Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 5, Ayat: 27-32)

Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله - عز وجل - : { وَٱتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ٱبْنَيْ ءَادَمَ بِٱلْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً } [ قال الحسن وغيره : لم يكونا ابني آدم من صلبه ، ولكن كانا رجلين من بني إسرائيل قربا قرباناً ] ؛ فتقبل قربان أحدهما ، ولم يتقبل قربان الآخر ، وإن نسبهما إلى آدم ؛ لأن كل البشر ولد آدم ينسب إليه ، كقوله - تعالى - : { يٰبَنِيۤ ءَادَمَ } افعلوا كذا ولا تفعلوا كذا ، ليس يريد به ولد آدم لصلبه ، ولكن البشر كله ؛ فعلى ذلك الأول ، والله أعلم . وأمَّا ابن عباس - رضي الله عنه - والكلبي وغيرهما من أهل التأويل : فإنهم قالوا : " إنهما كانا ابني آدم لصلبه : أحدهما يسمى قابيل ، والآخر هابيل ، وكان [ لكل ] واحد منهما أخت ولدت معه في بطن واحد ، وكانت إحداهما جميلة ، والأخرى دميمة ، فأراد كل واحد منهما نكاح الجميلة منهما ، فتنازعا في ذلك ؛ فقال أحدهما لصاحبه : تعال حتى نقرب قرباناً ، فإن تقبل قربانك فأنت أحق بها ، وإن تقبل قرباني فأنا أحق بها ، فقربا قربانهما ، فقبل قربان هابيل ، ولم يتقبل قربان قابيل ؛ فحسده ؛ فهم أن يقتله ؛ فذلك قوله - تعالى - : { إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ ٱلآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ ٱللَّهُ مِنَ ٱلْمُتَّقِينَ } ، ولكن لا ندري كيف [ كانت ] وفيما كانت القصة ؟ وكانا ابني آدم لصلبه ، أو لم يكونا ، وليس لنا إلى معرفة هذا حاجة ، إنما الحاجة في هذا إلى معرفة ما فيه من الحكمة والعلم ؛ ليعلم ذلك ويعمل به ، فهو - والله أعلم - ما ذكر - عز وجل - فيما تقدم من قوله تعالى : { يَا أَهْلَ ٱلْكِتَابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ ٱلْكِتَابِ } [ المائدة : 15 ] ، وقال في آية أخرى : { يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَىٰ فَتْرَةٍ مِّنَ ٱلرُّسُلِ } [ المائدة : 19 ] فكأن هذا - أعني : نبأ ابني آدم - كان في كتبهم ؛ فأمر - عز وجل - رسوله أن يتلو عليهم ذلك على ما كان ، ويبين لهم ما في كتبهم ؛ لأنه قال : { قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ ٱلْكِتَابِ } و { يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَىٰ فَتْرَةٍ مِّنَ ٱلرُّسُلِ } ليعلموا أنه إنما علم ذلك بالله ، لا بأحد من البشر ؛ لأنه إنما بعث عند دروس آثار الرسل ، وانقطاع العلوم ، فبين لهم واحداً بعد واحد ، ففيه دليل إثبات رسالة [ سيدنا ] محمد صلى الله عليه وسلم . وسورة المائدة كان أكثرها نزلت في مخاطبة أهل الكتاب ؛ لأنه يقول في غير موضع : { يَا أَهْلَ ٱلْكِتَابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ ٱلْكِتَابِ } و { يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَىٰ فَتْرَةٍ مِّنَ ٱلرُّسُلِ } يدعوهم إلى الإيمان بالرسل ، ونزل سورة الأنعام في مخاطبة أهل الشرك ؛ لأن فيها دعاء إلى التوحيد . وقوله - عز وجل - : { وَٱتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ٱبْنَيْ ءَادَمَ بِٱلْحَقِّ } : يحتمل وجهين : يحتمل : { بِٱلْحَقِّ } على ما نزل . ويحتمل : { بِٱلْحَقِّ } المعلوم المعروف على ما كانوا ؛ ليعلموا أنه بالله علم ، وأنه علم سماوي . وقوله - عز وجل - : { إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ ٱللَّهُ مِنَ ٱلْمُتَّقِينَ } : هذا يحتمل وجهين : يحتمل : إنما يتقبل الله قربان من اتقى الشرك ، لا يتقبل قربان من لم يتق ، وإلى هذا يذهب الحسن ، وقال : كانا رجلين من بني إسرائيل : أحدهما مؤمن ، والآخر منافق ، فتنازعا في شيء فقربا ليعلم المحق منهما ، فتقبل من المؤمن ولم يتقبل من الآخر . وقال أبو بكر الأصم : كانا رجلين مصدقين ؛ لأن الكافر لا يقرب القربان ، لكن أحدهما كان أتقى قلباً فتقبل قربانه ، والآخر لا فلم يتقبل قربانه ، والتقوى شرط في قبول القرابين وغيرها من القرب ؛ كقوله - عز وجل - : { إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ ٱللَّهُ مِنَ ٱلْمُتَّقِينَ } ، وقوله : والكافر لا يقرب القربان ، يقال : قد يقرب لما يدعي من الدين أن الذي هو عليه حق ؛ ليظهر المحق منهم ؛ ألا ترى أنه يَدَّعُون أن [ فيهم ] من هو أحق بالرسالة من محمد صلى الله عليهم وسلم بقولهم : { لَوْلاَ نُزِّلَ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ ٱلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } [ الزخرف : 31 ] ، وغير ذلك [ من ] أباطيل قالوها ، وبالله التوفيق . وقوله - عز وجل - : { لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ } . قال بعض الناس : إن الواجب علينا أن نفعل مثل فعل أولئك ، لا ينبغي لمن أراد أحد قتله أن يقتله ، ولكن يمتنع عن ذلك على ما امتنع أحد ابني آدم ؛ حيث قال له : { لأَقْتُلَنَّكَ } ، فقال له الآخر : { مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ } ، واحتجوا في ذلك بأخبار رويت : روي عن أبي موسى الأشعري ، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " " إِذَا تَوَاجَهَ المُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَقَتَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ فَهُمَا فِي النَّارِ " ، فقيل : يا رسول الله ، أرأيت المقتول ؟ ! فقال : " إِنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَقْتُلَ صَاحِبَهُ " " . وعن سعد بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَكُونَ عَبْداً للهِ ، وَلاَ تَقْتُل أَحَداً مِنْ أَهْلِ القِبْلَةِ فَافْعَلْ " . وعن الحسن - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إِنَّ ابْنَيْ آدَمَ ضَرَبَا لِهَذِهِ الأُمَّةِ مَثَلاً ، فَخُذُوا بِالْخَيْرِ مِنْهُمَا " . وعن أبي ذر - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كَيْفَ يَا أَبَا ذَرٍّ إِذَا كَانَتْ بِالْمَدِينَةِ قَتْلٌ بِغَيْرِ حِجَارَةٍ ؟ قال : قلت : ألبس سلاحي ، قال : " شَارَكْتَ الْقَوْمَ إِذَنْ " قال : قلت : كيف أصنع يا رسول الله ؟ قال : " إِنْ خَشِيتَ أَنْ يَبْهَرَكَ شُعَاعُ السَّيْفِ فَأَلْقِ نَاحِيَةَ ثَوْبِكَ عَلَى وَجْهِكَ ، يَبُوءُ بِإِثْمِكَ وَإِثْمِهِ " يحتجون بمثل هذه الأخبار . وقال آخرون : له أن يقاتل إذا لم يتعظ صاحبه بالله ، وأراد قتله ، فهو في سعة من قتل من يريد أن يبتدئه بالقتل ؛ استدلالاً بما أمر الله - تعالى - بقتال أهل البغي ؛ كقوله - تعالى - : { فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَىٰ ٱلأُخْرَىٰ فَقَاتِلُواْ ٱلَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيۤءَ إِلَىٰ أَمْرِ ٱللَّهِ } [ الحجرات : 9 ] ، فصار الحكم في أمتنا ما أمرهم الله به من قتال البغاة ؛ لأن الله - تعالى - قال : { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً } [ المائدة : 48 ] ، على أن قتال المشركين كان محظوراً في أول مبعث النبي صلى الله عليه وسلم وقبل ذلك بأوقات ، وقالوا : فغير منكر أن يكون الوقت الذي ذكره الله في هذه الآية كان قتال المشركين وتجريد السيف فيه محظوراً ، فأذن الله في قتالهم وقتال أهل البغي ، فصار الحكم في أمتنا ما أمر الله [ به ] من قتال البغاة والمشركين ، والله أعلم . وأما ما احتجوا به من الأخبار التي رويت من اقتتال المسلمين وأشباهها : فإن ذلك ، - والله أعلم - ما احتجوا به من الأخبار التي رويت في حال الفتن ، وقتال الفئتين اللتين لا إمام فيهما يستحق الإمامة ؛ لحمية أو أمر جاهلية أو عصبية ، فهما على خطأ ، فالصواب في مثله ما ذكر من الأخبار . وأما إذا كان للناس إمام هدى : فقد عقدوا له البيعة ، فخرجت عليه خارجة ظلمة ، فقتالهم واجب ؛ اتباعاً لعلي - رضي الله عنه - ومن حارب معه من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أَهْلَ البغي والخوارج ، فأما قتال الخوارج : فهو كالإجماع ؛ لأن جميع الطوائف قد حاربوهم ، ورويت في ذلك آثار كثيرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ إلى هذا يذهب من رأى قتل من يهم بقتله . وقوله - عز وجل - : { إِنِّيۤ أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ } : أن ترجع بإثمي بقتلك إياي ، وإثمك الذي عملته قبل قتلي . قال القتبي : { بِإِثْمِي } : أن تقتلني ، { وَإِثْمِكَ } : ما أضمرت في نفسك من الحسد والعداوة . وقال الحسن : ترجع { بِإِثْمِي } بقتلك إياي ، { وَإِثْمِكَ } يعني : الكفر الذي كان عليه ؛ لأنه يقول : كان أحدهما كافراً فقتل صاحبه ؛ فيرجع بالكفر ، والله أعلم . وقوله - تعالى - : { إِنِّيۤ أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ } : يجوز أن يتكلم بالإرادة على غير تحقيق الفعل ؛ كقول القائل : أريد أن أسقط من السطح ، وهو لا يريد سقوطه منه ؛ وكقوله : { فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ } [ الكهف : 77 ] والجدار لا فعل له ، فإذا جاز إضافة الإرادة إلى من لا فعل يكون منه ؛ دل أنه ليس على حقيقة الفعل ، ولكن على ما يقع أنه يكون كذلك ، ويئول أمره إلى ذلك . أو أراد أن يبوء بإثمه لما علم منه أنه يقتله لا محالة ، ويعصي ربه ، أراد أن يبوء بإثمه ؛ وذلك جائز ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ } : قال القتبي : أي شايعته ، وانقادت له . وقال أبو عوسجة : { فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ } : أي : أمرته وزينت له . وقال مجاهد : أي : شجعته وأعانته ، وكله يرجع إلى واحد . وقوله - عز وجل - : { فَأَصْبَحَ مِنَ ٱلْخَاسِرِينَ } ، وقال في آية أخرى : { فَأَصْبَحَ مِنَ ٱلنَّادِمِينَ } [ المائدة : 31 ] : يحتمل وجهين : يحتمل : أصبح تائباً ؛ لأن الندامة توبة ، وذلك أن من أذنب ذنباً فندم عليه كان ذلك منه توبة ، فإن لم يكن توبة فتأويل قوله : { فَأَصْبَحَ } : [ أي ] : يصبح في الآخرة من النادمين ؛ وهو كقوله : { وَإِذْ قَالَ ٱللَّهُ يٰعِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ ٱتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـٰهَيْنِ مِن دُونِ ٱللَّهِ } [ المائدة : 116 ] أي : يقول في الآخرة لا أن قال له ؛ فعلى ذلك قوله تعالى : { فَأَصْبَحَ مِنَ ٱلنَّادِمِينَ } : أي : يصبح من النادمين في الآخرة - والله أعلم - ويصبح من الخاسرين . وقوله - عز وجل - : { فَبَعَثَ ٱللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي ٱلأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ } . استدل من قال بأن القصَّة كانت في بني آدم لصلبه : يقول : { فَبَعَثَ ٱللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي ٱلأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ } ؛ لأن القصة لو كانت في بني إسرائيل لم يكن ليجهل دفن الميت ؛ إذ قد رأى ذلك غير مرة وعاينه ؛ فدل أنه كان في أول ميت جهل السنة فيه . وقال من قال : إنهما كانا رجلين من بني إسرائيل ؛ إذ قد يجوز أن يخفى على المرء شيء علمه قبل ذلك وعاينه إذا اشتد به الخوف ونزل به الهول ؛ كقوله - تعالى - : { يَوْمَ يَجْمَعُ ٱللَّهُ ٱلرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَآ أُجِبْتُمْ قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَآ } [ المائدة : 109 ] ، وقد كان لهم علم بذلك ، لكن ذهب عنهم - والله أعلم - لشدة هول ذلك اليوم ، وخوفه ؛ فعلى ذلك الأول ، يجوز خفاء دفن الموتى بعدما علمه ؛ لشدة الهول ، والله أعلم . ثم اختلف فيما أخبر عن بحث الغراب في الأرض : قال الحسن - رضي الله عنه - : كان الغراب يبحث التراب على ذلك الميت ؛ ليرى ذلك القاتل ، لا أنه كان يبحث التراب على غراب آخر ، على ما ذكر في القصَّة أن غراباً قتل آخر ، ثم جعل يبحث التراب عليه ؛ لأنه ذكر السوأة ، وليس للغراب سوأة - والسوأة : العورة - وذلك ليريه كيف يواري سوأة أخيه لم يذكر السوأة في الغراب ، إنما ذكرها في أخيه ؛ من أجل أن يريه أن كيف يواري سوأته ، والله أعلم . وقوله : { قَالَ يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَـٰذَا ٱلْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي } . أي : أعجزت في الحيلة أن أكون مثل هذا الغراب ، فأواري سوأة أخي . وقوله - عز وجل - : { مِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي ٱلأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ٱلنَّاسَ جَمِيعاً . … } الآية . [ أي : من استحل قتل نفس ] يحتمل وجوهاً : يحتمل قوله - تعالى - : { مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي ٱلأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ٱلنَّاسَ جَمِيعاً } أي : من استحل قتل نفس حَرَّمَ الله قتلها بغير حق ، فكأنما استحل قتل الناس جميعاً ؛ لأنه يكفر باستحلاله قتل نفس محرم قتلها ، فكان كاستحلال قتل الناس جميعاً ؛ لأن من كفر بآية من كتاب الله يصير كافراً بالكل ؛ فعلى ذلك الأول ، إذا استحل قتل نفس محرمة يصير كأنه استحل قتل الأنفس كلها . ويحتمل : أن يكون هذا في أول قتيل قتل لم يكن قبل ذلك أحد ، فلما قتل هذا قتيلاً جعل الناس يقتلون بعد ذلك بعضهم بعضاً ، وكان ذلك منه سنة استن الناس به ؛ فهو كما روي في الخبر أن : " مَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً فَلَهُ وِزْرُهَا ، وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يُنْقِصَ مِنْ وِزْرِهِمْ شَيْئاً " ؛ فيشترك هذا القاتل في وزر كل قتيل قتل إلى يوم القيامة بغير حق . وتحتمل الآية وجهاً آخر ، وهو ما قيل : إنه يجب عليه من القتل مثل ما أنه لو قتل الناس جميعاً ، ومن أحياها أعطاه من الأجر مثل ما لو أنه أحيا الناس جميعاً ، إذا أحياها فلم يقتلها وعفا عنها . وعن ابن عباس - رضي الله عنه - قال : من أجل ابن آدم حين قتل أخاه كتبنا على بني إسرائيل : { أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ } بلا نفس وجب عليها القصاص { أَوْ فَسَادٍ فِي ٱلأَرْضِ } يقول : الشرك في الأرض ، { فَكَأَنَّمَا قَتَلَ ٱلنَّاسَ جَمِيعاً } يقول : يعذب عليها ؛ كما أنه لو قتل الناس جميعاً لهم ، وهو مثل الأول . وعن عبد الله بن عمرو قرأ : { مِنْ أَجْلِ ذٰلِكَ … } الآية قال : " لم يكن يؤخذ في بني إسرائيل أرش ، إنما كان قصاصاً بقصاص " يقول : من قتل نفسا ، أو أفسد في الأرض جزاؤه كأنما قتل الناس جميعاً ، ومن أحياها فعلى نحو ذلك . ويحتمل قوله - تعالى - : { وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً } : أي : من استنقذ أحداً من مهلكة فكأنما استنقذ الناس جميعاً في الآخرة . وقيل : ومن أحياها بالعفو - أُجِرَ في إحيائها كما يؤجر من أحيا الناس جميعاً ؛ إذ على الناس معونة ذلك ، فإذا عفا عنها فكأنما عفا عن الناس جميعاً . قال الحسن : ومن أحياها في الأجر ، أما والله من يستطيع أن يحييها إذا جاء أجلها ؟ ! ولكنه أقيد فعفا . ووجه آخر : أنه يلزم الناس جميعا دفع ذلك عن نفسه ومعونته له ، فإذا قتلها أو سعى عليها بالفساد فكأنما سعى بذلك على الناس كافة ؛ فعلى ذلك من أحياها فكأنما سعى في إحياء الناس جميعاً ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِٱلّبَيِّنَٰتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ بَعْدَ ذٰلِكَ فِي ٱلأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ } . في الآية تصبير رسول الله صلى الله عليه وسلم على تكذيب الكفرة إياه ، وأنه ليس بأول مكذَّب في الحق ، بل كانت الرسل من قبل يكذَّبون فيما يأتون من الآيات والحجج والبيان .