Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 47, Ayat: 12-15)
Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
ثم ذكر عاقبة المؤمنين من الاتباع لأمره والتصديق لرسله ، وهو قوله - تعالى - : { إِنَّ ٱللَّهَ يُدْخِلُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ } ، وبين ما لأولئك الذين اختاروا من الكفر به والتكذيب لرسله في العاقبة ، حيث قال : { وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ ٱلأَنْعَامُ وَٱلنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ } أي : مأوى لهم بما اختاروا ، والله أعلم . وذلك أن أهل الإيمان والتوحيد نظروا في جميع أحوالهم وأمورهم إلى ما فيه أمر الله - تعالى - وما يعقب لهم نفعاً في العاقبة ، لم ينظروا إلى ما فيه قضاء شهواتهم ومناهم ؛ بل اختاروا أمر الله على جميع ما ذكرنا ، وأولئك الكفرة ، لم ينظروا إلى ما فيه أمر الله ، ولا يوجب لهم في العاقبة من النفع ؛ بل اختاروا لشهواتهم ومناهم ، وما فيه هواهم على ما فيه أمر الله ونهيه ، فجعل للمؤمنين في الآخرة قضاء شهواتهم التي تركوا قضاءها في الدنيا ، وكفوا أنفسهم عن مناها مكان ذلك في الجنة والبساتين التي وعد لهم في الآخرة ، وجعل لأولئك الكفرة في الآخرة مكان ما قضوا في الدنيا من شهواتهم ، وإعطاء أنفسهم مناها النار ، وما ينقصهم ما أعطوا أنفسهم في الدنيا . ثم قوله : { وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ ٱلأَنْعَامُ } يحتمل تشبيه أولئك الكفرة بالأنعام في الأكل وجهين : أحدهما : يخبر أنهم يأكلون ، وهمتهم في الأكل ليست إلا الشبع ، وامتلاء البطن ، وقضاء الشهوة ، لا ينظرون إلى ما أمر الله به ونهاهم عنه ، كالأنعام التي ذكر همتها ليست في الأكل إلا الشبع ، وامتلاء البطن ، واقتضاء الشهوة ، والله أعلم . والثاني : يخبر عنهم أنهم لا ينظرون في أكلهم وشربهم إلى عاقبة ، ولا إلى وقت ثانٍ ؛ بل نظرهم إلى الحال التي هم فيها ، كالأنعام التي ذكر أنها تأكل ولا تنظر ، ولا تدّخر شيئاً لوقت ثانٍ ، ولا تترك شيئاً ما دامت تشتهي ، فعلى ذلك أولئك الكفرة ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ ٱلَّتِيۤ أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلاَ نَاصِرَ لَهُمْ } كانت سنة الله - تعالى - في الذين كانوا من قبل أنه إذا أخرج الرسل - عليهم السلام - من بين أظهرهم أهلكهم ، فيخبر أن أهل مكة قد استوجبوا العذاب ؛ إذ أخرجت من بين أظهرهم كما يستوجب أولئك الكفرة ، لكن الله بفضله ورحمته أخر ذلك عنهم ؛ لأنه بعثك إليهم رحمة ؛ كقوله - تعالى - : { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } [ الأنبياء : 107 ] ، أو أخر ذلك عنهم ؛ لما وعد أنه خاتم الأنبياء - عليهم السلام - ليبقي شريعته إلى يوم القيامة ، ولو أهلكهم واستأصلهم ؛ على ما فعل بأولئك لانقطعت رسالته وشريعته ، وقد وعد أنها تبقى ، وأنه رحمة لهم ، وأنه لا يخلف الميعاد . ثم أخبر أن أولئك الكفرة أكثر أهلا وأشدّ قوة وبطشاً من هؤلاء ، ثم لم يتهيأ لهم دفع ما نزل بهم بقوتهم في أنفسهم وبطشهم ، ولا كان لهم ناصر ينصرهم من عذاب الله ، ولا مانع يمنعهم عنه ، فأنتم يأهل مكة أولى ألا تدفعوا عن أنفسكم العذاب إذا نزل بكم ، والله أعلم . ثم قوله - عز وجل - : { أَخْرَجَتْكَ } أضاف الإخراج إلى قومه ، وهم لم يتولوا إخراجه بأنفسهم ؛ بل اضطروه حتى خرج هو بنفسه ، لكنه أضاف الإخراج إليهم ؛ لأن سبب خروجه من بينهم كان منهم ، فكأنهم قد أخرجوه ، وهو كما ذكر من إخراج الشيطان آدم وحواء - عليهما السلام - من الجنة بقوله : { فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ } [ البقرة : 36 ] ، والشيطان لم يتول إخراجهما حقيقة ، لكن لما كان منه من أشياء حملهم ذلك على الخروج ، فكأنه وجد الإخراج منه ، وأصله : أن الأشياء والأفعال ربما تنسب إلى أسبابها ، وإن لم يكن لتلك الأسباب حقيقة الأفعال ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { فَلاَ نَاصِرَ لَهُمْ } هو خبر من الله - تعالى - أي : لا يكون لهم ناصر ، وهو يحتمل وجهين : أحدهما : لا يكون ناصر في الآخرة . والثاني : على إضمار ؛ أي : لم يكن لهم ناصر وقت ما عذبوا في الدنيا ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوۤءُ عَمَلِهِ وَٱتَّبَعُوۤاْ أَهْوَاءَهُمْ } لم يخرج لهذا الحرف جواب ؛ لما هم عرفوا بالبديهة أن ليس من كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله ، واتبع هواه ، يعرف ذلك بالبديهة كمن يقول : ليس المحسن كالمسيء ، وليس من يحسن كمن يسيء ، ونحو ذلك مما يعرفه كل أحد لا يحتاج إلى بيان وجواب ، فعلى ذلك هذا . ثم في ذلك وجهان : أحدهما : يذكر سفههم باختيارهم اتباع هواهم وما زين لهم من سوء عملهم على اتباع من كان على بينة منه ، وبيان ، على علم بذلك ، ويقين ، والله أعلم . والثاني : فيه ذكر دلالة البعث ، يقول - والله أعلم - : لما عرفتم أن من كان على بينة من ربه ليس كمن يتبع هوى نفسه ، وقد استويا في هذه الدنيا : انتفع هذا كما انتفع الآخر ، وفي العقول لا استواء بينهما ؛ فدل استواؤهما في هذه الدار على أن هناك داراً أخرى ، ثم يفرق بينهما ويميز ، والله الموفق . وقوله - عز وجل - : { مَّثَلُ ٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِي وُعِدَ ٱلْمُتَّقُونَ } هذا يخرج على وجوه : أحدها : أن قوله - تعالى - : { وُعِدَ ٱلْمُتَّقُونَ } على حقيقة المثل ، كأنه يقول : مثل الجنة التي وعد المتقون من جناتكم هذه لو كانت جناتكم في الدنيا على المثل الذي وصف في الآية ، أليس كانت نفس كل أحد ترغب فيها ، وتحرص في طلبها ؛ لتكون تلك الجنة لها ، فما بالكم لا ترغبون في تلك الجنة التي وعد المتقون في الآخرة لا ترغبون فيها ، ولا تحرصون في طلبها ؟ والله أعلم . ويخرج على هذا التأويل قوله - تعالى - : { كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي ٱلنَّارِ } أي : ليس من كان خالداً في جنة من جناتكم التي ذكر وصفها كمن هو خالد في نار من نيرانكم . والثاني : يحتمل قوله - تعالى - : { ٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِي وُعِدَ ٱلْمُتَّقُونَ } ما ذكر ، فيخرج على الصلة ؛ لما تقدم من قوله - تعالى - : { إِنَّ ٱللَّهَ يُدْخِلُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ } ثم وصف ونعت الجنة التي أخبر أنه يدخلهم فيها فقال : { مَّثَلُ ٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِي وُعِدَ ٱلْمُتَّقُونَ } أي : صفتها { فِيهَآ أَنْهَارٌ مِّن … } كذا وكذا الآية ، وعلى هذا ما ذكر في آخره من قوله : { كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي ٱلنَّارِ } يحتمل أن يكون صلة قوله : { وَٱلنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ } ، ثم وصف تلك النار التي أخبر أنها مثوى لهم ومأوى لهم فقال : { وَسُقُواْ مَآءً حَمِيماً … } الآية . والثالث : يذكر على أن من وعد له ما وعد للمتقين من الجنة وما فيها من النعم ، ليس كمن وعد له النار ؛ ألا ترى أنه - جل وعلا - ذكر في آخر ما ذكر من وصف الجنة : { كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي ٱلنَّارِ وَسُقُواْ مَآءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَآءَهُمْ } أي : ليس هذا كهذا ، ولا سواء بينهما ، أي : لا مساواة ، وهو كقوله - تعالى - فيما تقدم من حيث قال : { أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوۤءُ عَمَلِهِ وَٱتَّبَعُوۤاْ أَهْوَاءَهُمْ } ، أي : ليس هذا كهذا ؛ فعلى هذا يحتمل ما ذكر من وصف الجنة ووصف النار ؛ أي : ليس من وعد له الجنة التي وصفها ونعتها كمن وعد له النار التي وصفها ما ذكر ، والله أعلم . ثم قال : { أَنْهَارٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ ءَاسِنٍ … } الآية ، يخبر أن ما يكون في الجنة من المياه , والخمور ، والألبان ، وما ذكر ليس كالتي في الدنيا ؛ لأن المياه في الدنيا تتغير بأحد وجهين : إما النجاسة وآفة تصيبها ، أو لطول الزمان والمكث ، فيخبر أن ليس في الجنة شيء يغير مياهها ، وكذلك اللبن في الدنيا يتغير ويفسد عن قريب إذا ترك لما ذكر ، فيخبر أن ألبان الجنة لا تفسد للترك ، ولا يصيبها شيء فيفسدها ويخرجها عن طعم اللبن ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ } يخبر أن الخمر في الجنة مما يتلذذ بها أهلها عند الشرب ليس كخمور الدنيا يتكره أهلها عند شربها ويعبسون بوجوههم عند التناول منها ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى } أي : أنهار من عسل خلق ، وأنشئ مصفى لا كدورة فيه ، لا أنه كان كدراً [ ثم ] صفي ، أو كان خلق بعضه كدراً وبعضه مصفى ، ولكن خلق كله مصفى من الابتداء ، وهو كقوله - تعالى - : { رَفَعَ ٱلسَّمَاوَاتِ } [ الرعد : 2 ] أي : خلقها في الابتداء مرفوعة ، لا أنها كانت موضوعة ثم رفعها ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ } يحتمل : أي : من كل الثمرات التي عرفوها في الدنيا ورأوها . أو يقول : { وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ } التي يريدون فيها ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي ٱلنَّارِ وَسُقُواْ مَآءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَآءَهُمْ } أي : ليس من وعد له ما ذكر من الجنة وهو خالد فيها متنعم بما ذكر من ألوان الثمار والتنعم بما ذكر من المياه والخمور والألبان ، كمن هو خالد في النار وما ذكر ، والله أعلم .