Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 5, Ayat: 4-5)

Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله - عز وجل - : { يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ } : ليس في السؤال بيان : مم كان سؤالهم ؟ ولكن في الجواب بيان المراد من سؤالهم ، فقال : { قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّيِّبَاتُ } ؛ دل قوله - تعالى - : { أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّيِّبَاتُ } : [ أن سؤالهم كان عن الطيبات ، مما يصطاد من الجوارح . ثم اختلف في قوله - تعالى - : { أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّيِّبَاتُ } ] : قال بعضهم : { ٱلطَّيِّبَاتُ } : هو المحللات ، لكنه بعيد ؛ لأنه كأنه قال : " أحل لكم المحللات " ؛ على هذا التأويل . لكنه يحتمل وجهين غير هذا : أحدهما : أن أحل لكم بأسباب تطيب بها أنفسكم من نحو : الذبح ، والطبخ ، والخبز ، وغيره . لم يحل لكم ما يكره به أنفسكم التناول منه [ غير مطبوخ ، ولا مذبوح ، ولا مشوي ، ولكن أحل لكم بأسباب طابت بها أنفسكم التناول منه ، ] والله أعلم . ويحتمل وجهاً آخر : وهو أن أحل لكم ما يستطيب به طباعكم لا ما تنكره طباعكم وتنفر عنه ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ ٱلْجَوَارِحِ } : كأنهم سألوا [ رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ] ، عما يحل من الجوارح ؟ فذكر ذلك لهم ، مع ما ذكر في بعض القصة : أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر بقتل الكلاب ، فأتاه أناس ، فقالوا : ماذا يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها ؟ فنزل قوله تعالى : { يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ … } الآية . وقيل : سميت : جوارح ؛ لما يكتسب بها ، والجوارح : هن الكواسب ؛ قال الله - تعالى - : " أَمْ حَسِبَ ٱلَّذِينَ ٱجْتَرَحُواْ ٱلسَّيِّئَاتِ " [ الجاثية : 21 ] ، قيل : اكتسبوا ، وجرح : كسب . وقال أبو عبيد : سميت : جوارح ؛ لأنها صوائد ، وهو ما ذكرنا من الكسب ، يقال : فلان جارح أهله ، أي : كاسبهم . وقال غيره : سميت : جوراح ؛ لأنها تجرح ، وهو من الجراحة ، فإذا لم يَجْرح ، لم يحل صيده . واحتج محمد - رحمه الله - بهذا المعنى في صيد الكلب إذا قَتَلَ ، ولم [ يَجْرَح في مسألة ] من كتاب الزيادات ، ومما يدل على صحة ذلك ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عدي بن حاتم - رضي الله عنه - قال : " سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المعراض ؟ فقال : " مَا أصَبْتَ بَعَرْضِهِ فَلاَ تَأْكُلْ ؛ فَهُوَ وَقِيذٌ ، وَمَا أَصَبْتَ بِحَدّهِ فَكُلْ " " . وقوله - عز وجل - : { مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ ٱللَّهُ … } الآية . قال بعضهم : { مُكَلِّبِينَ } هن الكلاب يكالبن الصيد . وقال القتبي : المكلبون : أصحاب الكلاب ، وكذلك قال الفراء والكسائي : المكلبون : هم أصحاب الكلاب . والمكلب : الكلب المعلم . وقوله - عز وجل - : { تُعَلِّمُونَهُنَّ } : قال الحسن [ وأبو بكر ] : تضرونهن ، يقال : كلب مضراة على طلب الصيد ، وهما يبيحان الصيد وإن أكل منه الكلب ؛ فعلى قولهما يصح تأويل الإضراء ؛ إذ يبيحان التناول ، وإن أكل منه . وقال : تؤدبونهن ؛ ليمسكوا الصيد لكم ، وهو عندنا على حقيقة التعليم ؛ تُعَلَّم ليمسكوا الصيد لهم . وقوله - عز وجل - : { مِمَّا عَلَّمَكُمُ ٱللَّهُ } يتوجه وجهين : أحدهما : { مِمَّا عَلَّمَكُمُ ٱللَّهُ } ، أي : مما جعل بينكم ، بحيث احتمال تعليم هؤلاء ، ولم يجعل غيركم من الخلائق محتملاً لذلك ولا أهلاً . ويحتمل قوله - تعالى - : { مِمَّا عَلَّمَكُمُ ٱللَّهُ } : أن قال لكم : علموهن بكذا ، وافعلوا كذا ، فكيفما كان ، ففيه دليلُ جَعْلِ العلم شرطاً فيه . ثم تخصيص الكلاب بالذكر دون غيرها من الأشياء ، وإن كانت الكلاب وغيرها سواء إذا عُلِّمَتْ ؛ لخبث الكلاب ومخالطتها الناس ، حتى جاء النهي عن اقتنائها ، وجاء الأمر بقتلها في وقت لم يجيء بمثله في سائر السباع ؛ ليعلم أن ما كسب هؤلاء مع خبثها إذا كن معلمين ، يحتمل التناول منه ، فغيرها مما لم يجيء فيه ذلك أحرى . وقوله - عز وجل - : { فَكُلُواْ مِمَّآ أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَٱذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ عَلَيْهِ } . إنما أباح أكل ما أمسك علينا ، ولم يبح مما أمسك على نفسه ؛ لأن الكلب وغيره من السباع من طباعهم إذا أخذوا الصيد يأخذون لأنفسهم ولا يصبرون على ألا يتناولوا منه ، فإذا أخذ الصيد ولم يتناول منه ؛ دل أنه إنما أمسك لصاحبه ، وإذا تناول منه لم يمسك لصاحبه ؛ لأن الباقي لا يدري أنه أمسكه لصاحبه أو أمسكه لنفسه لوقت آخر لما شبع ، وعلى ذلك جاءت الآثار . روي عن عدي بن حاتم قال : قلت : " يا رسول الله ، إنا قوم نَتَصَيَّدُ بهذه الكلاب والبزاة ، فهل يحل لنا منها ؟ فقال : " يَحِلُّ لَكُمْ { وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ ٱلْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ ٱللَّهُ فَكُلُواْ مِمَّآ أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ } مِمَّا عَلَّمْتُمْ مِنْ كَلْبٍ أَوْ بَازٍ ، فَذَكَرْتَ [ عَلَيْهِ اسْمَ اللهِ ] " ، قلت : وإن قتل ؟ قال : " إِذَا قَتَلَهُ وَلَمْ يَأْكُلْهُ ، فَإِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَيْكَ ، وَإِنْ أَكَلَ فَلاَ تَأْكُلْ ؛ فَإِنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ " ، فقلت : يا رسول الله ، أرأيت إن خالطت كلابنا كلاباً أخرى ؟ قال : " إِذَا خَالَطَ كَلْبُكَ كِلاَباً فَلاَ تَأْكُلْ ، فَإِنَّكَ إِنَّمَا ذَكَرْتَ اسْمَ اللهِ عَلَى كَلْبِكَ ، وَلَمْ تَذْكُرْهُ عَلَى كَلْبِ غَيْرِكَ " " . وعن ابن عباس - رضي الله عنه - أنه قال : إذا أكل الكلب من الصيد ، فليس بمعلم . وعنه - أيضاً - قال : إذا أكل الكلب من الصيد فلا تأكل ، وإذا أكل الصقر فكل ؛ لأن الكلب تستطيع أن تضربه والصقر لا . وعن علي - رضي الله عنه - قال : إذا أكل الكلب فلا تأكل واضربه . وقد ذكرنا من الأخبار ما يدل على أن الكلب إذا كان غير معلم لم يؤكل صيده ، من خبر عدي بن حاتم قال : قلت : " يا رسول الله ، إنا قوم نصيد بهذه الكلاب ؟ فقال : " إِذَا أَرْسَلْتَ كِلاَبِكَ المُعلَّمَةَ ، وَذَكَرْتَ اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا ، فَكُلْ مَمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكَ ، وَإِنْ قَتَلْنَ ، إِلاَّ أَنْ يَأْكُلَ الكَلْبُ ، فَإِنْ أَكَلَ فَلاَ تَأْكُلْ " ، وعلى هذا يخرج قولنا : إنه إذا أكل من دمه يؤكل ؛ لأنه لو أمسكه علينا كنا لا نأكله ، وذلك من غاية تعليمه ؛ لأنه تناول الخبيث ، وأمسك الطيب على صاحبه . ولو كان صيد الكلب إذا أكل منه حلالاً ، لكان المعلَّم وغير المعلَّم سواء ، وكان ما أمسك على نفسه وعلى صاحبه سواء ؛ لأن كل الكلاب تطلب الصيد إذا أرسلت عليه ، وتمسكه حتى يموت ، وتأكل منه إلا المعلم ، فما معنى تخصيص الله - تعالى - المعلم منها والممسك على صاحبه ، لو كان الأمر على ما قال مخالفنا . وقد روي عن أبي حنيفة - رضي الله عنه - أنه قال : إن عُلِّمَ الكلبُ حتى صار لا يأكل من صيد ، ثم أكل من صيد يصيد - لم يجز أن يؤكل من صيده الأول إذا كان باقياً . ومذهبه عندنا - والله أعلم - : أن صيد الكلب لا يؤكل حتى يكون معلماً ، وإن أمسك في أول ما يرسل فلم يأكل ، فإذا أمسك مراراً ثم أكل ، دَلَّنا أكله على إن إمساكه عن الأكل لم يكن لأنه معلم ؛ إذ قد يمسك غير المعلم للشبع ، ولو كان معلماً ما أكله ، فاستدل بأكله في الرابعة على أن إمساكه في الثالثة كان على غير حقيقة تعليم ، وهذا عندنا في صيد يقرب بعضه من بعض ، فأما إذا كثر إمساكه ، ثم ترك إرساله مدة ، يجوز أن ينسى فيها ما علم ، ثم أرسل فأكل - فليس فيها رواية عنه ، ويجوز أن يقال : يؤكل ما بقي من صيده الأول ، ويفرق بين المسألتين بأن الثاني قد نسي ، والأول يبعد من النسيان ؛ لتقارب ما بين الصيدين ؛ فلا وجه إلا أن يجعل غير مستحكم التعليم في الصيد المتقدم . وقد ذكرنا - فيما تقدم - : أن الصقر والبازي من الجوارح ، واستدللنا على ذلك بما أوضحناه ؛ فدل ذلك على أن صيد ما ليس بمعلم من الطير لا يؤكل إلا أن يدرك ذكاته . ثم يكون تعليم البازي والصقر بإجابته صاحبه ورجوعه إليه ، وتعليم الكلاب ترك الأكل منه ؛ لأن البازي ونحوه مستوحش عن الناس ينفر طبعه عنهم ؛ فدل إلفه الناس وإجابة أصحابهم على التعلم وإن أكل منه ، ولا يحتمل أن يكون بالتناول منه يخرج عن حد التعليم ؛ لأنه إنما يعلم بالأكل من الصيد ، وأما الكلب : فإنه يألف الناس ولا يستوحش ، ومن طبعه الأكل إذا أخذ الصيد ؛ فدل إمساكه عن التناول منه على أنه معلم . وقد روي عن علي - رضي الله عنه - وابن عباس ما يدل على تأييد ما ذكرنا ، قالا : إذا أكل الصقر فكل ، وإن أكل الكلب فلا تأكل . وعن سلمان كذلك . وقوله - عز وجل - : { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ } . يحتمل قوله : { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ } ؛ فلا تستحلوا ما لم يذكر اسم الله عليه ؛ فإنها ميتة . ويحتمل : اتقوا الله في ترك ما أمر ونهى كله . { إِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ } ، يحتمل السرعة : كناية عن الشدة . وقوله تعالى { سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ } : شديد العقاب . وقوله - عز وجل - : { ٱلْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّيِّبَاتُ } : يحتمل قوله : { ٱلْيَوْمَ } حرف افتتاح يفتتح به الكلام ، لا إشارة إلى وقت مخصوص ؛ على ما ذكرنا في قوله - تعالى - : { ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } ، وقد يُتَكَلَّم باليوم لا على إشارة وقت مشار إليه . وهو - والله أعلم - ما حرم عليهم من الثمانية الأزواج التي ذكر الله - تعالى - في سورة الأنعام ، وهو قوله : { ثَمَٰنِيَةَ أَزْوَٰجٍ مَّنَ ٱلضَّأْنِ ٱثْنَيْنِ … } [ الأنعام : 143 ] إلى آخر ما ذكر . ثم قال : { وَعَلَى ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ ٱلْبَقَرِ وَٱلْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَآ … } الآية [ الأنعام : 146 ] ، وما حرموا هم على أنفسهم من : البحيرة ، والسائبة ، والوصيلة ، والحام ، وغيرها من المحرمات التي كانت ، فأحل الله ذلك لهم ؛ فقال : { ٱلْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّيِّبَاتُ } ، وكانت محرمة عليهم قبل ذلك ، لكن أهل التأويل صرفوا الآية إلى الذبائح ، لم يصرفوا إلى ما ذكرنا ، وقد ذكرنا المعنى الذي به صارت الذبائح طيبات فيما تقدم . وقوله - عز وجل - : { وَطَعَامُ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ } : عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال : { وَطَعَامُ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ } ، أي : ذبائحهم حل لكم ، وذبائحكم حل لهم . إلى هذا حمل أهل التأويل ، فإن قيل : أليس جعل ذبائحنا محللة لهم وذبائحهم محللة لنا ، ثم تحل ذبائحنا لهم ولغيرهم ؟ كيف لا حل ذبائحهم وذبائح غيرهم ، وهو ذبائح المجوس ؟ قيل : حل الذبائح شرعي ، وليس للمجوس كتاب آمنوا به ؛ فتحل ذبائحهم ، وأما أهل الكتاب ، فإنهم آمنوا بما في الكتاب ، حله وحرمته ؛ لذلك افترقا ، والله أعلم . والآية على قول أصحاب العموم توجب حل جميع طعام أهل الكتاب لنا وحل جميع طعامنا لهم ؛ لأنه قال : { ٱلْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ } ؛ فعلى قولهم لكل واحد من الفريقين أن يتناول طعام الفريق الآخر ؛ دل على أن مخرج عموم اللفظ لا يوجب الحكم عامّاً للفظ ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَٱلْمُحْصَنَاتُ مِنَ ٱلْمُؤْمِنَاتِ وَٱلْمُحْصَنَاتُ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ } : اختلف فيه : قال بعضهم : { وَٱلْمُحْصَنَاتُ } أراد به الحرائر . وقال آخرون : أراد به العفائف منهن غير زانيات ؛ كقوله - تعالى - : { ٱلزَّانِي لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً } [ النور : 3 ] ، نهى عن نكاح الزانيات ، ورغب في نكاح العفائف ، وهذا أشبه من الأول ؛ لأنه قال في آخر الآية : { مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِيۤ أَخْدَانٍ } ؛ دل هذا على أنه أراد بالمحصنات : العفائف منهن لا الحرائر ، ودلت الآية على حل نكاح الحرائر من الكتابيات ، وعلى ذلك اتفاق أهل العلم ، لكن يكره ذلك . روي عن ابن عمر - رضي الله عنه - أنه كره تزوجهن ، فهذا عندنا على غير تحريم منه لتزويجهن ، ولكن رأى تزويج المسلمات أفضل وأحسن ؛ لمشاركتها المسلم في دينها . وروي عن عمر - رضي الله عنه - كراهة ذلك ؛ وذلك لأن حذيفة - رضي الله عنه - تزوج يهودية ؛ فكتب إليه عمر - رضي الله عنه - يأمره بطلاقها ، ويقول : " كفى بذلك فتنة للمسلمات " ، فهذا - أيضاً - [ لا ] على سبيل التحريم ، ولكن لما ذكر من الفتنة : فتنة المسلمات ، فأصحابنا - رحمهم الله - يكرهون أيضاً تزويج الكتابيات ولا يحرمونه . واختلف أهل العلم في تزويج إمائهن : فتأول قوم قول الله - تعالى - : { وَٱلْمُحْصَنَاتُ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ } على الحرائر ، وتأوله آخرون على العفائف . وقد ذكرنا أن صرف التأويل إلى العفائف أشبه ؛ بدلالة قوله : { مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ مُتَّخِذِيۤ أَخْدَانٍ } مع ما لو كانت المحصنات هاهنا هن الحرائر ، لم يكن فيه حظر نكاح إماء الكتابيات ؛ لأنه إباحة نكاح الحرائر من الكتابيات ، وليس في إباحة شيء في حال حظر غيره فيه ، وقد ذكرنا الوجه في ذلك فيما تقدم ، فالمجوسية ليست عندنا من أهل الكتاب ؛ والدليل على ذلك قول الله - تعالى - : { وَهَـٰذَا كِتَٰبٌ أَنزَلْنَـٰهُ مُبَارَكٌ فَٱتَّبِعُوهُ وَٱتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * أَن تَقُولُوۤاْ إِنَّمَآ أُنزِلَ ٱلْكِتَابُ عَلَىٰ طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا } [ الأنعام : 155 - 156 ] ، فأخبر الله - تعالى - أن أهل الكتاب طائفتان ؛ فلا يجوز أن يجعلوا ثلاث طوائف ، وذلك خلال ما دل عليه القرآن ؛ ألا ترى [ أنه لو قال رجل ] : " إنما لي عليك يا فلان ، درهمان " ، لم يكن له أن يدعي عليه أكثر من ذلك ، ولو قال : " إنما لقيت اليوم رجلين " ، وقد لقي ثلاثة ، كان كاذباً ؛ لأن قوله : [ " إنما لقيت رجلين " ] ، كقوله : لقيت اليوم رجلين ، ولا يجوز مثل هذا في أخبار الله ؛ لأنه الصادق في خبره عز وجل . فإن قيل : هذا شيء حكاه الله - عز وجل - عن المشركين ، وقد يجوز أن يكونوا غلطوا ، فحكي الله - تعالى - عنهم ما قالوا . قيل له : لم يحك الله - تعالى - هذا القول عن المشركين ، ولكن قطع بالقرآن عذرهم ، فقال : { أُنزِلَ ٱلْكِتَابُ } [ الأنعام : 156 ] ؛ لئلا يقولوا : { إِنَّمَآ أُنزِلَ ٱلْكِتَابُ عَلَىٰ طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ } [ الأنعام : 156 ] ، فهذا كلام الله واحتجاجه على المشركين ، وليس بحكاية عنهم . ومن الدليل على أن المجوس ليسوا من أهل الكتاب ما قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وهو في مجلس بين القبر والمنبر : ما أدري كيف أصنع بالمجوس ، وليسوا بأهل الكتاب ؟ " ، فقال عبد الرحمن بن عوف : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " سُنُّوا بِالمَجُوسِ سُنَّةَ أَهْلِ الكِتَابِ " صرح عمر - رضي الله عنه - بأنهم ليسوا أهل الكتاب ، ولم ينكر عبد الرحمن ذلك عليه ، ولا أحد من الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين - فلو كانوا أهل الكتاب لقال : " هم أهل الكتاب " ، لم يقل : " سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الكِتَابِ " . وكذلك روي عن الحسن بن محمد ، [ أنه ] قال : " كتب رسول الله ، صلى الله عليه وسلم إلى مجوس هجر ، فقال : " أَدْعُوكُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهِ ، وَأَنِّي رَسُولُ الله فَإِنْ أَسْلَمْتُمْ فَلَكُمْ مَا لَنَا وَعَلَيْكُمْ مَا عَلَيْنَا ، وَمَنْ أَبَى فَعَلَيْهِ الْجِزيَةُ ، غَيْرَ آكِلِي ذَبَائِحِهِمِ ، وَلاَ نَاكِحِي نِسَائِهِم " " . [ و ] إلى هذا ذهب أصحابنا - رحمهم الله - في قولهم : إن المجوس ليسوا بأهل كتاب . [ وأما نصارى بني تغلب : فإن عليّاً - رضي الله عنه - قال : لا تحل ذبائح نصارى العرب ؛ فإنهم ليسوا بأهل كتاب ، وقرأ ] : { وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ ٱلْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ } [ البقرة : 78 ] . وقال ابن عباس - رضي الله عنه - تؤكل ، وقرأ : { وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ … } . والآية الأولى تدل على أنهم أهل كتاب ؛ لأن الله - عز وجل - قد جعلهم منهم بقوله : { وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ } [ البقرة : 78 ] ، فحكمهم حكمهم ؛ إذ أخبر الله - عز وجل - أنهم منهم . ومما يدل على ذلك - أيضاً - قول رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال : " لاَ يَخْتَلِجَنَّ فِي صَدْرِكَ طَعَامٌ ضَارَعت فِيهِ النَّصْرَانِيَّة " ؛ لأنه عم فيه النصارى ؛ فدخل فيه عربهم وعجمهم ؛ لأنهم دانوا بدينهم ، وكل من دان بدين قوم فهو منهم . ومن الدليل على أن العرب إذا دانوا بدين أهل الكتاب فهم من أهل الكتاب - : أن العجم لما أسلموا صار حكمهم حكم عرب أهل الإسلام ؛ فإن ارتد أحد منهم ، وسأل أن تؤخذ منه الجزية ؛ كما [ كانت ] تؤخذ في الابتداء من المجوس - لم يُجَبْ إلى ذلك ، وقيل له : إما أن تسلم ، وإما أن تقتل ، فهو بمنزلة عربي مسلم لو ارتد عن الإسلام ، فلما كان حكم العجمي إذا دان بدين النبي صلى الله عليه وسلم حكم العرب - وجب أن يكون حكم العربي إذا دان بدين العجم من أهل الكتاب أن يجعل حكمه حكمهم ، وبالله التوفيق . وقوله - عز وجل - : { وَٱلْمُحْصَنَاتُ مِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إِذَآ آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } : ذكر إيتاء أجورهن ، وقد يحللن لنا إذا لم نؤت أجورهن ؛ دل أن ذكر الحكم في حال لا يوجب حظره في حال أخرى ؛ فهو دليل لنا في جواز نكاح الإماء من أهل الكتاب ، وإن ذكر في الآية المحصنات . وقوله - عز وجل - : { وَمَن يَكْفُرْ بِٱلإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ … } الآية . أي : ومن يكفر بالذي عليه الإيمان به ، وهو المُؤْمَنُ به ، أي : الله ؛ لأنه لا يكفر بالإيمان ، ولكن يؤمن به ، وهو كقوله : { حَتَّىٰ يَأْتِيَكَ ٱلْيَقِينُ } [ الحجر : 99 ] ، أي : المُوقَنْ به ؛ فعلى ذلك الأول معناه : ومن يكفر بالذي عليه الإيمان به ، وهو المُؤْمَنُ به { فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي ٱلآخِرَةِ مِنَ ٱلْخَاسِرِينَ } ، وبالله العصمة والهداية .