Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 5, Ayat: 67-71)

Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله - عز وجل - : { يَـٰأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ } . هذا - والله أعلم - وذلك أن أهل الكفر كانوا على طبقات ثلاث : منهم من يقول : { لَن نُّؤْمِنَ بِهَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ وَلاَ بِٱلَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ } [ سبأ : 31 ] ، وقولهم : { لاَ تَسْمَعُواْ لِهَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ وَٱلْغَوْاْ فِيهِ } [ فصلت : 26 ] . ومنهم من كان يخوفه ويمكر به ، ليقتلوه ؛ كقوله : { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ … } الآية [ الأنفال : 30 ] . ومنهم من كان يعرض عليه النساء والأموال ؛ ليترك ذلك ، وألا يدعوهم إلى دينه الذي هو عليه . كانوا على الوجوه التي ذكرنا ؛ فأمر الله - عز وجل - أن يقوم على تبليغ رسالته ، وألا يمنعه ما يخشى من مكرهم وكيدهم على قتله ؛ لأن المرء قد يمتنع عن القيام بما عليه إذا خشي هلاكه أو لطلب مودة وصلة . أو يمتنع عن القيام بما عليه إذا كُذِّبَ في القول ، ولحقه أذى لذلك ؛ فأمر الله - عز وجل - نبيه بتبليغ ما أنزل إليه ، وإن خشي على نفسه الهلاك أو التكذيب في القول ، والأذى وترك طلب الموالاة ، أي : لا يمنعك شيء من ذلك عن تبليغ ما أنزل إليك . أو أن يكون الأمر بتبليغ الرسالة في حادث الوقت : أن بلغ ما أنزل إليك في حادث الوقت ؛ كما بلغت في الماضي من الوقت . أو أن يكون الأمر بتبليغ ما أنزل إليه أمراً بتبليغ البيان ، أي : بلغ ما أنزل إليك من البيان كما بلغت تنزيلا ؛ وهو كقوله - تعالى - : { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ } [ إبراهيم : 4 ] أخبر - عز وجل - أنه إنما أرسل الرسل على لسان قومهم ؛ ليبينوا لهم ؛ فعلى ذلك هذا ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ } . أي : وإن [ لم ] تبلغ ما أنزل إليك ؛ لما تخشى من الهلاك والمكر بك - كان كأن لم تبلغ الرسالة رأساً . لم يعذر نبيه صلى الله عليه وسلم في ترك تبليغ الرسالة إليهم ، وإن خاف على نفسه الهلاك ، ليس كمن أكره على الكفر أبيح له أن يتكلم بكلام الكفر ، بعد أن يكون قلبه مطمئنّاً بالإيمان إذا خاف الهلاك على نفسه . ولم يبح له ترك تبليغ الرسالة وإن خشي على نفسه الهلاك ؛ ذلك - والله أعلم - أن تبليغ الرسالة تعلق باللسان دون القلب ، والإيمان تعلقه بالقلب دون اللسان ؛ فإذا أكره على الكفر إبيح له التكلم به بعد أن يكون القلب على حاله مطمئناً بالإيمان . وأما الرسالة : فلا سبيل له أن يبلغها إلا باللسان ؛ لذلك لم يبح له تركها وإن خاف الهلاك ؛ وهذا يدل لقولنا في المكره بالطلاق والعتاق أنه إذا تكلم به عمل ؛ لتعلقهما باللسان دون القلب ؛ فالإكراه لا يمنع نفاذ ما تعلق باللسان دون القلب كالرسالة التي ذكرنا ، والله أعلم . ويحتمل قوله - تعالى - : { وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ } ، أي : لم تبلغ الرسالة في حادث الوقت كأن لم تبلغ فيما مضى . أو إن لم تبلغ البيان كما بلغت التنزيل فما بلغت الرسالة ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَٱللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ ٱلنَّاسِ } . فيه دليل إثبات رسالته - صلى الله عليه وسلم - لأنه - عز وجل - أخبر أنه عصمه من الناس ؛ فكان ما قال ؛ فدل أنه علم ذلك بالله ، وكذلك في قوله - تعالى - : { فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ } [ هود : 55 ] : كان يقول بين ظهراني الكفرة : كيدوني جميعاً ، ثم لم يلحقه من كيدهم شيء ؛ دل أنه كان ذلك بالله تعالى . وعن عائشة - رضي الله عنها - : " كان النبي صلى الله عليه وسلم ليحرس ، فلما نزل قوله - تعالى - : { وَٱللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ ٱلنَّاسِ } قال : " انْصَرِفُوا إِلَى مَنَازِلِكُمْ ؛ فَإِنَّ اللهَ عَصَمَنِي مِنَ النَّاسِ " ؛ فانصرفوا . ويحتمل قوله - تعالى - : { بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ } ، أي : بلغ ما أنزل إليك من الآيات والحجج والبراهين ، التي جعلها الله أعلاما لرسالتك ، وآثارا لنبوتك ؛ ليلزمهم الحجة بذلك ، والله أعلم . قوله تعالى : { قُلْ يَـٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَىٰ شَيْءٍ حَتَّىٰ تُقِيمُواْ ٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ مَّآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً فَلاَ تَأْسَ عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْكَافِرِينَ } . وقوله - عز وجل - : { قُلْ يَـٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَىٰ شَيْءٍ حَتَّىٰ تُقِيمُواْ ٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ } . لا يُبْتَدَأُ الكلام بمثل هذا إلا عن قول أو دعوى تسبق ، وليس في الآية بيان ما كان منهم ؛ فيشبه أن يكون الذي كان منهم ما ادَّعُوْا أنهم على دين الله وعلى ولايته ، أو ما قالوا : { نَحْنُ أَبْنَاءُ ٱللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ } [ المائدة : 18 ] ، أو ما قالوا : { لَن يَدْخُلَ ٱلْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَىٰ } [ البقرة : 111 ] ، أو نحو ذلك من أمانيهم ودعاويهم التي ادعوا لأنفسهم ؛ فقال لرسوله : قل لهم : { لَسْتُمْ عَلَىٰ شَيْءٍ حَتَّىٰ تُقِيمُواْ ٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ } . قال الحسن : قوله - تعالى - : { حَتَّىٰ تُقِيمُواْ ٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ } ، أي : حتى تقيموا ما قد حرفتم وغيرتم من التوراة والإنجيل وبدلتم ، وتثبتوا على ما أنزل وتؤمنوا به . وقال غيره : [ قوله - تعالى - ] : { حَتَّىٰ تُقِيمُواْ ٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ } بالشهادة والتصديق لما فيهما . وعن ابن عباس - رضي الله عنه - قال : { حَتَّىٰ تُقِيمُواْ ٱلتَّوْرَاةَ … } : حتى تعملوا بما في التوراة والإنجيل من صفة محمد ونعته ومبعثه ونبوته صلى الله عليه وسلم ، وتبينوه للناس ولا تكتموه . وهو وما ذكرنا واحد . { وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ } . من كتب أنبيائكم ، وحتى تقيموا - أيضاً - ما أنزل من الكتب : كتب الرسل أجمع ؛ لأن الإيمان ببعض الرسل وببعض الكتب ، والكفر ببعض - لا ينفع ؛ حتى يؤمن بالرسل كلهم وبالكتب جملة . وقوله - عز وجل - : { وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ مَّآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً } : قد ذكرنا هذا . وقال بعضهم : قوله : { وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ مَّآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ } : القرآن في أمر الرجم والقصاص { طُغْيَاناً وَكُفْراً } . وقال بعضهم : { لَسْتُمْ عَلَىٰ شَيْءٍ حَتَّىٰ تُقِيمُواْ ٱلتَّوْرَاةَ وَٱلإِنْجِيلَ } هو ما أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يبلغ ما أنزل عليه بقوله : { بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ } . وقوله - عز وجل - : { فَلاَ تَأْسَ عَلَى ٱلْقَوْمِ ٱلْكَافِرِينَ } : أي : لا تحزن على كفرهم ؛ كقوله - تعالى - : { لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } [ الشعراء : 3 ] ، ونحو قوله : { فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ } [ فاطر : 8 ] . وقوله : { إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ … ِ } الآية . قال ابن عباس : هم الذين آمنوا بألسنتهم ، ولم تؤمن قلوبهم . وقال بعضهم : هم الذين آمنوا ببعض الرسل لم يتسموا باليهودية ولا بالنصرانية . { وَٱلَّذِينَ هَادُواْ وَٱلصَّابِئُونَ وَٱلنَّصَارَىٰ } . قد ذكرنا فيما تقدم مَنْ هُمْ ؟ وقوله - عز وجل - : { مَنْ آمَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِر } . تأويل الآية - والله أعلم - : [ وإن اختلفت ] أديانهم ، وتفرقت مذاهبهم لو آمنوا بالله وما ذكر ، فلا خوف عليهم بما كان منهم في حال كفرهم ؛ كقوله - تعالى - : { إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ } [ الأنفال : 38 ] . { وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } : على فوت ما أعطاهم ، أي : لا يفوتهم ذلك ، والله أعلم . قوله تعالى : { لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَآءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَىٰ أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ } . وقوله - عز وجل - : { لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ } . قد أخذ الله - عز وجل - الميثاق على جميع البشر ، وخصهم به دون غيرهم من الخلائق ؛ لما رَكَّبَ فيهم ما يَعْرِفُ كُلٌّ به شهادة الخلقة على وحدانية ربه ؛ كقوله - سبحانه وتعالى - : { إِنَّا عَرَضْنَا ٱلأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَٱلْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا ٱلإِنْسَانُ } [ الأحزاب : 72 ] . ثم خص بني إسرائيل من البشر بفضل الميثاق ؛ لما أرسل إليهم الرسل منهم ، وهو قوله : { وَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمْ رُسُلاً } ، وكأنهم قد قبلوا تلك المواثيق ؛ كقوله - تعالى - { وَقَالَ ٱللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ ٱلصَّلاَةَ … } إلى آخره ؛ وكقوله - تعالى - : { وَأَوْفُواْ بِعَهْدِيۤ أُوفِ بِعَهْدِكُمْ } [ البقرة : 40 ] كان من الله لهم عهد [ ومنهم لله عهد ] ، فأخبر أنهم إذا أوفوا بعهده يوفي بعهدهم . وقوله - عز وجل - : { كُلَّمَا جَآءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَىٰ أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ } . في الآية دلالة أنهم كانوا يخالفون دين الرسل بأجمعهم ؛ لما أحدثوا من اتباع أهوائهم ، وأن الرسل - وإن اختلفت أوقات مجيئهم - فإنهم إنما يدعون بأجمعهم إلى دين واحد . وقوله - عز وجل - : { فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ } : منهم من كذب ، ومنهم من قتل ، لكن القتل إن كان فهو في الأنبياء غير الرسل ؛ لأنه - تعالى - قال : { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا } [ غافر : 51 ] أخبر أنه ينصر رسله ، وليس في القتل نصر . ويحتمل قوله : { وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ } ، أي : فريقاً قصدوا قصد قتلهم ، وقد ذكرنا هذا فيما تقدم . قوله تعالى : { وَحَسِبُوۤاْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُواْ وَصَمُّواْ ثُمَّ تَابَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ وَٱللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } . وقوله - عز وجل - : { وَحَسِبُوۤاْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ } : ولم يبين ما الفتنة التي حسبوا ألا تكون ، فأهل التأويل اختلفوا فيها : قال قائلون : الفتنة : المحنة التي فيها الشدة ، حسبوا ألا يأتيهم الرسل بامتحانهم على خلاف هواهم ، بل جاءتهم الرسل ؛ ليمتحنوا على خلاف ما أحدثوا من هوى أنفسهم . وقال بعضهم : قوله : { وَحَسِبُوۤاْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ } : أي : هلاك وعذاب بتكذيبهم الرسل ، وقصدهم قصد قتلهم . وقال ابن عباس - رضي الله عنه - : " ألا يكون شرك " . وقيل : { وَحَسِبُوۤاْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ } : أي : حسبوا ألا يبتلوا بتكذيبهم الرسل ، وبقتلهم الأنبياء بالبلاء والقحط ، فعموا عن الهدى ، فلم يبصروه ، وصموا عن الهدى فلم يسمعوه ؛ لما لم ينتفعوا به ، ثم تاب الله عليهم فرفع عنهم البلاء ، فلم يتوبوا بعد رفع البلاء . ويحتمل أن يكون قوله : { وَحَسِبُوۤاْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُواْ وَصَمُّواْ ثُمَّ تَابَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ } : ما ذكره في آية أخرى : وهو قوله : { وَقَضَيْنَآ إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي ٱلْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي ٱلأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً } [ الإسراء : 4 ] إلى قوله تعالى : { ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ ٱلْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ … } الآية [ الإسراء : 6 ] ؛ تابوا مرة ثم رجعوا ثم تابوا ؛ فذلك قوله : { فَعَمُواْ وَصَمُّواْ ثُمَّ تَابَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ … } الآية .