال في علي - رضي الله عنه - : { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ } الآية [ المائدة : 55 ] ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يقاتل هذا بالتأويل كما نقاتل نحن على التنزيل " يعني : عليّاً - رضي الله عنه - وقد كان كل ما ذكر من الاختلاف والتفرق والتنازع في الدين من الانقلاب على الأعقاب والارتداد والامتناع عن إيتاء الزكاة ، وإتيان ما ذكر من قوم يحبهم ويحبونه ، أذلة على المؤمنين ، أعزة على الكافرين ، وغلبة حزب الله وأهل توحيده على أولئك ؛ ففي ذلك كله دلالة إثبات الرسالة ؛ إذ خرج على ما أخبر صلى الله عليه وسلم وذكر في المستقبل ، والله أعلم . ثم إن الله - عز وجل - بفضله وبرحمته رفع ذلك الاختلاف والتفرق والتنازع بينهم ، وجمعهم على ألفة وحب ، ولم يرفع من بين أولئك فقال : { فَٱخْتَلَفَ ٱلأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ } والأحزاب : الفرق الذين تحزبوا ؛ أي : تفرقوا ، وقد ذكرنا هذا فيما تقدم . وقوله - عز وجل - : { فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ } هي ظاهرة .