Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 5, Ayat: 38-40)
Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله : { وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ فَٱقْطَعُوۤاْ أَيْدِيَهُمَا … } الآية . عام في السراق ، خاص في السرقة ؛ لأنه يدخل جميع أهل الخطاب في ذلك ، وإن كان يجوز أن يدرأ الحد عن بعض السراق ، إذا سرقوا من محارمهم ، أو ممن له تأويل الملك في ماله أو شبهة التناول منه ؛ لأنه إذا سرق ممن ليس له ذلك التأويل ولا تلك الشبهة - قطع ؛ فدل أنها عامة في السراق ؛ وعلى هذا يخرج قول ابن عباس ؛ حيث سئل عن قوله - تعالى - : { وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ فَٱقْطَعُوۤاْ أَيْدِيَهُمَا } أخاص هو أم عام ؟ فقال : " لا ؛ بل عام " أي : عام في السراق ؛ ألا ترى أنه قال في خبر آخر ؛ حيث سئل عن ذلك فقال : " ما كان من الرجال والنساء قطع " . وأما قولنا : " خاص في السرقة " ؛ لأنه لا يحتمل قلب أحد قطع اليد في الشيء التافه الخسيس الذي إذا أخذ [ منه ] دل أن الخطاب بذلك من الله - عز وجل - رجع إلى سرقة دون سرقة ، لا إلى كل ما يقع عليه اسم السرقة ؛ وكذلك الخطاب بقطع اليد رجع إلى بعض اليد ، وهو الكف ، وإن كان اسم اليد يقع من الأصابع إلى الإبط ؛ لأن الناس مع اختلافهم - اتفقوا على أن اليد لا تقطع من الإبط ولا من المرفق ، لكنهم اختلفوا فيما دون ذلك : فعلى قول بعضهم : تقطع الأصابع دون الكف ، وعندنا : أنه تقطع الأصابع بالكف ؛ لأنه بها يُقْبَضُ الشيءُ ويُؤْخذ ؛ فمخرج الخطاب بالقطع عام ، والمراد منه : رجع إلى بعض اليد دون بعض . وكذلك قوله تعالى : { فَٱقْطَعُوۤاْ أَيْدِيَهُمَا } مخرج الخطاب بالقطع عام ، ليس فيه بيان من يتولى القطع ، فالمراد منه : رجع إلى الولاة ؛ فهذا كله يدل على أن ليس في مخرج عموم اللفظ دليل عموم المراد ، ولا في مخرج خصوص اللفظ دليل خصوصه ؛ بل يعرف ذلك كله بدليل : يقوم العموم بدليل العموم ، والخصوص بدليل الخصوص ؛ فهذا ينقض قول من يقول : إنه على العموم حتى يقوم دليل الخصوص ، والله أعلم . فإن قيل لنا : أيش الحكمة في إقامة الحد في السرقة على ما به تكتسب السرقة وهو اليد ، ولم يقم الحد في سائر الحدود فيما به كان اكتسابها ؛ من نحو القصاص والزنا وغيره ، أنه إذا قتل آخر لم تقطع يده وبها كان اكتساب القتل ؛ وكذلك الزنا لم يقم الحد على ما به كان الزنا ، بل أقيم على غير ما به كان ذلك الفعل ، وفي السرقة أقيم على ما به كان ذلك خاصة ؟ ! قيل : والله أعلم - لخلتين : إما لقصور في الاستيفاء من الحق ، أو لخوف الزيادة في الاستيفاء على الحق ؛ لأنه إذا قتل : لو قطعت يده بقيت له النفس ، وقد تلفت نفس الآخر ، فكان في ذلك قصور في استيفاء الحق . وفي الزنا : لو أقيم به على الذي به كان اكتساب الفعل لخيف تلف نفسه به ؛ فكان في ذلك استيفاء الزيادة على الحق . وأما السرقة : فإنه أمكن استيفاء الحق مما كان به اكتسابها ، على غير قصور يقع في الاستيفاء ، ولا خوف الزيادة في الاستيفاء ؛ لذلك كان ما ذكر ، والله أعلم . فإن قيل : ما الحكمة في قطع يد قيمتها ألوف بسرقة عشرة ، وذلك مما لا يمثاله في الظاهر ، وقد أخبر ألا يجزي إلا مثلها ، كيف جزي هذا بأضعاف ذلك ؟ قيل : لهذا جوابان : أحدهما : أن جزاء الدنيا محنة يمتحن بها المرء ، ولله أن يمتحن عباده بأنواع المحن ابتداء على غير جعل ذلك جزاء لكسب يكتسب ، فمن له الامتحان بأنواع المحن على غير جعلها جزاء لشيء - كان له الامتحان بأن يجعل ما يساوي ألوفاً جزاء فلس أو حبة ، وبالله العصمة والنجاة . والثاني : أن ليس القطع في السرقة جزاء ما أخذ من المال ؛ ولكنه جزاء ما هتك من الحرمة ؛ ألا ترى أنه قال : { جَزَآءً بِمَا كَسَبَا } ، ولم يقل : جزاء بما أخذا من الأموال ؟ ! فيجوز أن يبلغ جزاء تلك الحرمة قطع اليد ، وإن قصر علم البشر عن ذلك ؛ لأن مقادير العقوبات إنما يعرف من يعرف مقادير الإجرام ، وليس أحد من الخلائق يحتمل علمه مبلغ مقادير الإجرام ، فإذا لم يحتمل علمهم مبلغ مقاديرها لم يحتمل معرفة مقادير عقوباتها ، فإذا كان كذلك فحق القول فيه الاتباع والتسليم - بعد العلم في الاتباع - أن الله لا يجزي بالسيئة إلا مثلها ، وبالله التوفيق . ثم الكلام في قطع اليمين ما روي في حرف ابن مسعود - رضي الله عنه - : " فاقطعوا أيمانهما " . وعن علي - رضي الله عنه - : قال : " إذا سرق الرجل قطعت يده اليمنى " ، وعلى ذلك اتفاق الأمة . ثم المسألة في مقدار السرقة ، وليس في الآية ذكر مقدارها ، واختلف أهل العلم في ذلك : فقال بعضهم : تقطع في ربع دينار فصاعداً . وقال أصحابنا : لا تقطع اليد إلا في عشرة دراهم فصاعداً أو دينار . وقد روي من الأخبار ما احتج به كل فريق منهم : روي عن عائشة - رضي الله عنها - أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقطع في ربع دينار فصاعداً . وعنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ فِي رُبُعِ دِينَارٍ فَصَاعِداً " . وعروة بن الزبير يقول : كانت عائشة - رضي الله عنها - تحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لاَ تُقْطَعُ اليَدُ إِلاَّ فِي المِجَنِّ أَوْ فِي ثَمَنِهِ " وتزعم أن قيمة المجن أربعة دراهم ؛ فدل قول عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يقطع اليد إلا في ثمن المجن - أن قولها : " إن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يقطع اليد إلا في ربع دينار " أن ثم المجن كان عندها ربع دينار أو لا يكون كذلك ؛ وعلى ذلك ما روي عن ابن عمر - رضي الله عنهما - : " أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع في مجن قيمته ثلاثة دراهم " في الخبر أنه قطع في مجن ، وأما التقويم فإنما هو من عند عبد الله . وعن أنس بن مالك - رضي الله عنهما - أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع في مجن ، فقيل : يا أبا حمزة ، كم كانت قيمته ؟ قال : دون خمسة دراهم ؛ هذا يدل على أن التقويم كان من أنس ، فكان ذلك كتقويم ابن عمر وعائشة ، رضي الله عنهم . وليس في التقويم حجة في واحد من المقومين ؛ لمخالفة كل واحد منهم صاحبه ، وإنما قوموه من قِبَلِ أنفسهم . فأما إن كان في مِجَنَّيْنِ مختلفين : فهو على التناسخ ، وأما إن كان في مجن واحد في وقتين مختلفين : فإن كان في وقتين مختلفين ، لم يكن لمخالفنا فيه حجة ؛ لما يحتمل الزيادة والنقصان على اختلاف الأوقات ، وإن كان في مجنين مختلفين فهو على التناسخ فلم يظهر ؛ فلا يقدم على القطع بالشك . ثم الأخبار التي تمنع القطع بدون العشرة : ما روي عن عمرو بن شعيب قال : " دخلت على سعيد بن المسيب ، فقلت له : إن أصحابك : عروة ، ومحمد بن مسلم ، وفلان - رجل آخر - يقولون : ثمن المجن خمسة دراهم أو ثلاثة ؟ فقال : أما هذا فقد مضت السنة فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة دراهم . وعن ابن عباس - رضي الله عنه - قال : ثمن المجن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة دراهم . وعن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أنه كان لا يقطع اليد إلا في ثمن المجن ، وهو يومئذ يساوي عشرة دراهم " . فلما اختلف المقومون في قيمة المجن رجعنا إلى ما روي عن سعيد بن المسيب ؛ حيث قال : " مضت السنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعشرة دراهم " وإن كان مرسلاً ؛ إذ لا معارض له ، ويؤيد هذا ما روي عن نجباء الصحابة من نحو : عمر ، وعثمان ، وعلي ، وعبد الله بن مسعود ، رضي الله عنهم . وروي أن عمر أتى بسارق فأمر بقطعه ؛ قال عثمان - رضي الله عنه - : " سرقته لا تساوي عشرة دراهم " ؛ فأمر بها فقومت ثمانية دراهم ، فلم يقطعه . وعن ابن مسعود قال : " لا تقطع يد السارق في أقل من عشرة دراهم " . وعن علي - رضي الله عنه - قال : " لا تقطع اليد إلا في دينار أو عشرة دراهم " . وروي عن عائشة قالت : " لم تكن اليد تقطع على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشيء التافه " ، فأخذ أصحابنا - رحمهم الله - بهذه الأخبار ولم يروا قطع اليد بدون العشرة ؛ لأنهم مع اختلافهم اتفقوا على أن اليد تقطع في سرقة عشرة دراهم ، واختلفوا في وجوب القطع فيما دون العشرة وهو حد قد روي ؛ للإشكال ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ ٱللَّهِ … } [ الآية ] : يحتمل قوله : { نَكَالاً مِّنَ ٱللَّهِ } ، أي عظة وزجراً من الله لغيره ؛ لأن من عاين آخر قطعت يده في سرقة - اتعظ به ، وزجره ذلك على الإقدام عليه ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ … } الآية . يحتمل : { تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ } أي : تاب عن الشرك ، وأصلح ما كان يفسده ويرتكبه في حال شركه . { فَإِنَّ ٱللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } . وعد له المغفرة والرحمة ؛ إذا تاب عن الشرك ، وأصلح ما كان يفسده ويرتكبه في حال الشرك ، حتى لم يؤاخذ بشيء مما كان يرتكبه في حال الشرك ويتعاطاه إذا أسلم ؛ ألا ترى أنه قال - تعالى - : { إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ } [ الأنفال : 38 ] ، والمسلم في حال الإسلام إذا ارتكب حدوداً وتعاطاها ، ثم تاب - أخذ بها ؛ لوجهين : أحدهما : أن الكافر لو أُخِذَ بعدما أسلم بما كان ارتكب في حال الكفر وتعاطاه ؛ فذلك يمنعه عن الإسلام ويزجره ؛ فإذا كان كذلك فكان في إقامة ذلك والأخذ بها من الفساد أكثر من الصلاح . وأما المسلم إذا لم يؤخذ بما ارتكب وتعاطى بعد التوبة - يدخل في ذلك من الفساد ما يفحش ؛ وذلك أنه كلما أريد أن يقام عليه الحد تاب فسقط ذلك عنه ، ثم عاد ثانياً ، ثم ثالثاً … إلى ما لا يتناهى ، فعمل في الأرض بكل الفساد من غير أن لحقه ضرر ؛ لذلك أخذ به بعد التوبة ، والكافر لا ، والله أعلم . والثاني : أن الكافر ما يرتكب ويتعاطى في حال الكفر - إنما يرتكبه تديناً يدين به ؛ فإذا رجع عن ذلك الدين ودان بدين آخر ما يكون ذلك حراماً في دينه الذي تمسك به - ترك ما كان يرتكب في دينه الأول تديناً ؛ فيظهر ذلك منه ؛ فلم يقم عليه ؛ لما يظهر منه ترك ما تعاطى قبل ذلك . وأما المسلم : فليس يتعاطى ما يتعاطى تديناً يدين به ؛ ولكن يتعاطاه شهوة ، وذلك مما لا يظهر منه التوبة حقيقة ؛ لذلك اختلفا ، والله أعلم . وفيه دليل جواز تأخر البيان ؛ لأنه قال تعالى : { وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ فَٱقْطَعُوۤاْ أَيْدِيَهُمَا جَزَآءً } ، ولا يحتمل أن يبين له جميع شرائط السرقة التي يجب فيها القطع وقت قرع الخطاب السمع ؛ فدل أنه إنما يبين له على قدر الحاجة بعد السؤال والبحث عنها ، والله أعلم . وكأن جميع ما ذكر من العقوبات إنما نزل في أهل الكفر ؛ لأنهم هم الذين كانوا يتعاطون ذلك دون المسلمين ، وترك عامة العبادات في المسلمين ؛ لأنهم هم الذين يرغبون فيها : من ذلك قوله - تعالى - : { ٱلَّذِينَ يُحَارِبُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ … } الآية ، وما ذكر في ابني آدم . وقوله تعالى : { وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ فَٱقْطَعُوۤاْ أَيْدِيَهُمَا … } الآية : ذكر عن ابن عباس أنه قال : " نزلت في طعمة بن أبيرق ؛ سرق درع جاره ؛ فنزلت الآية " ، وعلى ذلك قال عامة أهل التأويل ، ثم صار ذلك الحكم في المسلمين إذا ارتكبوا تلك الأجرام ، وفيه دليل جواز القياس ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ ٱللَّهَ لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ } . ذكر هذا - والله أعلم - على أثر قوله : { وَٱلسَّارِقُ وَٱلسَّارِقَةُ فَٱقْطَعُوۤاْ أَيْدِيَهُمَا } ، وعلى أثر قوله : { ٱلَّذِينَ يُحَارِبُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ … } الآية - : أن له ملك السماوات والأرض ، وله أن يعذب من يشاء بعد التوبة وقبل التوبة ، ويغفر لمن يشاء ، ولا يعذب بعد التوبة ؛ وذلك أن المحارب إذا تاب قبل أن يقدر عليه لم يقم عليه الحد الذي وجب في حال المحاربة ، والسارق إذا تاب قبل أن يقدر عليه أخذ به . أخبر أن له أن يعذب من يشاء [ و ] يغفر لمن يشاء . وفي نقض على المعتزلة ؛ لأنهم يقولون : الصغيرة مغفورة ليس له أن يعذب عليها ، والكبيرة يخلد صاحبها في النار ليس له أن يعفو عنها . فلو كان على ما قالوا لذهب معنى التخيير بقوله - تعالى - : { يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ } إذا ما عفا : عفا ما عليه أن يعفو ، وكذلك ما عذب : عذب ما عليه أن يعذب ؛ فيذهب فائدة التخيير ، وقد أخبر أنه { يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ } .