Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 47, Ayat: 4-11)
Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله - عز وجل - : { فَإِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَضَرْبَ ٱلرِّقَابِ } ، وقال في آية أخرى : { فَٱضْرِبُواْ فَوْقَ ٱلأَعْنَاقِ وَٱضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ } [ الأنفال : 12 ] ، جائز أن يكون قوله - تعالى - : { فَإِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَضَرْبَ ٱلرِّقَابِ } في القتال والحرب ، وكذلك قوله - تعالى - : { وَٱضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ } [ الأنفال : 12 ] في الحرب والقتال - أيضاً - يضربون ويقتلون على ما يظفرون ويقدرون بهم من المفاصل ، ولكن إبانة من المفصل - والله أعلم - لما روي في الخبر : " إذا قتلتم فأحسنوا القتل " وحسن القتل هو أن يضرب ويبان من المفصل ، والله أعلم . فعلى هذا جائز أن يخرج تأويل قوله تعالى : { فَٱضْرِبُواْ فَوْقَ ٱلأَعْنَاقِ وَٱضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ } [ الأنفال : 12 ] وتأويل قوله : { فَضَرْبَ ٱلرِّقَابِ } . وجائز أن يكون لا على التقديم والتأخير والإضمار ، ولكن كل آية على نظم ما ذكر ، والله أعلم . ثم إن كان على ما ذكرنا من التقديم والتأخير والإضمار فيكون كأنه قال - تعالى - : فإذا لقيتم الذين كفروا فاضربوا الرقاب حتى [ إذا ] أثخنتموهم وأسرتموهم ، فاضربوا فوق الأعناق ؛ لأن الإمام بالخيار عندنا إذا أخذهم وظفر بهم إن شاء قتلهم ، وإن شاء من عليهم وتركهم بالجزية ، لقوله : { حَتَّىٰ يُعْطُواْ ٱلْجِزْيَةَ عَن يَدٍ } [ التوبة : 29 ] ويكون قوله : { فَشُدُّواْ ٱلْوَثَاقَ } على هذا في المن يستوثقهم بالمواثيق ، وإن شاء فاداهم ، لكنهم اختلفوا في المفاداة . قال بعضهم : يفدون بالأموال وأسراء المسلمين منهم . وقال بعضهم : يفادون بالأسراء منهم ، ولكن لا يجوز أن يفادوا بالأموال ، وهو قولنا . وقال بعضهم : لا يفادون بأسراء المسلمين ولا بالأموال ؛ وهو قول أبي حنيفة ، رحمه الله . واختلفوا في قتل الأسراء منهم : قال بعضهم : لا يقتلون ، ولكن يمن عليهم أو يفادون . وقال بعضهم : الإمام بالخيار : إن شاء قتلهم ، وإن شاء منّ عليهم ، وإن شاء فاداهم بالأسارى من المسلمين ؛ أما القتل فلما ذكرنا من الاستدلال بقوله : { فَٱضْرِبُواْ فَوْقَ ٱلأَعْنَاقِ } [ الأنفال : 12 ] ، ولما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " أنه استشار أبا بكر ، وعمر ، وسائر الصحابة - رضي الله عنهم - في أسارى بدر ، فأشاروا إلى المنّ عليهم والترك ، وأشار عمر إلى القتل فيهم ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك : " لو جاءت من السماء نار ما نجا منكم إلا عمر " أو كلام نحوه - دل أن الحكم فيهم القتل ؛ أعني : في هؤلاء الذين حكم فيهم عمر - رضي الله عنه - بالقتل ؛ لذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما نجا إلا عمر " فدل هذا الخبر أن للإمام أن يقتل أسارى أهل الشرك ، وله أن يمن عليهم بالترك بالجزية في حق أهل الكتاب والعجم ، فإنه لما جاز لنا في الابتداء أن نأخذ منهم الجزية إذا أبوا الإسلام وتركهم على ما هم عليه ، فعلى ذلك بعد الظفر بهم والقدرة عليهم . ثم قال بعضهم : الآية - وهو قوله : { فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً } - تخالف من حيث الظاهر لقوله : { فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ } [ التوبة : 5 ] ونحو ذلك ، ولكن أمكن التوفيق بين الآيتين : هذه في قوم ، والأخرى في قوم آخرين ، أو هذه في وقت والأخرى في وقت آخر ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { حَتَّىٰ تَضَعَ ٱلْحَرْبُ أَوْزَارَهَا } . قال بعضهم : حتى يخرج عيسى بن مريم - عليهما السلام - فعند ذلك تذهب الحروب والقتال ، أي : اقتلوهم ، وافعلوا بهم ما ذكر إلى وقت خروج عيسى - عليه السلام - وقال بعضهم : { حَتَّىٰ تَضَعَ ٱلْحَرْبُ أَوْزَارَهَا } أي : حتى يضعوا أسلحتهم ويتركوا القتال . وقال بعضهم : حتى يذهب الكفر والشرك ، ولا يكون الدين إلا دين الإسلام ، وهو كقوله - تعالى - : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ } [ البقرة : 193 ] ، أي : شرك وكفر ، والله أعلم . قيل : الإثخان : هو الغلبة والقهر بالقتل والجراح . وقال أبو عوسجة : { أَثْخَنتُمُوهُمْ } ، أي : أكثرتم فيهم القتل والجراحة ، ويقال في الكلام : ضربته حتى أثخنته : حتى لا يقدر أن يتحرك ، والوثاق : ما أوثقت به كل يدي الرجل أو رجليه ؛ يقال : أوثقته واستوثقت منه . وقوله : { أَوْزَارَهَا } أي : أثقالها ، واحدها : وزر ، وهو الثقل . وقال القتبي : { حَتَّىٰ تَضَعَ ٱلْحَرْبُ أَوْزَارَهَا } أي : يضع أهل الحرب السلاح . وأصل الوزر ما حملته ، فسمّى السلاح : وزراً ؛ لأنه يحمل ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { ذَلِكَ وَلَوْ يَشَآءُ اللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ } قوله : { ذَلِكَ } أي : ذلك الذي أمرتهم به من أول ما ذكر من قوله - تعالى - : { فَإِذَا لَقِيتُمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَضَرْبَ ٱلرِّقَابِ … } إلى قوله : { حَتَّىٰ تَضَعَ ٱلْحَرْبُ أَوْزَارَهَا } والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَلَوْ يَشَآءُ اللَّهُ لاَنْتَصَرَ } لأوليائه من أعدائه بلا قتال ، ولا نصب الحروب فيما بينهم ، ثم انتصاره منهم يكون مرة بأن يهلكهم إهلاكاً ، ويقهرهم قهراً ، ومرة ينتصر منهم بأن يسلط عليهم أضعف خلقه وأخسهم ، فيقهرهم بأضعف خلقه . وقوله - عز وجل - : { وَلَـٰكِن لِّيَبْلُوَاْ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ } أي : يمتحن بعضكم بقتال بعض ، وبأنواع المحن : أنشأ الله - عز وجل - هذا البشر في ظاهر الأحوال بعضهم مشابهاً لبعض غير مخالف بعضهم بعضاً فإنما يظهر الاختلاف بالامتحان بأنواع المحن على اختلاف الأحوال ، فعند ذلك يظهر المصدق من المكذب ، والمحق من المبطل ، والموافق من المخالف ، والمتحقق من المضطرب ، والموقن من الشاك ؛ على ما ذكر - تعالى - : { وَبَلَوْنَاهُمْ بِٱلْحَسَنَاتِ وَٱلسَّيِّئَاتِ } [ الأعراف : 168 ] ، { وَنَبْلُوكُم بِٱلشَّرِّ وَٱلْخَيْرِ فِتْنَةً } [ الأنبياء : 35 ] ، { ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلْمَوْتَ وَٱلْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } [ الملك : 2 ] ، وغير ذلك من الآيات التي ذكر الاختلاف والامتحان فيها باختلاف الأحوال التي عند ذلك يظهر ما ذكر من التصديق والتكذيب [ و ] التحقيق وغيره . ثم لو كان - جل وعلا - انتصر لأوليائه من أعدائه بما ذكرنا بأن ينصرهم على أعدائهم نصراً بلا امتحان وكلفة منه لأوليائه - لكان التوحيد له والتصديق لرسله بحق الاضطرار ، لا بحق الاختيار ؛ لأنهم إذا رأوا أنهم يستأصلون ويهلكون إهلاكاً بخلافهم إياهم لكانوا لا يخالفونهم ؛ بل يوافقونهم مخافة الهلاك والاستئصال ، فيرتفع الابتلاء والامتحان عنهم ، فلا يظهر المختار من غيره ؛ لذلك كان ما ذكرنا ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ } هذا يخرج على وجهين : أحدهما : يقول : { وَٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } فهزموا وغلبوا وهربوا في وقت أو في قتال ، { فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ } التي كانت منهم من الجهاد مع الأعداء وغير ذلك من الأعمال التي كانت لهم ، { سَيَهْدِيهِمْ } ، أي : يوفقهم ثانياً - مرة أخرى - للقتال والنصر لهم على أعدائهم في الدنيا ، ويدخلهم في الآخرة الجنة . والثاني : أي : { وَٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ } في الآخرة ، { سَيَهْدِيهِمْ } في الآخرة الجنة . وقوله - عز وجل - : { وَيُدْخِلُهُمُ ٱلْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ } قال بعضهم : أي : يدخلهم الجنة التي بينها لهم في الدنيا ووصفها . وقال بعضهم : عرفها لهم في الآخرة حتى يعرف كل منزله وأهله من غير أعلام وأدلة جعلت لهم ، كما يعرف كل أحد في الدنيا منزله وأهله وخدمه ، والله أعلم . وقال بعضهم : { عَرَّفَهَا لَهُمْ } أي : طيبها لهم ؛ يقال : فلان معرف ، أي : مطيب ، وطعام معرف ، أي : مطيب ؛ وهو قول القتبي . وقوله - عز وجل - : { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِن تَنصُرُواْ ٱللَّهَ يَنصُرْكُمْ } أي : إن تنصروا دين الله ينصركم . أو إن تنصروا أولياء الله ينصركم على أعدائكم . ثم نصرنا دين الله وأولياءه يكون مرة بالأنفس والأموال ببذلها في سبيله لابتغاء وجهه ، والثاني : يكون نصراً بالحجج والبراهين بإقامتها عليهم بما أمرنا من إقامة الحجج والآيات . ثم يكون نصر الله إيانا من وجهين : أحدهما : ينصرنا على أعدائه بما يغلبهم ويقهرهم ، لكن إن كان هذا ، فيكون في حال دون حال ، وفي وقت دون وقت ، لا في كل الأحوال . والثاني : يكون نصره إيانا بما يجعل العاقبة [ لنا ] ، وإن كنا غلبنا وقهرنا في بعض الحروب والقتال ، وكانوا هم الغالبين علينا ، قاهرين لنا ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ } . يحتمل في الحروب والقتال ، أو يثبت أقدامهم في الآخرة ؛ كي لا تزول ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَتَعْساً لَّهُمْ } ، أي : هلاكاً لهم . وقيل : أي : محنة عند الهزيمة والقتل . وجائز أن يكون أريد به الهلاك ، وأصل التعس هو العثور والسقوط ، وهو الهلاك ، فيرجع إلى ما ذكرنا ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُواْ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَٰلَهُمْ } أي : ذلك الذي ذكر لهم من التعس والهلاك وإبطال الأعمال بأنهم تركوا اتباع ما أنزل الله على رسوله ؛ إذ كل من ترك اتباع شيء اعتقاداً ، فقد كرهه ، والله أعلم . ويحتمل أن يكون قوله : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُواْ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ } أي : كرهوا ما أنزل الله على غير بني إسرائيل ، فإن كان هذا فالآية في أهل الكتاب ؛ لأنهم لم يروا الرسل من غير بني إسرائيل ولا إنزال الكتب على أحد من غير بني إسرائيل ، والله أعلم . وقوله : { فَأَحْبَطَ أَعْمَٰلَهُمْ } أي : بتركهم اتباع ما أنزل الله وقبوله ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } قد ذكرنا فيما تقدم : أنه يخرج على وجوه ثلاثة : أحدها : أي : لو ساروا في الأرض ، لعرفوا ما نزل بأولئك بماذا نزل بهم ؟ وهو تكذيبهم للرسل وكفرهم بهم ، ولعرفوا أن من نجا منهم بماذا نجا ؟ وهو التصديق لهم ، والإيمان بهم . والثاني : على الأمر ؛ أي : سيروا في الأرض ، فانظروا ما الذي نزل بمكذبي الرسل ومستهزئيهم ؛ ليكون ذلك مزجراً لهم عن مثل معاملتهم الرسول ؛ عليه السلام . والثالث : أي : قد ساروا في الأرض ، لكن لم ينظروا ولم يعتبروا فيما نزل بأولئك أنه بماذا نزل بهم ؛ ولو تأملوا فيهم ، لكان ذلك زجراً لهم عن المعاودة إلى مثل ذلك ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { دَمَّرَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا } هذا يخرج على وجوه : أحدها : أي : { دَمَّرَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ } سوى هؤلاء الكفار الذين دمر الله عليهم أمثال ما لهم من الهلاك بتكذيبهم الرسل . والثاني : أي : { دَمَّرَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا } أي : للكافرين من قومك أمثالها ، وهذا وعيد لقومه . والثالث : أن يقول : لقومه ولكل كافر أمثال ذلك ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { ذَلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ مَوْلَى ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَأَنَّ ٱلْكَافِرِينَ لاَ مَوْلَىٰ لَهُمْ } تأويله : أي : ذلك الذي ذكر لهم ؛ لأجل أن الله ناصر الذين اتبعوا أمره ، وآمنوا به ، وصدقوه ، فدفع العذاب عنهم باتباعهم أمره ، وإن للكافرين ذلك ؛ لما ليس هو بناصر لهم ؛ لتركهم اتباع أمره وتصديقهم إياه ، فلم يدفع العذاب عنهم . أو يقول : { ذَلِكَ } ، أي : دفع العذاب عن الذين آمنوا ؛ لما أن الله يتولى أمورهم ، ويعصمهم ، وأنه لم يتول أمور الكفرة ، أي : لم يعصمهم ، وخذلهم ، وتركهم على ما اختاروا ؛ لعلمه باختيارهم ما اختاروا من التكذيب ، وتولى المؤمنين وعصمهم ؛ لعلمه بما يختارون من التصديق والاتباع له ، والله أعلم .