Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 5, Ayat: 94-95)
Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله - عز وجل - : { يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ ٱللَّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ ٱلصَّيْدِ } وليس فيه بيان أنه ابتلي بالأمر فيه أو بالنهي ، لكن بيانه في آية أخرى : أن الابتلاء إنما كان بالنهي عن الاصطياد بقوله : { وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَٱصْطَادُواْ } [ المائدة : 2 ] دل هذا على أن المحرم كان منهيّاً عن الاصطياد : [ بقوله : { وَإِذَا حَلَلْتُمْ } ] ، وأن الابتلاء الذي ذكر في الآية كان بالنهي عن الاصطياد ، والله أعلم . ثم اختلف في الآية : قال بعضهم : النهي بشيء من الصيد لأهل الحرم ؛ ألا ترى أنه روي في الخبر قال : " لاَ يُنَفَّرُ صَيْدُّهَا ، وَلا يُخْتَلى خَلاَهَا ، وَلاَ يُعْضَدُ شَجَرُهَا " فكان الابتلاء بالنهي عن الصيد لأهل الحرم ؛ لما أخبر أنه لا ينفر صيدها ، وأما المحرم فإنما نهي عن الاصطياد بقوله : { وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَٱصْطَادُواْ } [ المائدة : 2 ] وبقوله : { لاَ تَقْتُلُواْ ٱلصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } [ المائدة : 95 ] . وقال آخرون : الابتلاء بالنهي عن الاصطياد للمحرمين ، وفي قوله : { لاَ تَقْتُلُواْ ٱلصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } نهي عن قتله ، وهنالك نهي عن أخذه بقوله : { تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ } . وقوله - تعالى - : { بِشَيْءٍ مِّنَ ٱلصَّيْدِ } : أي : في بعض الصيد دون بعض ؛ لأن المحرم لم ينه عن أخذ صيد البحر وإنما نهي عن أخذ صيد البر بقوله : { أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ ٱلْبَحْرِ } [ المائدة : 96 ] [ وقال - تعالى - ] : { وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ ٱلْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً } فذلك معنى قوله : { بِشَيْءٍ مِّنَ ٱلصَّيْدِ } ، والله أعلم . ويحتمل على التقديم والتأخير ، كأنه قال : ليبلونكم الله بشيء تناله أيديكم ورماحكم من الصيد ، والله أعلم . ثم اختلف في قوله : { تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ } : قال بعضهم : ما تناله الأيدي هو البيض ؛ وعلى هذا يخرج قولنا : إن المحرم منهي عن أخذ البيض ، فإن أخذ بيضاً فإن عليه الجزاء ، والذي يدل على ذلك ما روى أبو هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فِي بَيْضِ النَّعَامِ صِيَامُ يَوْمٍ أَوْ إِطْعَامُ مِسْكِينٍ " . وعن كعب بن عجرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في بيض نعام أصابه محرم بثمنه . وعن ابن عباس - رضي الله عنه - عليه ثمنه أو قيمته . وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - مثله . وقال بعضهم : تناله أيديكم : هو صيد الصغار ، وهي الفراخ التي لا تطير فتؤخذ بالأيدي أخذا . وقوله - عز وجل - : { وَرِمَاحُكُمْ } قال بعضهم : ما رميت وطعنت . وقيل في قوله : { تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ } : ما يؤخذ بغير سلاح ، { وَرِمَاحُكُمْ } : ما يؤخذ بالسلاح من نحو : النبل ، والرماح ، وغيرهما من السلاح . ثم في الآية دلالة أن المحرم قد نهي عن أخذ الصيد ، وكذلك في قوله - تعالى - : { وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَٱصْطَادُواْ } [ المائدة : 2 ] والاصطياد : هو الأخذ لا القتل ، وإنما النهي عن القتل في قوله : { لاَ تَقْتُلُواْ ٱلصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } . وقوله - عز وجل - : { لِيَعْلَمَ ٱللَّهُ مَن يَخَافُهُ بِٱلْغَيْبِ } . ليعلم ما قد علم أنه يكون كائناً ، أو أن يقال : ليعلم ما قد علم غائباً عن الخلق شاهداً ؛ كقوله - تعالى - : { عَٰلِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ … } الآية [ الأنعام : 73 ] . وقوله - عز وجل - : { مَن يَخَافُهُ بِٱلْغَيْبِ } اختلف فيه : قال بعضهم : يخافه بالغيب : بغيب الناس ؛ أي : يخافه وإن لم يكن بحضرته أحد . وقال آخرون : يخاف العذاب بالأخبار وإن لم يشهد ويصدق ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ بَعْدَ ذٰلِكَ } . أي : من استحل قتل الصيد بعد ما ورد النهي والتحريم { فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } . والثاني : من اعتدى على الصيد بعد النهي على غير استحلال ، { فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } إن شاء عذب ، وإن شاء عفا ، وإذا عذب كان عذابه أليماً . وقوله - عز وجل - : { يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ ٱلصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } أي : وأنتم محرمون . الآية في ظاهرها عامة على قتل الصيد كله ، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص في أشياء أذن في قتلها فقال : " خَمْسٌ مِنَ الدَّوَابِّ لاَ جَنَاحَ عَلَى مَنْ قَتَلَهُنَّ وَهُوَ مُحْرِمٌ في الحرَمِ : الحِدَأَةُ ، والغُرَابُ ، والعَقْرَبُ ، والفَأْرَةُ ، وَالْكَلْبُ العَقُورُ " . وعن عائشة - رضي الله عنها - : قالت : " أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل خمس فواسق في الحل والحرم : الحدأة ، والغراب ، والفأرة ، والعقرب ، والكلب العقور " . وفي بعض [ النسخ و ] الأخبار : الذئب ؛ فيحتمل أن يكون الكلب العقور : الذئب . وروي عن أبي سعيد الخدري أن [ رسول الله ] صلى الله عليه وسلم سئل عما يقتل المحرم ؟ فقال : " الحَيَّةُ وَالْعَقْرَبُ ، والفُوَيْسِقَةُ . " [ وَيَرْمِي الغُرَابَ وَلا يَقْتُلُهُ ، ] والكُلْبُ العَقُورُ والسَّبُعُ العادِي " . والكلب العقور الذي أمر المحرم بقتله : ما قتل الناس وعدا عليهم ، مثل : الأسد ، والنمر ، والذئب ، وما كان من السباع لا يعدو ، مثل : الضبع ، والثعلب ، والهرة ، وما أشبههن من السباع فلا يقتلهن المحرم ، فإن هو قتل شيئاً منهن فداه ، وإن قتل شيئاً من الطير سوى ما ذكر في الخبر فعليه جزاؤه . وفي بعض الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " يَقْتُلُ المُحْرِمُ الفَأْرَةَ ؛ فإِنَّهَا تُوهِنُ السِّقَاء " . وقال بعض الناس : ما قتل المحرم من السباع التي لا يؤكل لحمها ؛ فلا فدية عليه ؛ فكان تاركاً لظاهر الآية ، وهو قوله - تعالى - : { لاَ تَقْتُلُواْ ٱلصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } . فإن احتج بحديث ابن عمر - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم رخص للمحرم في قتل خمس من الدواب ، وذلك ما لا يؤكل لحمه - قيل : أباح النبي صلى الله عليه وسلم قتل الخمس ؛ لعلةٍ : أنه لا يؤكل لحمها . فإن قال : نعم - قيل : ما الدليل على ذلك ؟ فإن قال : لأنها لا تؤكل ؛ فكل ما لا يؤكل من الصيد فقتله مباح ؛ فيقال له : قولك : " لا يؤكل " ليس بعلة ؛ لأن ذلك لا يزول ولا يتغير ، والعلة هي التي تحدث في وقت وتزول في وقت ، ولو كان قول القائل : " لا يؤكل " ، علةً فيما لا يؤكل - كان قوله : " يؤكل " ، علةً فيما يؤكل ، وكان الشيء علة لنفسه . وهذا بين الخطأ ، وإذا لم يكن تحريم أكل الخمسة التي أذن النبي صلى الله عليه وسلم في قتلها للمحرم علة في إطلاق قتلها ، ما كان القياس عليها على ما لا يحل أكله مخطئا ؛ لأن القياس إنما يكون على العلل ، وما لا علة فيه لا يجوز القياس عليه . وعندنا : أن هذه الخمسة المسماة تبتدىء المحرم وغيره بالأذى ، وإن لم يبتدئها المحرم ، وما سوى ذلك مما لا يؤكل لحمه - لا يكاد يبتدىء بالأذى حتى يبتدئها الإنسان ؛ فحينئذ تعرض له . وبيان ذلك : أن الحدأة ربما أغارت على اللحم تراه في يدي الرجل ، والغراب يسقط على وبر الدواب فيفسده ، والعرب تقصد من تلدغه ، وتتبع حسَّه ، والكلب العقور لا يكاد يهرب من الناس كما يهرب السباع سواه . فأما الضبع والخنزير والكلب والذئب وأشباهها فهي تهرب من بني آدم ، ولا تكاد تؤذيهم حتى يبدءوها بالأذى ؛ [ لذا ] جعلنا العلة فيما رخص النبي صلى الله عليه وسلم للمحرم في قتله : ما يعرف من قصدها لأذى المحرم وإن لم يؤذها المحرم ؛ إذا كان ذلك معروفاً فيها ، معلوماً أنه أكثر شأنها ؛ فلما لم يكن في سائر الطير المحرمة والسباع هذه العلة ، وكان المعروف فيها أنها لا تبتدىء بالأذى - لم يجز أن تشبه بالخمسة المسماة في الخبر ، فإذا ابتدأ منها مبتدىء المحرمَ بالأذى ؛ كان حينئذ مثل الخمسة ؛ فجاز له قتلها بغير فدية . وبعد : فإن الذي لا يؤكل لحمه يسمى : صيداً ، والصيادون يصيدونه ؛ فكان داخلا تحت عموم الخطاب ، ومخالفنا تارك لأصله في العموم ؛ لأنه خص الآية بغير دليل ، ومن أصله أن الآية على العموم ، [ و ] لا تخص إلا بالدليل ، وأصحابنا - رحمهم الله - يجعلون الصيد كله محظوراً أكل أو لم يؤكل إلا ما عدا منها ، فإن قتله قبل أن يعدو عليه لزمه الفداء ؛ ذهبوا في ذلك : إلى ما روي في الخبر : [ خبر ] أبي سعيد - رضي الله عنه - عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " يَقْتَلُ المُحْرِمُ كَذَا وَكَذا وَالسَّبُعَ العَادِي " ، فالعادي : ما يعدو على المحرم . وإلى ما روي عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وغيره ، مع ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جعل على المحرم قَتَلَ ضبعاً - جزاءه ، وكذلك روي عن عمر وابن عباس وابن عمر - رضي الله عنهم - وهي مما يؤكل . وعن جابر قال : سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الضبع ؛ فقال : " هُوَ صَيْدٌ ، وَفِيهِ كَبْشُ " وعن عمر - رضي الله عنه - كذلك ، وابن عباس وابن عمر - رضي الله عنهما - كذلك . وقوله - عز وجل - : { وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ ٱلنَّعَمِ } . اختلف في الآية في تأويلها على وجهين : أحدهما : من جعل الآية على ظاهرها ؛ فلم يوجب في الخطأ كفارة : عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال : إذا أصاب المحرم الصيد خطأ ؛ فليس عليه شيء . وكذلك روي عن عطاء وسالم والقاسم أنهم قالوا : لا شيء عليه ، مثل قول ابن عباس ، رضي الله عنه . والقول الثاني : ما قاله أكثر أهل التأويل : قالوا : قوله : { وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً } لقتله ، ناسياً لإحرامه ؛ فذلك الذي يحكم عليه ، وهو [ الخطأ ] المكفر . وإن قتله متعمداً لقتله ، ذاكراً لإحرامه - لم يحكم عليه . وكذلك روي عن الحسن أنه قال : متعمداً لصيده ، ناسياً لإحرامه ، وقال : { وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ ٱللَّهُ مِنْهُ } متعمدا للصيد ، وذاكراً لإحرامه ؛ فكأنهم ذهبوا إلى أن المحرم لا يقصد قصد الصيد وهو ذاكر لإحرامه . أحسنوا الظن به . وعندنا : أن الإحرام مما لا يجوز أن يخفى على المحرم ونساه ؛ لأن للإحرام أعلاما تذكره تلك الأعلام الحال التي هو فيها ، وعندنا : أن ما لا يجوز أن ينسى ويخفى على المرء لم يعذر صاحبه في نسيانه ، وعندنا : أن على قاتل الصيد الكفارة ، عمداً قتله أو خطأ ، وليس تخلو الآية من أن تكون أوجبت الكفارة على المتعمد للقتل [ الناسي لإحرامه ؛ كما قال الحسن ومجاهد ، أو تكون أوجبت الكفارة على المتعمد للقتل ] ذاكراً لإحرامه ؛ فإن كان وجب أن يكفر من قتله عامداً لقتله ، ناسيا لإحرامه - فإن الذي يقتله عامداً لقتله ذاكراً لإحرامه أولى بالكفارة ؛ لأن ذنبه أعظم ، وجرمه أكبر . فإن قيل : إنكم لا توجبون الكفارة على قاتل النفس عمداً ؛ فما منع أن يكون قتل الصيد مثل ذلك وإن كان حرمته أعظم كما ؟ ! قيل : إن قاتل النفس عمداً - وإن كنا لم نوجب عليه الكفارة - فقد أوجبنا عليه القصاص ، وهو أغلظ من الكفارة ، وقاتل الصيد عامداً لقتله ذاكراً لإحرامه ، لو أزلنا عنه الكفارة - فلا شيء عليه سواها ؛ لذلك اختلفا . ثم نقول : إنا عرفنا الحكم في قتل الصيد عمداً بالكتاب ، والحكمُ في قتل الصيد في الخطأ إنما يعرف بغيره ، وليس في ذكر الحكم وبيانه في حالٍ دليل نفيه في حال أخرى ؛ دلنا على هذا مسائل قد ذكرناها فيما تقدم في غير موضع كرهنا إعادتها في هذا الموضع . ثم تخصيص ذكر الكفارة في قتل العمد يحتمل وجوهاً : أحدها : أن الكفارة في قتل النفس إنما ذكرت في قتل الخطأ [ و ] لم تذكر في قتل العمد ؛ ليعلم : أنها إذا أوجبت في العمل فهي في الخطأ أوجب . والثاني : أن الكفارة إنما وجبت بجنايته على صيد آمن به في الحرم ، وكل ذي أمانة إذا أتلف الأمانة لزمه الغرم ، عمداً كان إتلافه أو خطأ ؛ فعلى ذلك هذا ، والله أعلم . والثالث : أن ذكر التخيير في حال الضرورة [ يخرج مخرج التوسيع والتخفيف على أهلها ، ولا يكون ذلك في غير حال الضرورة ] ؛ فدل ذكره في غير حال الضرورة على أن ذلك كالمذكور في حال الضرورة . وقوله - عز وجل - : { فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ ٱلنَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ } . اختلف أهل العلم فيما يجب من المثل : فقال : قوم : في الظبي شاة ، وفي النعامة : [ بدنة ] ، وفي الحمار [ الوحشي ] : بقرة ، وأشباه ذلك . وقال آخرون : المثل : قيمة الصيد ، يقومه عدلان فيوجبان قيمته دراهم ، فيشتري بتلك الدراهم شاة ، أو يجعله طعاماً ، فيتصدق به : على كل مسكين نصف صاع ، أو يصوم عن كل نصف صاع يوماً . وقال غيرهم : إن بلغ دما - ذبح شاة ، وإن لم يبلغ دماً : يتصدق به . وأما قولنا : إن المثل هو القيمة ، لا المثل في رأي العين : ذهبنا في ذلك إلى وجوه : أحدها : أن المحرم إذا أصاب صيداً في هذا الوقت - حكم بجزائه حكمان ؛ فلو كان مثلُ الظبي شاةً في كل الدهور والأوقات - كان في جعلنا ما تقدم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والسلف من الحكم في ذلك كافياً لا يحتاج إلى حكم غيرهم ؛ فدل إجماعهم على أن حكم الحكمين باق ، على أن المثل غير مؤقت ؛ بل هو مختلف على قدر الأزمنة والمواضع والأوقات ، وإذا جعلنا المثل قيمة كانت الحاجة إلى الحكمين قائمة ، وإذا جعلناه هدياً فالحاجة إليهما زائلة ؛ ولا يجوز أن يعطل أمر الحكمين وقد ذكره الله في كتابه . والثاني : ما أجمعوا عليه أن ما لا مثل له في الأنعام من الصيد إذا أصابه المحرم فعليه قيمته ؛ فإذا كان المثل في بعض الصيد قيمته ، فهو في كل الصيد قيمته ، وكذلك روي عن ابن عباس وغيره من السلف - رضي الله عنهم - أنهم قالوا ذلك . فإن قيل : ما لا مثل له من النعم لا يمكن قيمته أكثر من قيمته ، قيل له [ ترى ] ذلك مثلاً ؟ فإن قال : بلى ، قيل : فقد صارت القيمة مثلا في بعض الصيد ، فما منع أن تكون مثلا في كل الصيد ؟ فإن قال : المثل : هو الهدى فيما له مثل ، فأما ما لا مثل له من الهدى ، فليس الواجب فيه بمثل ، إنما ذلك قيمة ، ولم يجب ذلك بنص الكتاب ، وإنما وجب - ذلك بنص الكتاب - المثل من الهدى ، فأما ما لا مثل له : فإنما وجب قيمته بالإجماع ، قيل له : حدثنا عن قول الله - تعالى - : { لاَ تَقْتُلُواْ ٱلصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } ، هل دخل في عموم الآية الفرخ ونحوه ؛ فيكون منهيّاً عن قتله ؟ فإن قال : نعم ، قيل : فإذا دخل الفرخ في عموم النهي عن قتل الصيد فهو - أيضاً - داخل في عموم قوله : { وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً . … } الآية . فإن قال : لا يدخل الفرخ في عموم قوله - تعالى - : { لاَ تَقْتُلُواْ ٱلصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } قيل له : قد قال الله - تعالى - : { لَيَبْلُوَنَّكُمُ ٱللَّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ ٱلصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ } [ المائدة : 94 ] فروي أن ذلك في البيض والفراخ ، فإن لم يجعل الفراخ ولا شيئا منها داخلا في الآية ، فما معنى الآية ؟ ونحن لا ننال بأيدينا من الصيد إلا ضعافه وما يعجز عن الطيران والعدو منه ، فالآية توجب أن الصيد كله قد دخل في عمومها : ما قَلَّت قيمته ، وما كثرت ، وذلك يوجب أن يكون الواجب من قيمة الفرخ والعصفور مِثْلاً ، والله أعلم . ولأن النعامة لا مثل لها من النعم ، فمن أوجب فيها بدنة فقد أوجب فيها ما ليس بمثل لها ولا نظير ، ومن أوجب فيها قيمتها فقد أوجب مثلا لها ، فهو موافق للنص عندنا ، والله أعلم . وكذلك الموجب في الحمامة شاة لا تشبه الصيد المقتول في عينه ، ولا في صفته ، ولا في جنسه ، فهو غير موجب المثل ، بل الموجب فيها القيمة أقرب إلى إيجاب المثل فيها ، والله أعلم . فإن قيل : كيف يسمَّي قيمة الشيء : " مثلا " وليست من جنسه ، وإنما المثل ما كان من جنس الشيء ؟ قيل : قد ذكرنا أن قيمة ما لا مثل له من النعم تسمى : " مثلا " ، ولأن الله - تعالى - قال : { أَو عَدْلُ ذٰلِكَ صِيَاماً } ، وإذا جاز أن يسمى الصيام : " عدلا " للطعام ، جاز أن تسمى القيمة : " عدلا " للصيد ، وإنما صار الصيام عدلا للطعام بالتقويم والمثل ، والعدل في المعنى متقارب ، والله أعلم . ولأن الله - تعالى - : قال { يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ } ، ولو كان المراد من المثل : المنظور في رأي العين ، لم يكن لشرط ذوي عدل فيه معنى ؛ لأن المثل في رأي العين يعرفه كل أحد به بصر ، فيه أو لم يكن ؛ فدل ما شرط من نظر ذوي عدل [ على ] ما بطن فيه وخفي ، لا ما ظهر ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ } تأويله ما ذكرنا : ينظر إلى رجلين عدلين ، لهما بصر ومعرفة في ذلك ، فيقومانه ، ثم يشتري بها هدياً إن شاء ، فيهدي ، وإن لم يبلغ هدياً قومت الدراهم طعاماً ، فإن لم يجد ، صام مكان كل نصف صاع يوماً . وروي عن ابن عباس - رضي الله عنه - كذلك ، والحسن ، وإبراهيم ، والقاسم ، والسلف جملة . وعندنا : أنه مخير بين هذه الأشياء الثلاثة ، يفعل أي هذه الثلاثة شاء ؛ لأن الله - تعالى - : قال في المحصر : { وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّىٰ يَبْلُغَ ٱلْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ } [ البقرة : 196 ] ، ولا خلاف بينهم في أن لصاحب الفدية في حلق الرأس أن يفعل أي هذه الثلاثة شاء ، فالواجب أن يكون في جزاء الصيد مثله ؛ لأن الخطاب خرج على حرف التخيير ، وكل خطاب خرج على حرف التخيير ، وكان سبب وجوبه واحدا - فهو على التخيير ؛ نحو كفارة اليمين ، وما ذكرنا في دفع الأذى عن رأسه ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { هَدْياً بَالِغَ ٱلْكَعْبَةِ } شرط بلوغ الكعبة ، وهو لا يبلغ نفس الكعبة ؛ فدل أن المراد رجع إلى بلوغه قرب الكعبة ، وعلى هذا يخرج قولهم فيمن حلف ألا يمر على باب فلان ، فمر بقرب بابه - حنث ؛ استدلالا بقوله : { هَدْياً بَالِغَ ٱلْكَعْبَةِ } ، لم يرد به بلوغه عين الكعبة ، ولكن قربها أو مكانها ؛ فعلى ذلك هذا ، والله أعلم . وكان محمد بن الحسن يقول : يحكم عليه بمثله من النعم حيث كان . وأبو حنيفة - رضي الله عنه - يقول : يحكم عليه بقيمة الصيد في الموضع الذي أصابه فيه . واختلافهما في هذا يرجع إلى ما اختلفا فيه من المثل عينا أو قيمة . وقد روي عن عمر ، وعبد الرحمن - رضي الله عنهما - وغيرهما أنهم حكموا في الظبي شاة ، ولم يسألوا عن الموضع الذي أصيب فيه ؛ فدل تركهم السؤال عن ذلك [ على ] أن المواضع كلها كانت عندهم سواء ، وأنهم أجروه مجرى الكفارات دون القيم ؛ لأنهم لو أجروا ذلك مجرى ضمان القيم ، لسألوا عن أماكن الجنايات ؛ إذ كان الصيد يختلف قيمته ، ولا يستوي في ذلك الأماكن كلها ؛ فهذا يؤيد قول محمد ومن وافقه . وأما عند أبي حنيفة - رحمه الله - أن الملك للحرم في الصيد ، وكل من أتلف ملك آخر أو جنى على مال أحد ، إنما ينظر إلى قيمته في المكان الذي أتلفه ؛ فعلى ذلك النظر في الصيد إلى المكان الذي أصابه . ثم المسألة في جزاء الصيد أين يذبح ؟ عندهم جميعاً : لا يجوز أن يذبح إلا بمكة ؛ لأنه لو جاز أن يذبح في غير الحرم حيث شاء ، زالت فائدة قوله : { هَدْياً بَالِغَ ٱلْكَعْبَةِ } ، وليس في ذلك بينهم خلاف . وأما الإطعام والصيام : فإن الله - عز جل - لم يذكر فيهما موضعاً ، ولا جعل لهما مكاناً ؛ فله أن يطعم ، وأن يصوم حيث شاء . فإن قيل : إن الهدي يذبح في الحرم ؛ لمنفعة أهل الحرم به ، ويتصدق به عليهم ؛ فعلى ذلك الإطعام يجب أن يطعم أهل الحرم ؛ لأنه جعل لمنفعة لهم . قيل له : لا خلاف بينهم : أنه لو ذبح الهدي في غير الحرم وتصدق به على أهل الحرم ألا يجوز ؛ دل أنه لا لما ذكر ، ولكن الهدي لا تذبح إلا بمكة ؛ ألا ترى أن من قال الله - تعالى - : عليه أن يهدي ، ليس له أن يذبح إلا بمكة ، ولو قال : عليه الإطعام أو الصدقة ، له أن يتصدق حيث شاء ؛ دل أن الهدي مخصوص ذبحه بمكة ، لا يجوز في غيره ، وأما الصدقة فإنها تجوز في الأماكن كلها ؛ لذلك افترقا ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ } ، أي : لينال شدة أمره وألمه ؛ كما نال لذته . وقيل : جزاء ذنبه ، وهو الكفارة . وقوله - عز وجل - : { عَفَا ٱللَّهُ عَمَّا سَلَف } إذا تاب ورجع عما استحل من قتل الصيد ؛ وهو كقوله - تعالى - { إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ } [ الأنفال : 38 ] . وقوله - عز وجل - : { وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ ٱللَّهُ مِنْهُ } [ المائدة : 95 ] : أي : من عاد إلى استحلال الصيد في الحرم ينتقم الله منه في النار . ويحتمل : من عاد إلى قتل الصيد ينتقم الله منه بالكفارة . وقوله - عز جل - : { وَٱللَّهُ عَزِيزٌ ذُو ٱنْتِقَامٍ } ، أي : لا يعجزه شيء ، ويقال : عزيز ، أي : كل عز عند عزه ذل . وغنى ، أي : كل غنى غناه فقر ، والله أعلم .