Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 5, Ayat: 33-34)
Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله - عز وجل - : { إِنَّمَا جَزَآءُ ٱلَّذِينَ يُحَارِبُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي ٱلأَرْضِ فَسَاداً … } الآية . قال بعضهم : الآية نزلت في أهل الكفر ، وبيان الحكم فيهم ؛ وهو قول الحسن وأبي بكر الأصم ، وقالا : لأن الله - عز وجل - ذكر محاربة الله ورسوله ، وذكر السعي في الأرض بالفساد ، وكل كافر قد حارب الله ورسوله ، وسعى في الأرض بالفساد - فللإمام أن يقتلهم بأي أنواع القتل شاء ، ما دام الحرب فيما بينهم قائماً ، فإذا أثخنوا في الأرض - بترك ذلك - يَمُنُّ الله عليهم إن شاء . وأما المسلم إذا قطع الطريق : فإنه لا يقال : إنه حارب الله ورسوله ؛ فدل أنها نزلت في أهل الكفر ؛ للكفر ، لا لقطع الطريق . وقال آخرون : نزلت في المشركين إذا قطعوا الطريق فأما المسلمون إذا قطعوا الطريق ، فإنما هم سراق تقطع أيديهم فقط . وقال غيرهم : نزلت الآية بالحكم في المشركين إذا قطعوا الطريق وأخافوه ، لكن يتحرى ذلك الحكم في المسلمين ، إذا قطعوا الطريق على الناس وأخافوهم . روي عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال : " وادع رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بردة هلال بن عويمر الأسلمي ، فجاء أناس يريدون الإسلام ، فقطع الطريق عليهم ؛ فنزل جبريل - عليه السلام - على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحدِّ فيهم : أن من قتل وأخذ المال - صُلب ، ومن قَتَل ولم يأخذ المال - قُتِلَ ، ومن أخذ المال ولم يقتل - قطعت يده ورجله من خلاف ، ومن جاء مسلماً - هدم الإسلام ما كان في الشرك " ؛ فدل حديث ابن عباس - رضي الله عنه - على أن الآية نزلت في الموادعين غير المحاربين . روي عن أنس قال : " إن أناساً من عُكْل أو عُرَينة أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فشكوا إليه الجهد ، فبعث معهم بلقاح وراعيا ، وقال لهم : " اشْرَبُوا أَلْبَانَهَا ، وَتَدَاوَوْا بِأبْوَالِهَا " ، فلما أن صَحُّوا قتلوا راعي النبي صلى الله عليه وسلم واستاقوا الإبل ، وارتدوا عن الإسلام ؛ فبعث في آثارهم ، فأتى بهم بعد ما ترجل [ بهم ] النهار ، فأمر بهم فقطعت أيديهم وأرجلهم ، وسمل أعينهم ، وقطع ألسنتهم ، وتركوا بالمكان حتى ماتوا ؛ فنزلت الآية " . وروي عن علي - رضي الله عنه - ما يخالف هذا ؛ روي : " أن حارثة بن بدر حارب الله ورسوله ، وسعى في الأرض فساداً ، وتاب من قبل أن يقدر عليه ، فكتب علي بن أبي طالب إلى عامله بالبصرة : أن حارثة قد تاب قبل أن يقدر عليه ؛ فلا تتعرض له إلا بالخير " ألا ترى أن حارثة قد أطلق فيه أنه حارب [ الله و ] رسوله وكان مؤمناً ؟ ! فهذا يدل على أن الحكم الذي أجرى على قطاع الطريق الكفرة يجري ذلك الحكم في المسلمين ، إذا كان منهم ما كان من المشركين من قطع الطريق على الناس وإخافته عليهم . وقد يتوهم أن الآية نزلت في أهل الحرب ، وقد أبيح لنا قتل من ظفرنا به منهم كيف شئنا ، وإن لم يفسدوا في الأرض ولم يقطعوا الطريق ؛ وهذا يدل أن الآية نزلت بالحكم في أهل الكفر وأهل الإسلام جميعاً ، إذا سعوا في الأرض بالفساد ، ومن الدليل على ذلك : أن الله - تعالى - قال : { إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ } [ المائدة : 34 ] ، وأجمعوا أن الكافر إذا قتل مسلماً ، وأظهر في الأرض الفساد ، فقدرنا عليه وأسرناه ، ثم أسلم - أنه يزول عنه القتل والقطع والطلب ؛ فدل ذلك على أن الآية نزلت بالحكم في المسلمين ؛ لأنه يختلف حكمه إذا تابوا من قبل أن يقدر عليهم ، أو بعد قدرتنا عليهم ، ولم ينزل فيمن يستوي حكمه في الحالين جميعاً ، إذا تابوا بعد القدرة ، فالحكم ثابت عليهم ، فأما الذي روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من فعله بالعرنيين : فإنهم كانوا أسلموا ، ثم ارتدوا . واحتج من ذكرنا قوله من المتأخرين بأن الآية نزلت فيهم - بحديث أنس من فعله بالعرنيين . وقد روي عن بعض المتقدمين أن الآية نزلت بعد قتل العرنيين من نحو ابن سيرين وغيره ؛ فالواجب على من ادعى أن الآية نزلت في العرنيين أن يبين دعواه . وكان أصحابنا - رحمهم الله - يذهبون إلى ما روي عن ابن عباس - رضي الله عنه - ويرون أن يؤخذ المحارب إذا تاب قبل أن يقدر عليه بما أصاب من دم ومال ، على سبيل القصاص ، ولا يصلب ولا تقطع يده ورجله فيما أصاب من مال ؛ فكأنهم ذهبوا إلى أن يزال الحد الذي لله على المحارب بتوبته قبل أن يقدر عليه ، وهو ما كان إلى الإمام إقامته ، ولا أمر للولي فيه . وأما الحقوق التي هي للعباد : فإن التوبة لا تعمل في إبطالها ، ولكل ذي حق أن يأخذ بحقه لا حق للإمام ؛ لأن الحق صار للولي دون الإمام . وفي قوله : { إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ } دلالة على أن السارق إذا رد السرقة قبل أن يقدر عليه أن لا قطع عليه ؛ وكذلك روي عن بعض المتقدمين أنهم قالوا : ليس على تائب قطع . ودل قوله : { وَيَسْعَوْنَ فِي ٱلأَرْضِ فَسَاداً } على أن السارق في المصر ليلاً أو نهاراً لا يكون محارباً ، وإنما هو سارق تقطع يده دون رجله ؛ لأنه ذكر السعي في الأرض بالفساد ، والسارق في المصر لا يقال : سعى في الأرض ؛ ألا ترى إلى قوله - تعالى - : { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي ٱلأَرْضِ } [ النساء : 101 ] لم يرد الضرب في المصر ، ولكن أراد الأسفار ؛ فعلى ذلك الأول . وأما الكلام في القتل والصلب والقطع : فروي عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال : " إذا حارب وقتل وأخذ المال - قطعت يده ورجله من خلاف وصلب ، فإن قتل ولم يأخذ المال - قتل ، وإن أخذ المال ولم يقتل - قطعت يده ورجله من خلاف " . وتأول الآية : { ٱلَّذِينَ يُحَارِبُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ … } الآية : على أن الواجب على المحارب من العقوبة له على قدر جنايته ، ويزاد في عقوبته بقدر زيادته في جرمه . وتأول غيره الآية : على أنها نزلت في المحارب الذي يصيب المال والنفس ، وإذا أصاب الأمرين كان للإمام أن يقتله كيف شاء : إن شاء قتله بالسيف قتلاً ، وإن شاء قطع يده ورجله ثم يتركه حتى يموت ، وإن شاء صلبه حيّاً ، وإن أبطأ عليه الموت طعن بالرماح حتى يموت ؛ وإلى هذا كان يذهب أبو حنيفة ، رحمه الله . وأما أبو يوسف ومحمد - رحمهما الله - قالا : إذا صلب لم تقطع يده ورجله ؛ لأنه لا يجوز أن يجمع عليه الأمرين ، وإنما جعل الله له أحدهما بظاهر قوله : { أَن يُقَتَّلُوۤاْ أَوْ يُصَلَّبُوۤاْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ } ، وجعلا عقوبته مختلفة على قدر جنايته ، إن قيل : فما معنى التخيير فيه ؟ قيل : معناه - والله أعلم - أن يقتل بالسيف ، أو يقتل بالصلب ، أو يقتل بقطع اليد والرجل . وأصله : أن حرف التخيير إذا كان في متفق الأسباب يخرج مخرج التخيير ، من نحو : التخيير في كفارة اليمين ، وكفارة الظهار ، وكفارة المتأذي ؛ لأن سبب وجوبه واحد . وإذا كان في مختلف الأسباب فيخرج مخرج بيان الحكم لكلٍّ في نفسه ؛ كقوله - تعالى - : { قُلْنَا يٰذَا ٱلْقَرْنَيْنِ إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً } [ الكهف : 86 ] لا يحتمل التخيير ، ولكنه على بيان الحكم لكلٍّ في نفسه ؛ لأن سبب وجوبه مختلف ، فتأويله : إما أن تعذب من ظلم ، وتتخذ الحسن فيمن آمن بالله ؛ ألا ترى أنه قال : { أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ } [ الكهف : 87 ] { وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَآءً ٱلْحُسْنَىٰ } [ الكهف : 88 ] . وقول من جعل الحكم فيمن جمع القتل وقطع الطريق أقرب إلى التأويل - والله أعلم - ممن لم يجمع ؛ لأنه قال - عز وجل : { إِنَّمَا جَزَآءُ ٱلَّذِينَ يُحَارِبُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ … } الآية ، فمن حارب وأفسد في الأرض فقد أتى بالأمرين جميعا ؛ لأن محاربته أن يقتل ، وإفساده في الأرض بقطع الطريق ، فإذا جمع هو بين الأمرين يجمع بين عقوبتين . وأصله أن أمر قطاع الطريق محمول على فضل تغليظ ، [ من نحو ما يجمع بين قطع اليد والرجل في أخذ المال ، وذلك لا يجمع في أخذ المال في المصر ، ومن نحو الصلب ، وذلك لم يجعل في غيره من القتل في المصر ؛ فدل أنه محمول على فضل تغليظ ] ، فجاز أن يجمع بين ما ذكرنا ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ ٱلأَرْضِ ذٰلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ } : قال بعضهم : " وينفوا من الأرض " على إسقاط الألف ، ويكون في القتل والصلب نفيه إذا قتل وأخذ المال . وقال بعضهم : نفيه أن يطلب فلا يقدر عليه . وعن الحسن قال : يطلب حتى يخرج من أرض الإسلام ، وذلك إلى الإمام . وأصله ما ذكرنا : أنه إذا قدر عليه وقد قتل وأخذ المال يقتل ؛ وفي القتل نفيه ، وإذا لم يقتل ولم يأخذ المال حبس إن قدر عليه ؛ وفي الحبس نفيه ، وإن لم يقدر عليه يطلب حتى يبرح عن الطريق ، والله أعلم . وقول أبي عبيد ؛ حيث قالت : إنه يصلب بعد القتل ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن المثلة ، فيقال له : المثلة يراد بها على ما قال محمد بن الحسن - رحمه الله - ولأن الصلب جعل عقوبته ، والميت لا يعاقب ، ولو جاز أن يصلب بعد القتل لجاز لغيره أن يقول : تقطع يده ورجله بعد القتل ؛ فذلك بعيد . وقوله - عز وجل - : { إِلاَّ ٱلَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ } . قد ذكرنا فيما تقدم أن قطاع الطريق إذا تابوا قبل أن يقدر عليهم ، سقط عنهم الحدود التي هي لله تعالى ، لا يؤاخذون بها ، وليس كغيرها من الحدود التي تلزم في غير المحاربة - أن التوبة لا تعمل في إسقاطها - لوجهين : أحدهما : أن التوبة من غير المحارب لا تظهر حقيقة ، فإذا لم تظهر - لم تعمل في إسقاط ما وجب ، وفي المحارب تظهر ؛ لأنه في يدي نفسه إذا ترك المحاربة والسعي في الأرض بالفساد ، وظهرت منه التوبة فلم يؤاخذ به ، وفي سائر الحدود لا يظهر منه ترك ما كان يرتكب ؛ لذلك افترقا . والثاني : أنه لو لم يقبل منه ذلك لتمادى في السعي في الأرض بالفساد في حق المسلمين من الضرر أكثر مما لو أخذوهم بذلك ، فاستحسنوا قبول ذلك منهم ، ودرئ ما وجب عليهم من الحدود التي هي لله تعالى . وأما الحقوق التي هي للعباد : فذلك إلى الأولياء : إن شاؤا أخذوهم بذلك ، وإن شاءوا تركوا ، والله أعلم . وأما قوله : " من جاء مسلماً هدم الإسلام ما كان في الشرك " ، معناه : إذا جاء تائباً ؛ لأن الحدود جعلت زواجر ، والإسلام يزيد في الزجر والتغليظ ؛ فلا يجوز أن يكون ما كان سبباً للتغليظ سبباً لإسقاطه ؛ دل أن المعنى منه : من جاء مسلماً تائباً ، والله أعلم .