Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 5, Ayat: 64-66)

Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله - عز وجل - : { وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ يَدُ ٱللَّهِ مَغْلُولَةٌ … } [ الآية ] . قال الحسن : [ قول اليهود ] : " يد الله مغلولة " ، أي : محبوسة ممنوعة عن تعذيبنا ؛ لقولهم : { نَحْنُ أَبْنَاءُ ٱللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ } [ المائدة : 18 ] . وقوله - عز وجل - : { غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ } . في الآخرة بالسلاسل إلى أعناقهم . وقوله - عز وجل - : { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ } . بالمغفرة والتعذيب ؛ يغفر لمن يشاء ، ويعذب من يشاء . قال ابن عباس - رضي الله عنه - : " قولهم : " يد الله مغلولة " : لا يعنون بذلك أن يده موثقة مغلولة حقيقة اليد والغل ؛ ولكن وصفوه بالبخل ، وقالوا : أمسك ما عنده ؛ بخلا منه ، تعالى الله عن ذلك . وقال آخرون : إن الله - تبارك وتعالى - قد كان بسط على اليهود الرزق ؛ فكانت من أخصب الناس وأكثرهم خيراً ، فلما عصوا الله في محمد صلى الله عليه وسلم ، وكفروا به ، وبدلوا نعمة الله كفراً بالنعمة - كف الله - تعالى - عنهم بعض الذي كان بسط عليهم من السعة في الرزق ؛ فعند ذلك قالوا : { يَدُ ٱللَّهِ مَغْلُولَةٌ } ، لم يقولوا : يده مغلولة إلى عنقه ، ولكن ممسكة عنهم الرزق ، فلا يبسط كما كان يبسط ؛ وهو كقوله : { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ ٱلْبَسْطِ } [ الإسراء : 29 ] : نهى عن البخل في الإنفاق ، لا أنه أراد حقيقة غل اليد إلى عنقه ؛ فعلى ذلك قولهم : { يَدُ ٱللَّهِ مَغْلُولَةٌ } : كناية عن البخل ووصف به ، لا حقيقة الغل ، وبالله العصمة . وتأويل قوله : { غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ } على هذا التأويل ، أي : أيديهم هي الممسكة عن الإنفاق ، وهم الموصوفون بالبخل والشح . { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ } ، أي : نعمه مبسوطة : يوسع على من يشاء ، ويقتر على من يشاء . وفي حرف ابن مسعود - رضي الله عنه - : بل يداه يبسطان . قال الفراء : يقال : وجه مبسوط ، ووجه بسط . ثم لا يحتمل أن يفهم من إضافة اليد إلى الله ما يفهم من الخلق ؛ لما وجد إضافة اليد إلى من لا يحتمل أن يكون له اليد ، من ذلك قوله - تعالى - : { لاَّ يَأْتِيهِ ٱلْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ } [ فصلت : 42 ] : لا يفهم من القرآن اليد كما يفهم من الخلق ؛ فعلى ذلك لا يجوز أن يفهم من إضافة اليد إلى الله - تعالى - كما يفهم من الخلق ؛ ألا ترى أنه قال : { ذٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ } [ الحج : 10 ] و { فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ } [ الشورى : 30 ] ، لم يفهم منه اليد نفسها ؛ وكذلك قوله : { ذٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ } [ آل عمران : 182 ] ، لكن أضيف ذلك إلى اليد ؛ لما باليد يقدم ويعطي ويكسب ؛ ألا ترى أنه قال - تعالى - : { لاَ تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ } [ الحجرات : 1 ] ، ومعلوم أنه لم يفهم من اليد : اليد نفسها ، ولكن أضيف ذلك إليها ؛ لما ذكرنا ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ } . قيل : عذبوا بما قالوا : { يَدُ ٱللَّهِ مَغْلُولَةٌ } ، واللعن - في اللغة - : هو الطرد ؛ كأنه قال : طردوا عن رحمة الله وأيسوا عنها حتى لا ينالوها أبداً بقولهم الذي قالوا . وقيل : فيه إخبار : أنهم يموتون على ذلك ، ولا يؤمنون ، فماتوا على ذلك ؛ فذلك دليل رسالته ، عليه الصلاة والسلام ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ } . قيل فيه بوجهين : قيل : يريد ما أنزل [ الله ] إليك من القرآن ، { كَثِيراً مِّنْهُم } ، يعني : اليهود { طُغْيَاناً وَكُفْراً } . وقيل : { وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ } : من البيان عما كتموا من نعته وصفته التي كانت في كتابهم ، وما حرفوا فيه وغيروه من الأحكام ؛ فذلك مما زادهم طغياناً وكفرا . قيل : { طُغْيَاناً } ، أي : تمادياً بالمعصية ، { وَكُفْراً } : بالقرآن . وقيل : الطغيان : هو العدوان ، وهو المجاوزة عن الحدِّ الذي حد . فإن قيل : ما معنى إضافة زيادة الطغيان إلى القرآن ، والقرآن لا يزيد طغياناً ولا كفراً ؟ : قيل : إضافة الأفعال إلى الأشياء تكون لوجوه ثلاثة : منها : ما يضاف لحقيقة الفعل بها . ومنها : ما يضاف للأحوال . ومنها : ما يضاف لمكان ما به يكون الفعل ، وهاهنا أضيف ذلك إلى القرآن ؛ لما كان فيهم من الطغيان والكفر لمكان ما أنزل إليهم بالكفر الذي كان فيهم ؛ وهو كقوله - تعالى - : { إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ ٱلنَّاسِ } [ إبراهيم : 36 ] : إنهن لا يضللن أحداً في الحقيقة ؛ ولكن لما صاروا بهن ضلالا أضيف إليهن ، وكقوله - عز وجل - : { وَغَرَّتْهُمُ ٱلْحَيَٰوةُ ٱلدُّنْيَا } [ الأنعام : 70 ] والحياة الدنيا لا تغر أحداً ؛ ولكن لما [ لو ] كانت لها حواس لكان ما أبدت من الزينة لغرت . وقوله : { وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ ٱلْعَدَاوَةَ وَٱلْبَغْضَآءَ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ } . اختلف فيه : قال بعضهم : { وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ } : بين اليهود والنصارى ، أي : لا يحب اليهودي نصرانيّاً ، ولا النصراني يهوديّاً . وقال آخرون : { بَيْنَهُمُ } ، أي : بين اليهود ؛ لأن اليهود على مذاهب مختلفة وأهواء مشتتة : منهم من يقول : عزير ابن الله ، ومنهم من يذهب مذهب التشبيه . هم على أهواء مختلفة ، فبينهم عداوة وبغضاء ، على ما ذكرنا الاختلاف الواقع بينهم . ثم معنى ما أضاف من إلقاء العداوة بينهم إلى نفسه لا يخلو : إما أن يكون له في نفس العداوة فعل ، أو أن يكون في سبب العداوة ، ولا يجوز أن يكون له في فعل العداوة صنع ؛ لأنه فعلهم ، ولا في سبب العداوة - أيضاً - لأن سببه الاختلاف ، والاختلاف فعلهم - أيضاً - فإذا بطل أن يكون له في واحد من هذين صنع ؛ دل أن له ذلك من الوجه الآخر ، وهو أن خلق فعل العداوة وسبب العداوة منهم ، وبالله التوفيق والعصمة . فإن قيل : ذكر هاهنا أنه تعالى ألقى بينهم العداوة والبغضاء ، وذكر في آية أخرى أن بعضهم أولياء بعض بقوله - تعالى - : { لاَ تَتَّخِذُواْ ٱلْيَهُودَ وَٱلنَّصَارَىٰ أَوْلِيَآءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ } [ المائدة : 51 ] كيف يجمع بينهما ؟ ! : قيل : { بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ } في أصل الدين وهو الكفر ، وبينهم عداوة ؛ لاختلاف الأهواء والمذاهب ، والله أعلم . وفي الآية دلالة الامتنان على رسول الله صلى الله عليه وسلم بما أخبر أنه ألقى بينهم العداوة والبغضاء ، ولو كانوا على مذهب واحد ، ولم يكن بينهم اختلاف وعداوة - لكان ذلك عليه أشد ، وفي المقام بينهم أصعب ، لكن مَنَّ عليه بالاختلاف فيما بينهم ؛ لما جعل الاختلاف والتنازع سبب الفشل ؛ كقوله - تعالى - : { وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ … } الآية [ الأنفال : 46 ] . وقوله - عز وجل - : { كُلَّمَآ أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا ٱللَّهُ } . يحتمل وجهين : يحتمل : كلما أرادوا مكر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأجمعوا أمرهم على قتله ، أطلع الله نبيه - عليه الصلاة والسلام - على ذلك ؛ حتى لم يقدروا على مكره . والثاني : كلما انتصبوا للحرب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم واجتمعوا عليه ، فرق الله شملهم ، وجعلهم بحيث لا يجتمعون على ذلك ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَيَسْعَوْنَ فِي ٱلأَرْضِ فَسَاداً } . يحتمل وجهين - أيضاً - : يحتمل : السعي بالفساد على حقيقة المشي على الأقدام ، وهو ما كانوا يسعون في نصب الحرب مع المؤمنين ، والاتصال بغيرهم من الكفرة ، والاستعانة بهم ؛ فذلك هو السعي في الأرض بالفساد . والثاني : ما كتموا من نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وصفته وحرفوا ما في كتبهم من أعلام نبوته وآيات رسالته ، ودعوا الناس إلى غير ما نزل فيه ؛ وذلك سعي في الأرض بالفساد ، وبالله التوفيق . وقوله - عز وجل - : { وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُفْسِدِينَ } . لأنه لا يحب الفساد ، ولا يرضى به . وقوله - عز وجل - : { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ ٱلْكِتَٰبِ ءَامَنُواْ وَٱتَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأَدْخَلْنَٰهُمْ جَنَّٰتِ ٱلنَّعِيمِ } . عامل الله - عز وجل - خلقه معاملة أكرم الأكرمين ؛ حيث وعد لهم المغفرة ، وتكفير ما ارتكبوا في حال الكفر ، وقولهم في الله من القبيح الوَخْش ؛ لو آمنوا واتقوا الذي قالوا في الله ؛ وهو كما قال الله : { إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ } [ الأنفال : 38 ] : وذلك - والله أعلم - أنه لما تاب ورجع عن صنيعه يرجع عن جميع ما كان منه ، ويندم على ذلك ، ويتمنى أن يكون ما كان منه في تلك الحال من الشر : خيراً ؛ فهو كقوله - تعالى - : { فَأُوْلَـٰئِكَ يُبَدِّلُ ٱللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ } [ الفرقان : 70 ] ؛ لأنهم يندمون على تلك السيئات التي كانت منهم ، ويتمنون أن يكون الذي كان منهم في تلك الحال خيراً لا شرّاً ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ ٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيهِمْ مِّن رَّبِّهِمْ } . يحتمل هذا وجهين : يحتمل : ولو أنهم عملوا بما في التوراة والإنجيل ، وبما أنزل إليهم من القرآن - لأكلوا من كذا مما ذكر . ويحتمل : { وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ ٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ } : على ما أنزل ، ورجعوا عما حرفوا فيها وغيروه وكتموه من نعت [ نبينا ] محمد صلى الله عليه وسلم وصفته ، وما فيها من الأحكام - لكان لهم ما ذكر ، والله أعلم . وذلك أنهم كانوا يخافون الضيق إذا أسلموا وهو - والله أعلم - قوله : { إِن نَّتَّبِعِ ٱلْهُدَىٰ مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَآ } [ القصص : 57 ] فأخبر الله - عز وجل - أنهم لو آمنوا واتقوا الشرك ، لوسع عليهم العيش . وقوله - عز وجل - : { لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم } . ليس على حقيقة الأكل ؛ ولكن يخرج على المبالغة في الوصف والذكر ؛ كما يقال : فلان من قرن رأسه إلى قدمه في نعمة : ليس على حقيقة ما وصف ؛ ولكن على المبالغة في الوصف بالسعة . ويحتمل : أن يكون على حقيقة الأكل : أما ما يخرج من تحت الأرجل : فهو ما يخرج من الأرض من المأكول والمشروب ، ومن فوقهم : من الثمار والفواكه يخرج من الأشجار . ويحتمل : ما ذكر { مِن فَوْقِهِمْ } : وهو الجبال ، و { وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم } : الأرض ، إخبار أن يكون لهم نزل الجبل والسهل جميعاً . وقيل : { لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ } ، أي : أرسل الله عليهم مدراراً ، { وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم } : تخرج الأرض بركتها ، وتنبت لهم الثمرة . وقال قتادة : لأعطتهم الأرض نباتها ، والسماء بركتها ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ } . قيل فيه بوجهين : قيل : { أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ } من أسلم منهم . وقيل : منهم أمة مقتصدة على كتاب الله لم يحرفوه ، ولا غيروه ، ولا كتموا شيئاً ، ولا سعوا في الأرض بالفساد على ما عمل أكثرهم من التحريف والتغيير ، والله أعلم .