Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 5, Ayat: 45-47)
Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله - عز وجل - : { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ ٱلنَّفْسَ بِٱلنَّفْسِ وَٱلْعَيْنَ بِٱلْعَيْنِ … } إلى آخرة . أخبر الله - عز وجل - أنه كان كتب على أهل التوراة : { ٱلنَّفْسَ بِٱلنَّفْسِ } ، وقد كتب علينا أيضاً - قتل النفس بالنفس بقوله - تعالى - : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِصَاصُ فِي ٱلْقَتْلَى } [ البقرة : 178 ] ؛ كأنه قال : كتب عليكم القصاص في النفس بالنفس ، كما كنت كتبت [ عليهم ] . وأما القصاص فيما دون النفس : فإنه لم يبين في الآية التي أخبر - عز وجل - أنه كتب علينا القصاص في النفس . ثم يحتمل أن يكون قوله : { وَٱلْعَيْنَ بِٱلْعَيْنِ وَٱلأَنْفَ بِٱلأَنْفِ … } إلى آخر ما ذكر وجهين : يحتمل : أن يكون إخباراً عما كان مكتوباً عليهم من القصاص فيما دون النفس : كالنفس ؛ ألا ترى أنه قد قرىء في بعض القراءات بالنصب ؛ نسقاً على الأول ؟ ! ويحتمل : على الابتداء على غير إخبار منه ، ولكن على الإيجاب ابتداء ؛ والذي يدل على ذلك قوله : { فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ } لا يحتمل أن يكون هذا في الخبر ؛ لأن ذلك ترغيب في العفو في الحادث من الوقت ؛ دل أنه ليس على الإخبار ، ولكن على الابتداء ؛ ألا ترى أكثر القراء قرءوا بالرفع غير قوله : { ٱلنَّفْسَ بِٱلنَّفْسِ } ، فإنه بالنصب ؟ ! . ثم ذكر { وَٱلْعَيْنَ بِٱلْعَيْنِ وَٱلأَنْفَ بِٱلأَنْفِ وَٱلأُذُنَ بِٱلأُذُنِ } ، ولم يذكر اليد والرجل ، وذلك يحتمل وجهين : أحدهما : لما يحتمل أن يكون القصاص في اليد ظاهراً ، فَيُسْتَدَلُّ بوجوبه فيما هو أخفي على وجوبه - فيما هو أظهر منه ؛ لأن المنتفع بالبصر والأنف والسمع ليس إلا صاحبه ، وقد يجوز أن ينتفع غيره بيد آخر وبرجله . والثاني : أن يكون وجوب القصاص في اليد في قوله : { وَٱلْجُرُوحَ قِصَاصٌ } . ثم تخصيص الأسنان بوجوب القصاص دون غيرها من العظام ؛ لأن الأسنان بادية ظاهرة ، يقع عليها البصر - يقدر على الاقتصاص [ فيها ] ، وأما غيرها من العظام : مما لا يقع عليها البصر ، ولا يقدر على الاقتصاص [ فيها ] إلا بعد كسر آخر وقطع لحم ؛ لذلك خصت الأسنان بالاقتصاص دون سائر العظام ، والله أعلم . ثم فيه دليل وجوب القصاص في العضو الذي لا منفعة فيه سوى البهاء - بذهاب البهاء ؛ لأنه ذكر الأنف والأذن ، وليس في الأنف والأذن إلا ذهاب البهاء ؛ فأوجب في ذهاب البهاء القصاص ؛ كما أوجب في ذهاب المنفعة ؛ وعلى هذا يخرج قولنا : وجوب الدية في ذهاب البهاء على الكمال ، كوجوبها في ذهاب المنفعة على الكمال . [ على أن ] أهل العلم مجمعون أن القصاص واجب بين الرجال الأحرار في " العين ، والأنف " " والأذن والسن " ، " والجروح " التي ليس فيها كسر عظم ؛ إذا جنى على شيء من ذلك عمدا بحديدة . وأما القصاص بين الرجال والنساء والعبيد والأحرار فيما دون النفس : فأهل العلم اختلفوا فيه ، وكان أصحابنا - رحمهم الله - لا يرون القصاص بينهم في ذلك ، ويرون القصاص في الأنفس ، [ فأهل العلم اختلفوا فيه ] ، ويفرقون بينهما ، والفرق بينهما : أن جماعة لو قتلوا رجلاً قتلوا به ، ولو قطع جماعة يد رجل لم تقطع أيديهم ؛ فالتفاضل في الأنفس غير معتبر به ، ويعتبر به فيما دون النفس ، وقد ذكرنا هذه المسألة فيما تقدم ذكراً كافياً . وقوله - عز وجل - : { فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ } . اختلف فيه : قال بعضهم : هو صاحب الدم كفارة لما كان ارتكب هو ، وعلى ذلك روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " مَنْ تَصَدَّقَ بِدَمٍ فَمَا دُونَهُ كَانَ لَهُ كَفَّارَةً مِنْ يَوْمِ وُلِدَ إِلَى يَوْمِ تَصَدَّقَ " . وقال بعضهم : قوله : { فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ } ، يعني : كفارة للقاتل إذا عفا الولي ، وهو قول ابن عباس ، رضي الله عنه . وعن مجاهد : هو كفارة للجارح ، وأجر المتصدق على الله . والأوّل كأنه أقرب وأشبه ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ } . هذا إذا ترك الحكم بما أنزل الله جحوداً منه ، فهو ما ذكر ، كافر . { وَقَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِم بِعَيسَى ٱبْنِ مَرْيَمَ } . قوله تعالى : { وَقَفَّيْنَا } : أي : أتبعنا على آثارهم ، وهو من القفا . وقوله : { آثَارِهِم } يحتمل وجهين : يحتمل : على آثار الرسل . ويحتمل : على آثار الذين أنزل فيهم التوراة . وقوله - عز وجل - : { مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ ٱلتَوْرَاةِ } . أخبر أنه كان مصدقاً ما بين يديه من التوراة ؛ فهذا يدل أن الأنبياء - صلى الله عليهم وسلم - كان يصدق بعضهم بعضاً فيما أنزل عليهم من الكتب ، تأخر أو تقدم . وقوله - عز وجل - : { وَآتَيْنَاهُ ٱلإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ } . [ { هُدًى } ] : من الضلالة لمن تمسك به ، { وَنُورٌ } لمن عمي ولمن استناره . { وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ ٱلتَّوْرَاةِ } . فهذا يدل أن الكتب كانت مصدقة بعضها بعضاً على بُعد أوقات النزول [ مما ] يدل : أنه من عند واحد نزل ، جل الله عما يقول الظالمون علوّاً كبيراً . وقوله - عز وجل - : { وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ } . يحتمل : موعظة للمؤمنين ؛ لأن المؤمن هو الذي يتعظ به ، وأما غير المؤمن فلا يتعظ به . ويحتمل قوله : { وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ } : الذين اتقوا المعاصي كلها . وفي قوله : { فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ } ، وكذلك قوله - تعالى - : { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ } [ البقرة : 178 ] - دلالة أن القصاص للعبد خاصة ؛ حيث رغبه في العفو عنه والترك له ، ليس كالحدود التي هي لله تعالى ؛ لأنه لم يذكر في الحدود العفو ولا التصدق به ، وذكر في القصاص والجراحات ؛ دل أن ذلك للعبد : له تركه ، وسائر الحدود لله ليس لأحد إبطالها ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ ٱلإِنْجِيلِ بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فِيهِ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَاسِقُونَ } . ذكر في موضع : { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَافِرُونَ } ، وفي موضع : { ٱلظَّالِمُونَ } ، وفي موضع : { ٱلْفَاسِقُونَ } فأمكن أن يكون كله واحداً : أن من لم يحكم بما أنزل الله جحوداً منه له ، واستخفافا ؛ فهو كافر ، ظالم ، فاسق . ويحتمل أن يكون ما ذكر من الكفر بترك الحكم بما أنزل الله ؛ إذا ترك الحكم به جحوداً منه وإنكاراً ، وما ذكر من الظلم والفسق ذلك في المسلمين ؛ لأنه قال : { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ ٱلنَّفْسَ بِٱلنَّفْسِ وَٱلْعَيْنَ بِٱلْعَيْنِ وَٱلأَنْفَ بِٱلأَنْفِ … } إلى آخر ما ذكر ، ثم قال : { فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ } ، ثم قال : { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْكَافِرُونَ } تركوا الحكم بما أنزل الله ؛ اتباعاً لأهوائهم لا جحوداً ، فقد ظلموا أنفسهم ؛ لأن الظلم : هو وضع الشيء في غير موضعه ، والفسق : هو الخروج عن الأمر ؛ كقوله - تعالى - : { فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ } [ الكهف : 50 ] ، أي : خرج . ثم يجيء أن يكون هذا في حال الجهل به والعلم سواء ؛ لأنه إذا لم يحكم بما أنزل الله فقد وضع الشيء في غير موضعه ، وخرج عن أمر ربه ، لكن هذا في القول يقبح أن يقال : هو ظالم فاسق ، وهو ما يفعل ، إنما يفعل عن جهل به ، يجوز أن يقال : فعله فعل ظلم وفسق ، وأما في القول : فهو قبيح ؛ لما ذكرنا . { وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ ٱلإِنْجِيلِ بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ فِيهِ } : من الأحكام أي حكم كان ، فهو ما ذكرنا ، والله أعلم .