Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 5, Ayat: 41-44)

Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله - عز وجل - : { يٰأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ ٱلَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي ٱلْكُفْرِ … } الآية . يحتمل وجوهاً : أحدها : ألا يحزنك كفر من كفر منهم . ليس على النهي عن ذلك ؛ ولكن ألا يحمل على نفسه بكفرهم ما يمنعه عن القيام بأمره ، كقوله : { فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ } [ فاطر : 8 ] ، وكقوله : { لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } [ الشعراء : 3 ] ، ونحو ذلك من الآيات مما يشتد به الحزن بكفرهم ؛ لشدة رغبته في إسلامهم . ويحتمل قوله - تعالى - : { لاَ يَحْزُنكَ ٱلَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي ٱلْكُفْرِ } ، أي : لا يحزنك تمرد هؤلاء وتكذيبهم إياك ؛ فإن الله ناصرك ومظفرك ويظفر لك عليهم . ويحتمل : لا يحزنك صنيع هؤلاء الكفرة وسوء عملهم ؛ فإنك لا تؤاخذ بصنيعهم ؛ كقوله : { فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمِّلْتُمْ } [ النور : 54 ] ، [ وكقوله - تعالى - : ] { لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا ٱهْتَدَيْتُمْ } [ المائدة : 105 ] . وفي قوله تعالى : { يٰأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ } دلالة تفضيل رسول الله صلى الله عليه وسلم على غيره من الأنبياء والرسل ؛ لأنه - عز وجل - في جميع ما خاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { يٰأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ } ، و { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ } ولم يُخَاطَبْ باسمه ، وسائر الأنبياء - عليهم السلام - إنما خاطبهم بأسمائهم : { يٰمُوسَىٰ } [ الأعراف : 144 ] ، و { يَٰإِبْرَٰهِيمُ } [ هود : 76 ] ، و { يٰنُوحُ } [ هود : 48 ] ، وجميع من خاطب منهم أو ذكر إنما ذُكِرَ بأسمائهم . وقوله - عز وجل - : { مِنَ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ } . قال : قالوا : { آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ } ، ولم يقل : آمنوا بأفواههم ؛ ليعلم أن القول به ليس هو من شرط الإيمان ؛ إنما الإيمان هو تصديق القلب ، لكن يعبر به اللسان عن قلبه ؛ ألا ترى أنه قال : { وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ } ، والإيمان : هو التصديق في اللغة ؛ لأن ضده التكذيب ؛ فيجب أن يكون ضد التكذيب : التصديق . والتصديق يكون بالقلب ؛ حيث قال - عز وجل - : { وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ } ، لكن اللسان يعبر عن ضميره ، فهو ترجمان القلب فيما بين الخلق ؛ فهذا يدل أيضاً على أن الإيمان ليس هو المعرفة ؛ لأن الإيمان لو كان معرفة لكان يجب أن يكون ضده جهلاً ؛ فلما كان ضدُّ الإيمان تكذيباً وجب أن يكون ضد التكذيب : التصديق ، والتصديق والإيمان في اللغة سواء ؛ ولأن المعرفة قد تقع في القلب على غير اكتساب فعل وإنما والتصديق لا يكون إلا باكتساب ترك مضادته وهو التكذيب ؛ لذلك قلنا : إن الإيمان ليس هو المعرفة ، ولكنه تصديق . ثم اختلف في هؤلاء : قال بعضهم : هم المنافقون الذين كانوا يظهرون الإيمان باللسان ، وقلوبهم كافرة . وقال آخرون : هم اليهود والمنافقون { ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ } ، وهو قول ابن عباس ، رضي الله عنه . { وَمِنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ } . هذا يدل أن قوله - تعالى - : { مِنَ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ } في المنافقين . وقوله - عز وجل - : { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ } . يحتمل : سماعون إلى النبي صلى الله عليه وسلم خبره ، { سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ } خبره بالكذب ، ومعناه - والله أعلم - : أنهم كانوا يستمعون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خبره ، وما يقول لهم ، ثم يأتون الذين لم يأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيخبرونهم خلاف خبره وغير ما سمعوا منه . وقيل : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : " إن في التوراة كذا من الأحكام والشرائع ؛ فإذا سمع هؤلاء منه ذلك أتوا أولئك الذين لم يأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقولون : إنه كاذب ، وليس في التوراة ما يقول هو ، ونحو ذا " . وقيل : إنهم كانوا طلائع الكفرة وعيوناً لهم ، فإذا أتى لهم منهم خبر يخبرون ضعفة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خلاف ما أتاهم ؛ نحو قولهم : { إِنَّ ٱلنَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَٱخْشَوْهُمْ } [ آل عمران : 173 ] ، كانوا يخشونهم ؛ لئلا يغزوهم ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { يُحَرِّفُونَ ٱلْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ } . يحتمل التحريف وجهين : يحتمل : تبديل الكتابة من الأصل ؛ كقوله - تعالى - : { فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ ٱلْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَـٰذَا مِنْ عِنْدِ ٱللَّهِ } [ البقرة : 79 ] ويحتمل تغيير المعنى في العبارة على غير تدبيل الكتاب ، يغيرون على السفلة ، والذين لا يعرفون غير ما فهموا منه . وقوله : { يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَـٰذَا } . يعنون بـ " هذا " : ما حرفوه وغيروه . { فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَٱحْذَرُواْ } . عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال : نزلت الآية في رجل وامرأة من اليهود زنيا ، وكان حكم الله في التوراة في الزنا : الرجم ، وكانوا يرجمون الوضيع منهم إذا زنا ، ولا يرجمون الشريف - وكانا في شرف وموضع ، وكانا قد أحصنا ، فكرهت اليهود رجمهما ، وفي كتابهم الرجم ، وكانوا أرادوا أن يرتفع الرجم من بينهم ، وأن يكون حدهم الجلد ؛ فذلك قوله - تعالى - : { إِنْ أُوتِيتُمْ هَـٰذَا } - يعنون : الجلد - { فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَٱحْذَرُواْ } ، فكتبوا بذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألوا عن ذلك ، فقالوا : " يا محمد ، أخبرنا عن الزاني والزانية إذا أحصنا : ما حَدُّهُمَا ؟ وهل تجد فيهما الرجم فيما أنزل الله - تعالى - عليك ؟ فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : " وَهَلْ تَرْضَوْنَ بِقَضَائِي فِي ذَلِكَ ؟ " قالوا : نعم ؛ فنزل جبريل - عليه السلام - بالرجم ، وقال له : إن أبوا أن يأخذوا به ، فاسألهم عن رجل منهم يقال له : " ابن صوريا " - وصفه له - فاجعله بينك وبينهم ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : " نَعَمْ ، أَجِدُ فِيمَا أَنْزلَ اللهُ عَلَيَّ : أَنَّ الزَّانِيَةَ وَالزَّانِي إِذَا أُحْصِنَا وَفَجَرَا ؛ فَإِنَّ عَلَيْهِمَا الرَّجْمَ " ، فنفروا عن ذلك ؛ فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أَتَعْرِفُونَ رَجُلاً شَابّاً صِفَتُهُ كَذَا ، يُقَالُ لَهُ : ابنُ صُوريا ؟ " قالوا : نعم ، قال : " فَأَيُّ رَجُلٍ هُوَ فِيكُمْ ؟ " قالوا : هو أعلم يهودي على وجه الأرض بما أنزل الله على موسى ، قال : " فَأَرْسِلُوا إِلَيْهِ " ففعلوا ؛ فأتاهم ابن صوريا ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أَنْتَ ابْنُ صُوريا ؟ " قال : نعم ، قال : [ " وَأَنْتَ أَعْلَمُ اليَهُودِ ؟ " ] ، قال : كذلك يزعمون ، قال : " اجْعَلُوهُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ " قالوا : نعم ، رضينا به إذا رضيت ، قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فَإِنِّي أَنْشُدُكَ باللهِ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى : هَلْ تَجِدُونَ فِي كِتَابِكُمُ الَّذِي أَتَاكُمْ بِهِ مُوسَى [ فِي التَّوْرَاةِ ] : الرَّجْمَ عَلَى مَنْ أُحْصِنَ ؟ " قال ابن صوريا : نعم والذي ذكرتني ، ولولا خشية أن تحرقني النار إن كذبت أو غيرت ما اعترفت لك " . ففي هذا وجوه من الدلائل : أحدها : أنه سألهم عما كتموا من الأحكام والحقوق التي بينهم وبين الله تعالى ؛ ليظهر خيانتهم وكذبهم فيما كتموا من نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وصفته ؛ ليعلموا أنه إنما عرف ذلك بالله ، وفيه إثبات رسالته . والثاني : أنهم طلبوا منه الرخصة والتخفيف في الحد ؛ لأنهم عرفوا أنه [ رسول الله صلى الله عليه وسلم ] ، لكنهم كابروا في الإنكار بعدما عرفوا أنه رسول الله حقّاً . وفيه دلالة جواز شهادة بعضهم على بعض ؛ لأنه قبل شهادة ابن صوريا عليهم حيث شهد بالرجم . وقال بعضهم : قوله : { يُحَرِّفُونَ ٱلْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَـٰذَا فَخُذُوهُ … } الآية : إنها نزلت في قتيل قتل عمداً بين قبيلتين : بني قريظة ، والنضير ، وكان القتيل من بني قريظة ، وكان بنو النضير إذا قتلوا من بني قريظة لم يعطوهم القود ، ولكن يعطونهم الدية ، [ وإذا ] قتل بنو قريظة من بني النظير لم يرضوا إلا بالقود ؛ يتعززون عليهم ، فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فأرادوا أن يرفعوا أمرهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ ليحكم بينهم ، فقال رجل من المنافقين : إن قتيلكم قتل عمداً ، وأنا أخشى عليكم القود ، فإن كان محمد أمركم بالدية وقبل منكم فأعطوه ، وإلا فكونوا على حذر ، فأخبر الله - عز وجل - نبيه صلى الله عليه وسلم بما قالوا ؛ فقال : { يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَـٰذَا فَخُذُوهُ } [ يعني : الدية ] ، { وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَٱحْذَرُواْ } . فلا ندري فيم كانت القصّة ، وفيه من الدلائل ما ذكرنا من إثبات الرسالة والنبوة ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ فِتْنَتَهُ } . قيل : من يرد الله عذابه وإهلاكه ؛ فلن يملك أحد دفع ذلك العذاب عنه . وقيل : الفتنة : المحنة ، أي : من يرد الله أن يمتحن بالرجم أو القتل ؛ فلن يملك له أحد دفع ذلك عنه . وقوله [ - عز وجل - : ] { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ لَمْ يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ } قالت المعتزلة : قوله : { لَمْ يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ } تأويله يحتمل وجهين : يحتمل : { لَمْ يُرِدِ ٱللَّهُ } . أي : لم يطهر الله قلوبهم . والثاني : { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ لَمْ يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ } بالشرك والكفر ، وذلك بعيد ؛ لأنه كيف يطهر بالكفر ، وبالكفر يتنجس ؟ ! . لكن الوجه عندنا في قوله - تعالى - : { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ لَمْ يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ } أي : لم يرد الله أن يطهر قلوبهم ؛ إذ علم منهم أنهم يختارون ما اختاروا ، ويريدون ما أرادوا ، فإنما أراد ما كان علم منهم أنهم يريدون ويختارون ؛ وكذلك قوله - تعالى - : { وَمَن يُرِدِ ٱللَّهُ فِتْنَتَهُ } يريد فتنة من علم أنه يريدها ويختارها ، فإنما يريد ما أراد هو ويختار . وظاهر الآية على المعتزلة ؛ لأنه قال : { لَمْ يُرِدِ ٱللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ } ، وهم يقولون : أراد أن يطهر قلوبهم . وذلك ظاهر الخلاف بَيِّنٌ ، وبالله العصمة . [ وقوله - عز وجل - : ] { لَهُمْ فِي ٱلدُّنْيَا خِزْيٌ } . الخزي في الدنيا يحتمل : القتل ، ويحتمل : العذاب والجزية { وَلَهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ } . وقوله - عز وجل - : { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ } . يحتمل وجهين : يحتمل : { سَمَّاعُونَ } ، أي : مستمعون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ ليعرفوا به فيكذبوا عليه . ويحتمل قوله : { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ } ، أي : قابلون لما ألقى إليهم من الكذب : كانوا يقبلون لما ألقى إليهم من الكذب ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ } . قال بعضهم : كل حرام هو سحت ، فإن كان السحت اسم كل حرام ، فذلك يعم جميع الكفرة أو أكثرهم . وقال آخرون : السحت : هو الرشوة في الحكم ، فإن كان السحت هذا فذلك يرجع إلى رؤسائهم الذين يحكمون فيما بينهم ، ويأخذون على ذلك رشوة . وقوله - عز وجل - : { فَإِن جَآءُوكَ فَٱحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ } . اختلف فيه . قال بعضهم : هو على التخيير إذا رفعوا إلى الإمام : إن شاء حكم بينهم ، وإن شاء أعرض ولم يحكم ، لكنه منسوخ بقوله تعالى : { وَأَنِ ٱحْكُم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ } [ المائدة : 49 ] ، أمر بالحكم بينهم إذا جاءوا ، ونهى أن يتبع أهواءهم ، وفي ترك الحكم بينهم اتباع هواهم ، وقال : { وَأَنِ ٱحْكُم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ وَٱحْذَرْهُمْ } [ المائدة : 49 ] . قالوا : هو منسوخ بهذه الآية ، وأمكن الجميع بينهما ، وهو أن قوله - تعالى - : { فَٱحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ } في قوم من أهل الحرب دخلوا دار الإسلام بأمان ، فرفعوا إلى الإمام أمرهم ؛ فالإمام بالخيار : إن شاء ردهم إلى مأمنهم ، أو نقض عليهم أمانهم ، ولم يحكم بينهم ، وإن شاء تركهم وحكم بينهم ؛ فذلك معنى التخيير ، والله أعلم . وأما قوله : { وَأَنِ ٱحْكُم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ وَٱحْذَرْهُمْ } [ المائدة : 49 ] : فذلك في أهل الذمة الراضين بحكمنا ، إذا رفعوا إلى الحاكم يجب أن يحكم بينهم ، ولا يرد عليهم ما طلبوا منه من إجراء الحكم عليهم ؛ [ لأنه ] ليس له فسخ ما أعطى لهم من العهود والمواثيق ، وهم قد رضوا بحكمنا ؛ لذلك لزم الحكم بينهم ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً } . يحتمل هذا وجهين : يحتمل : أن يقع الإعراض عنهم موقع الجفاء ، ويعدون ذلك جفاء ؛ فأمن - عز وجل - نبيه - عليه السلام - عن أن يلحقه ضرر منهم . ويحتمل قوله : { فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً } أي : ليس عليك من ضرر ما هم فيه ؛ فإنما ضرر ذلك عليهم ؛ وهو كقوله : { فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمِّلْتُمْ } [ النور : 54 ] وكقوله - تعالى - : { مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِّن شَيْءٍ … } الآية [ الأنعام : 52 ] . وقوله - عز وجل - : { وَإِنْ حَكَمْتَ فَٱحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِٱلْقِسْطِ } . أي : بالعدل ؛ كقوله - تعالى - : { كُونُواْ قَوَّٰمِينَ بِٱلْقِسْطِ شُهَدَآءَ للَّهِ } [ النساء : 135 ] وكقوله - تعالى - : { وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ ٱلنَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِٱلْعَدْلِ … } الآية [ النساء : 58 ] . { إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُقْسِطِينَ } . أي : العادلين في الحكم . وقوله - عز وجل - : { وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ ٱلتَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ ٱللَّهِ } . يُعَجِّبُ نبيه صلى الله عليه وسلم شدة سفههم وتعنتهم بتركهم الحكم بالذي صدقوا ، وطلب الحكم بما كذبوا ؛ لأنهم صدقوا التوراة وما فيها من الحكم ، وكذبوا ما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ، يقول - والله أعلم - : إنهم إذا لم يعملوا بالذي صدقوا ، كيف يعملون بالذي كذبوا ؟ ! وذلك تعجيب منه إياه شدة السفه والتعنت . وقوله - عز وجل - : { فِيهَا حُكْمُ ٱللَّهِ } ، أي : حكم الله الذي تنازعوا فيه وتشاجروا : رجماً [ كان ] أو قصاصاً أو ما كان ، والله أعلم . وقوله : { ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذٰلِكَ } . يحتمل وجهين : يحتمل : يتولون من بعد ما تحكم بينهم عما حكمت . ويحتمل : يتولون من بعد ما عرفوا من الحكم عليهم بما في التوراة . وقوله : { وَمَآ أُوْلَـٰئِكَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ } . أخبرهم أنهم ليسوا بمؤمنين ، ثم سماهم كافرين في آخر الآية ، بقوله : { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَافِرُونَ } لم يجعل درجة ثالثة ؛ فهذا ينقض قول من يجعل درجة ثالثة بين الإيمان والكفر ، وهو قول المعتزلة . وقوله : { إِنَّآ أَنزَلْنَا ٱلتَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ } . هدى من الضلالة ، ونور من العمى ، هدى لمن استهدى به ، ونور لمن استنار به من العمى . وقوله : { يَحْكُمُ بِهَا ٱلنَّبِيُّونَ ٱلَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ } . اختلف فيه : قال بعضهم : الآية على التقديم والتأخير : يقول : يحكم بها النبيون الربانيون والأحبار الذين أسلموا ، أو من الأحبار من قد أسلم . أخبر أن النبيين والأحبار الذين أسلموا يحكمون بما في التوراة { لِلَّذِينَ هَادُواْ } ، أي : على الذين هادوا ؛ { لِلَّذِينَ } بمعنى : على الذين ؛ وهذا جائز في اللغة ؛ كقوله : { وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا } [ الإسراء : 7 ] ، أي : فعليها . وقيل : { يَحْكُمُ بِهَا ٱلنَّبِيُّونَ ٱلَّذِينَ أَسْلَمُواْ } ، أي : أسلموا أمرهم وأنفسهم لله ، وخضعوا له ، حكموا بما فيها ، وإن خافوا على أنفسهم الهلاك { لِلَّذِينَ هَادُواْ } إن أطاعوا الله ، وقبلوا ما فيها من الحكم ؛ فعند ذلك يحكم لهم . وقوله : { بِمَا ٱسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ ٱللَّهِ } . هو طلب الحفظ ، أي : بما جعل إليهم الحفظ . { وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَآءَ } . أي : شهداء على ما في التوراة من الحكم . ويحتمل : شهداء على حكم رسول الله الذي حكم عليهم ، أنه كذلك في التوراة . وقوله - عز وجل - : { فَلاَ تَخْشَوُاْ ٱلنَّاسَ } فيما تحكم عليهم ، { وَٱخْشَوْنِ } . أمن رسوله صلى الله عليه وسلم شرهم ونكبتهم ، وأمر أن يخشوه ؛ يكفيه شرهم وأذاهم . ثم اختلف في الأحبار والربانيين : قال بعضهم : " الرَّبَّانِيُّون " : علماء اليهود ، " والأحبار " : علماء النصارى . وهما واحد سموا باسمين مختلفين . وقيل : قوله : { فَلاَ تَخْشَوُاْ ٱلنَّاسَ وَٱخْشَوْنِ } إنما خاطب علماءهم ، أي : لا [ تخشوا الناس ] أن تخبروهم بالحكم الذي في التوراة واخشون . { وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً } . لهم خرج الخطاب بهذا التأويل الثاني . { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَافِرُونَ } . هكذا من جحد الحكم بما أنزل الله ولم يره حقّاً فهو كافر . ذكر في القصَّة أن الآية نزلت في قتيل كان بين بني قريظة وبني النضير : أن بني النضير إذا قتلوا من بني قريظة لم يرضوا إلا بالقود ، والأخرى إذا قتلت أحداً منهم كانوا لم يعطوهم القود ، ولكن يعطوهم الدية ، فنزل : { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ ٱلنَّفْسَ بِٱلنَّفْسِ … } الآية .