Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 5, Ayat: 96-98)
Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله - عز وجل - : { أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ ٱلْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ ٱلْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً } . أخبر الله - تعالى - أن صيد البحر وطعامه حلال للمحرم ، ثم اختلف أهل التأويل في تأويله . قال بعضهم : " صيده : ما صيد ، وطعامه : ما قذف في البحر " ، كذلك روي عن عمر - رضي الله عنه - أنه قال : " صيده : ما صيد ، وطعامه : ما قذف " . وعن أبي بكر وابن عباس - رضي الله عنهما - قالا : " طعامه : ما قذف " . وقال بعضهم : صيده : ما أخذ طريّاً ، وطعامه : مليحة . وقوله - عز وجل - : { مَتَاعاً لَّكُمْ } : أي : منفعة لكم ، أي : للحاضر { وَلِلسَّيَّارَةِ } : أي : للمسافر . وعن بعضهم : صيده : ما صدت طريا ، وطعامه : ما تزودت في سفرك مليحا . ثم يجيء على قول أصحاب الظاهر : أن يكون كل صيد البحر وطعامه حلالا مباحاً بظاهر قوله : { أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ ٱلْبَحْرِ وَطَعَامُهُ … } الآية ، وكذلك ما روي عن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال : " الطَّهُورُ مَاؤُهُ ، الحِلُّ مَيْتَتُهُ " أنه لم يخص ميتة دون ميتة ، ولا طعاماً دون طعام ، غير أن المراد عندنا رجع إلى السمك خاصة ؛ لما روي عنه صلى الله عليه وسلم قال : " أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ ، أَمَّا المَيْتَتَانِ : فَالجَرَادُ والسَّمَكُ … " دل الخبر أن المراد من الآية والخبر رجع إلى السمك ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ ٱلْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً } عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال : مبهمة ، لا يحل لك أن تصيده ولا أن تأكله . وروي عن علي - رضي الله عنه - وهو محرم أنه دعي إلى طعام ، فقرب إليه يعاقيب وحجل ، فلما رأي ذلك علي قام ، وقام معه ناس ؛ فقيل لصاحب الطعام : ما قام هذا ومن معه إلا كراهية لطعامك ؛ فأرسل إليه ، فجاء ، فقال : ما كرهت من هذا ، ما أشرنا ، ولا أمرنا ولا صدنا . قال علي - رضي الله عنه - : " وحرم عليكم صيد البر ما دمتم حرماً " ثم انطلق . وعن عثمان - رضي الله عنه - مثله أو قريباً منه . وأما عندنا : فإنه يحل للمحرم أن يأكل لحم الصيد إذا لم يصده هو ولا صيد له ؛ لما روي عن أبي قتادة - رضي الله عنه - " أنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان ببعض الطريق بمكة تخلف مع أصحاب له محرمين ، وهو غير محرم ، فرأى حمار وحش ، فاستوى على فرسه ، فسأل أصحابه أن يناولوه سوطاً ، فأبوا ، فسألهم رمحه ، فأخذه ، ثم اشتد على الحمار فقتله ، فأكل منه بعض أصحابه ، وأبى بعضهم ، فلما أدركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوه عن ذلك ، فقال : " إِنَّمَا هِي طُعْمَةٌ أَطَعَمَكُمُوهَا اللهُ سُبْحَانَهُ " ، وقال : " هَلْ مَعَكُمْ مِنْ لَحْمِهِ شَيْءٌ " " . وفي خبر أخر عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنه - قال : عقر أبو قتادة حمار وحش ونحن محرمون وهو حلال ، فأكلنا منه ، ومعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم . وفي خبر آخر عن أبي قتادة - رضي الله عنه - قال : " إني أصبت حمار وحش ، فقلت : يا رسول الله ، إني أصبت حمار وحش وعندي منه ، فقال للقوم : " كُلُوا " ، وهم محرمون " . وفي بعض الأخبار عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم : " لَحْمُ صَيْدِ البَرِّ حَلاَلٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ؛ مَا لَمْ تَصِيدُوهُ أَوْ يُصَدْ لَكُمْ " ، رخص النبي صلى الله عليه وسلم في أكل لحم الصيد للمحرم إذا لم يَصِدْهُ ولم يُصَدْ له ، وبذلك أخذ أصحابنا . وفي الآية دليل لقولنا ، وهو قوله - تعالى - : { لاَ تَقْتُلُواْ ٱلصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } ، وقال : { وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ ٱلْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً } فمعناه - والله أعلم - : اصطياده ؛ ألا ترى أن صيد ما لا يؤكل لحمه محظور ؛ فدل ذلك على أن الآية نزلت في الاصطياد لا في أكل لحمه ؛ لأن لحم الصيد قد خرج من أن يصاد ؛ فالتحريم غير واقع عليه ، ليس كالبيض ؛ لأن البيض قد يصير صيداً ، واللحم ليس كذلك ، ولأن المحرم لو أتلف البيض غرم قيمته ، ولو أتلف لحم الصيد لم يضمن شيئاً ، فما لزمه الضمان منع عن أكله ، وما لم يلزمه لا ، ولأنه لو حرم على المحرم التناول من لحم صيد صاده حلال ، لوجب أن يحرم على أهل مكة التناول منه ؛ إذ هم أهل حرم الله ، وذلك بعيد ؛ فأخذ أصحابنا - رحمهم الله - بما روينا من الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث أبي قتادة وغيره ، وبما دل عليه ظاهر الكتاب ، وهو قول عمر وعثمان وغيرهما ، رضي الله عنهم . فإن قيل : روي عن ابن عباس - رضي الله عنه - عن زيد بن أرقم أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى المحرم عن لحم الصيد . وفي خبر آخر عن زيد بن أرقم - رضي الله عنه - قال : " أهدي لرسول الله صلى الله عليه وسلم عضواً من لحم صيد ، فرده ، وقال : " إِنَّا حُرُمٌ لاَ نَأْكُلُهُ " " . وروي في خبر آخر أنه " سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن محرم أتى بلحم صيد ؟ قال : " لاَ تَأْكُلْ مِنْهُ " لكن هذا الحديث يجوز أن يحمل على أن كان صيد بعد أن أحرم [ أو ] أن يكون صيد من أجله ، وإذا صيد من أجله لم يحل له أكله ؛ دليله من خبر عثمان - رضي الله عنه - : " ما أمرت بصيد ، ولا صيد من أجلي " ، وخبر جابر - رضي الله عنه - عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لَحْمُ صَيْدِ البَرِّ حَلاَلٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ مَا لَمْ تَصِيدُوهُ أَوْ يُصَدْ لَكُمْ " . ثم المسألة في معرفة صيد البر من البحر : قال بعضهم : ما كان يعيش في البر والبحر فلا تصيدوه ، وما كان حياته في الماء فذاك البحري . وقال آخرون : أكثر ما يكون [ في الماء حتى يفرخ ] . وقال غيرهم : صيد البر هو الذي إن أخذه الصائد حَيّاً فمات في يده لم يحل ، ولا يحل إذا أدرك زكاته إلا بتزكيته ، فكل ما كانت هذه صفته فهو [ صيد البر ] ، وإن كان [ قد ] يعيش في الماء . وما كان الصائد إذا أخذه حيّاً وهو يعيش في الماء فمات في يده أكله ، فذلك صيد البحر ، وذلك السمك . وفي ذلك وجه آخر : وهو أن كل ما ألقاه البحر وقذفه فمات فحل لنا أكله ، فذلك طعامه ، وإن لم يحل أكله فليس بطعامه ، فما كان طعامه وألقاه فمات فهو إذن صيد البحر ، وما لا يحل أكله إذا ألقاه ، فليس بصيد البحر إذا صيد ؛ لأن الله أباح صيد البحر وطعامه ، فما ليس بطعامه إذا ألقاه فمات فليس بصيد إذا أخذ حيّاً ، والله أعلم . وقوله - عز جل - : { وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ } في استحلال قتل الصيد في الحرم ، أو اتقوا الله في أخذ الصيد في حال الإحرام بعد النهي ، أو اتقوا الله في كل ما لا يحل { ٱلَّذِيۤ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } فتجزون بأعمالكم : إن خيراً فخير ، وإن شرّاً فشر . ويحتمل قوله : { إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } ، أي : إلى حكمه تصيرون ؛ كقوله - تعالى - : { لَهُ ٱلْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [ القصص : 88 ] ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { جَعَلَ ٱللَّهُ ٱلْكَعْبَةَ ٱلْبَيْتَ ٱلْحَرَامَ قِيَٰماً لِّلنَّاسِ … } الآية : اختلف فيه : قال بعضهم قوله - تعالى - : { قِيَٰماً لِّلنَّاسِ } ، أي ثباتا للناس ودواماً ؛ لأن الله - تعالى - جعلها موضعاً لإقامة العبادات ، من نحو : الحج ، والطواف ، والصلاة ، وإراقة الدماء ، والهدايا ، وغير ذلك من العبادات ، ثم إن تلك العبادات جعلها ثابتة دائمة لا تبدل ولا تنسخ أبداً ؛ فذلك معنى القيام للناس ، والله أعلم . وقال بعضهم : قياماً بمعنى : قواماً ، أي : جعلها قواماً لهم في معاشهم ومعادهم ؛ لأنه جعلها مأمناً لهم وملجأ ؛ حتى أن من ارتكب كبيرة أو جرم جريمة [ ثم لجأ إليه ] ، لم يتعرض له بشيء من ذلك ، ولا يتناول منه ، وكانوا إذا وجدوا هدياً مقلداً لم يتعرضوا له وإن كانت حاجتهم إليه شديدة ، ونحو هذا كثير مما يطول ذكره . وجعل فيها عبادات ومقصداً ما لم يجعل في غيرها من البقاع : من قضاء المناسك وغيرها ، وكذلك الشهر الحرام كان جعله مأمناً لهم إذا دخلوا فيه ، يأمنون من كل خوف كان بهم ، وجعل في الهدايا والقلائد منفعة لأهلها ؛ فكان في ذلك قواماً لهم في معاشهم ومعادهم . وعن سعيد بن جبير : { جَعَلَ ٱللَّهُ ٱلْكَعْبَةَ ٱلْبَيْتَ ٱلْحَرَامَ قِيَٰماً لِّلنَّاسِ } : شدة لدينهم . وقوله - عز وجل - : { ذٰلِكَ لِتَعْلَمُوۤاْ } ، أي : ذلك الأمن وما ذكرنا من جعل الكعبة قواماً لهم في معاشهم ومعادهم ؛ { لِتَعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ } ، أي : على علم جعل هكذا قبل أن يكون أنه يكون . وقال بعضهم : قوله : { ذٰلِكَ } ، أي : ما سبق ذكره من تحريف الكتب وتغييرها وتبديل نعته صلى الله عليه وسلم وصفته ، أي : على علم منه بالتحريف والتبديل خلقكم ، لا عن جهل ؛ ليمتحنكم ؛ لما لا يضره كفر كافر ، ولا ينفعه إيمان مؤمن ، بل حاصل ضرر الكفر يرجع إلى الكافر ، وحاصل نفع الإيمان يرجع إلى المؤمن . وقوله - عز جل - : { ٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ } ، أي : اعلموا أنه شديد العقاب لمن عصاه وخالف أمره ، على ما علمتم أنه عن علم منه كان جميع ما كان . { وَأَنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } واعلموا - أيضاً - أن الله غفور رحيم لمن تاب وأناب إليه ، وشديد العقاب ؛ لأن من العقوبات ما ليس بشديد ، وخاصة عقوبة الآخرة أنه يعاقب بالنار ، وما من عقوبة إلا وقد يحتمل شيء منها سوى عقوبة النار ؛ فإنه لا يحتملها أحد ، ولأن عقوبات الدنيا وعذابها على الانقضاء ، وعذاب الآخرة لا انقضاء له ولا فناء ؛ لذلك وصف بالشدة ، والله أعلم .