Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 50, Ayat: 19-35)
Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله - عز وجل - : { وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ } قال أبو عوسجة : { سَكْرَةُ الْمَوْتِ } أي : شدته . يخبر أن لا بد أن ينزل بالنفس عند الموت شدة ومشقة . ثم الآية تخرج على وجهين : أحدهما : أن تُجْرِى على ظاهرها في الماضي ؛ أعني : لفظة { جَاءَتْ } أي : جاءت سكرة الموت على الذين كانوا من قبلكم ، فوجدتهم غير متأهبين ولا مستعدين له ، والله أعلم . والثاني : أن يكون قوله : { وَجَاءَتْ } بمعنى تجيء ، وكذلك { وَجَآءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَآئِقٌ } وذلك جائز في اللغة . وقوله - عز وجل - : { بِالْحَقِّ } أي : من أهل الشقاوة أو من أهل السعادة ؛ يقول : عند ذلك يبين له ويظهر أنه من أهل السعادة أو من أهل الشقاوة ؟ أو من أهل الجنة أو من أهل النار ؟ وأصله عندنا : أن الحق هو ما وعد كل نفس من خير ، وما أوعد كل نفس من الشر ، إن كان مؤمناً وقد وعد له الجنة فيتحقق له ذلك ، وإن كان كافراً وقد أوعد له النار فيتحقق له ذلك . ويحتمل ما ذكر من الحق - هاهنا - هو الموت نفسه ؛ أخبر أنه لا بد من الموت ، وأنه كائن لا محالة ، وهو كقوله - تعالى - : { وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ ٱلْخُلْدَ } [ الأنبياء : 34 ] يقول : لم يخلق الخلق للخلود في الدنيا ، ولكن للآخرة ، فلا بد من الموت ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ } يحتمل وجهين : أي : أتاك ما كنت تكره مجيئه وتنكر ، ولم تؤمن به ، وهو البعث ويوم القيامة الذي ينكرونه ويكرهونه . والثاني : يحتمل الموت نفسه ؛ أي : أتاك ما كنت تكره وتفر منه ؛ إذ هم كانوا يكرهون الموت ويفرون منه ؛ كقوله - تعالى - : { قُلْ إِنَّ ٱلْمَوْتَ ٱلَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاَقِيكُمْ } [ الجمعة : 8 ] أي : يأتيكم من حيث لا مفر لكم عنده . ثم الحيد : الميل والكراهة . وقال أبو عوسجة : الحيد : الفرار ، يقال : حاد يحيد حيداً فهو حائد . وقوله - عز وجل - : { وَنُفِخَ فِي ٱلصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ ٱلْوَعِيدِ } . يحتمل أن يكون أراد النفخة الأولى ، وهي النفخة التي يفزع عندها أهل السماوات والأرض فيموتون . ويحتمل أن يريد النفخة الثانية التي عندها البعث وإدخال الأرواح في الأجساد . ويحتمل أن يريد عندما يوضع كل واحد في القبر ، وهو أن يسأل ، على ما جاءت الأخبار من سؤال منكر ونكير ، وذلك أيضاً هو يوم الوعيد في حق ذلك الرجل ، وهذا للكافر خاصة . وقوله - عز وجل - : { ذَلِكَ يَوْمُ ٱلْوَعِيدِ } أي : ذلك يوم وقوع الوعيد ؛ إذ يوم الوعيد الدنيا ، فأما القيامة فهو يوم وقوع الوعيد وتحققه ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَجَآءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَآئِقٌ وَشَهِيدٌ } . قال بعضهم : السائق : الذي يقبض روحه ، والشهيد : الذي يحفظ عمله . وقال بعضهم : السائق : هو الملك الذي يكتب عليه سيئاته ، والشهيد هو الذي يكتب حسناته . وقيل : السائق : هو النار التي تأتي تسوق الكفرة إلى المحشر ، والشهيد هو عمله الذي عمل في الدنيا . وقيل : السائق : الكاتب ، والشهيد : جوارحه بقوله تعالى : { يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ … } الآية [ النور : 24 ] . وأصله ما ذكر في قوله : { وَسِيقَ ٱلَّذِينَ كَـفَرُوۤاْ } [ الزمر : 71 ] ، { وَسِيقَ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ } [ الزمر : 73 ] ، ذكر السوق في الفريقين ، وذكر في الكفرة : { ٱحْشُرُواْ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ } [ الصافات : 22 ] ، وقال - عز وجل - : { وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَآءُ ٱللَّهِ إِلَى ٱلنَّارِ } [ فصلت : 19 ] ، فالسائق : هو ملك يسوق إلى ما أمر من الجنة أو النار ، والشهيد هم الملائكة الذين يكتبون علينا الأعمال ، فيشهدون في الآخرة : إن كان شرّاً فشرّ ، وإن كان خيراً فخير ، والله أعلم بحقيقة ما أراد ، وإن كان ما قالوا فمحتمل ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَـٰذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ فَبَصَرُكَ ٱلْيَوْمَ حَدِيدٌ } . يقول : لقد كنت في الدنيا في غفلة من هذا تعاين وتشاهد . أو في غفلة عما أوعدت من المواعيد والشدائد التي عاينتها { فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ } أي : كشفنا عنك الشبه التي تمنع وقوع العلم به والتجلي له { فَبَصَرُكَ ٱلْيَوْمَ حَدِيدٌ } أي : ثاقب نيّر ، يبصر الحق ؛ كقوله - تعالى - : { أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا } [ مريم : 38 ] . وقيل : حديد من الحدة ؛ أي : نافذ لا يخفى عليه شيء ، فكأنه أراد - والله أعلم - : إنك كنت في الدنيا جاهلا عن هذا اليوم ، وعن هذه الحال ، والآن قد عاينت ما كنت عنه في غفلة وأيقنت به ، وهو كقوله - عز وجل - : { لَتَرَوُنَّ ٱلْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ ٱلْيَقِينِ } [ التكاثر : 6 - 7 ] . وقوله - عز وجل - : { وَقَالَ قَرِينُهُ هَـٰذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ } أي : يقول الملك الذي كان عليه رقيبا : إن كل ما عمل فهو عندي حاضر من تكذيب وعمل السوء ، فيشبه أن تكون شهادة الحفظة عليه هذا القول . ويحتمل أن يكون ذلك على السؤال للملائكة عما كتبوا وحفظوا ، يقول كل ملك : { هَـٰذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ } أي : هذا الذي عمل هذا عندي حاضر محفوظ ؛ إذ الكتاب الذي كتبت فيه أعماله حاضر . ثم جائز أن الذي يكتب الأعمال ملك واحد على هذا ؛ حيث قال : { وَقَالَ قَرِينُهُ } ولم يقل : قريناه ، وإن كان قال : { إِذْ يَتَلَقَّى ٱلْمُتَلَقِّيَانِ } [ ق : 17 ] على ما ذكرنا أنهما ملكان ، لكن يجوز أن يتولى الكتابة واحد ، والآخر شاهد . وجائز أن يكونا يكتبان جميعاً بقوله : { كِرَاماً كَاتِبِينَ } الانفطار : 11 ] لكنه ذكر - هاهنا - بحرف التوحيد فقال : { وَقَالَ قَرِينُهُ } لما يقول كل واحد منهما ذلك على حدة ، وهو كما ذكرنا ، وفي قوله : { عَنِ ٱلْيَمِينِ وَعَنِ ٱلشِّمَالِ قَعِيدٌ } [ ق : 17 ] أي : كل واحد منهما قعيد ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ } . يحتمل أن يكون الخطاب بقوله - تعالى - : { أَلْقِيَا } لاثنين ؛ على ما هو ظاهر الصيغة ، الذي يسوقه والذي يشهد عليه ، حيث قال : { وَجَآءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَآئِقٌ وَشَهِيدٌ } كأن الأمر بذلك لهما . ويحتمل أن يكون المراد بالخطاب هو القرين الذي سبق ذكره : { وَقَالَ قَرِينُهُ هَـٰذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ } لكن قال : { أَلْقِيَا } لوجهين : أحدهما : ما قيل : إن العرب قد تذكر حرف التثنية على إرادة الواحد والجماعة . والثاني : ما قال بعضهم : إن المراد من قوله { أَلْقِيَا } أي : ألق ألق ، على التأكيد ؛ كقوله - تعالى - : { هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ } [ المؤمنون : 36 ] على الوعيد في الذم ، ويقال في المدح : بخ بخ ، ونحو ذلك ، على التأكيد ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ } يحتمل : كل كفار لنعم الله - تعالى - حيث صرف شكرها إلى غيره . أو كل كفار لتوحيد الله ، وتسمية غيرٍ : إلها . والعنيد ، قال بعضهم : هو الذي بلغ في الخلاف غايته ، والمخالف أشد الخلاف ، من عند يعند عنوداً ، فهو عاند ، وعنيد بمعنى : عاند . وقيل : هو الذي لا ينصف من نفسه . وقيل : هو الذي يكابر ويعاند بعد ظهور الحق له ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ } يحتمل وجهين : أحدهما : مناع عن الخير ، وهو منع غيره عن التوحيد وقبول الحق . والثاني : { مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ } أي : منع ما عنده من الحقوق التي وجبت في أمواله ونفسه . وقال بعض أهل التأويل : أراد به الوليد بن المغيرة المخزومي ؛ لكن هذا عادة كل كافر ؛ كقوله - عز وجل - : { إِنَّ ٱلإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ ٱلشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ ٱلْخَيْرُ مَنُوعاً } [ المعارج : 19 - 21 ] فلا معنى لتخصيص واحد به . وقوله - عز وجل - : { مُعْتَدٍ مُّرِيبٍ } المعتدي من الاعتداء ، وهو المجاوز عن حدود الله - تعالى - والمريب من الريبة ، وهو الشك والفساد ، فكأن المريب هو الذي فيه الشك والفساد جميعاً . ثم نعت ذلك الإنسان فقال : { ٱلَّذِي جَعَلَ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهاً آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي ٱلْعَذَابِ ٱلشَّدِيدِ } ، أي : وصف وذكر مع الله إلهاً آخر ، وهو كقوله - تعالى - : { وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ٱلْبَنَاتِ } [ النحل : 57 ] وقوله - تعالى - : { وَجَعَلُواْ ٱلْمَلاَئِكَةَ ٱلَّذِينَ هُمْ عِبَادُ ٱلرَّحْمَـٰنِ إِنَاثاً } [ الزخرف : 19 ] أي : قالوا ووصفوا أنهم إناث ، وإلا لا يملكون جعل ذلك حقيقة . وقوله - عز وجل - : { فَأَلْقِيَاهُ فِي ٱلْعَذَابِ ٱلشَّدِيدِ } وصف نار جهنم بالشدة ؛ لما أنه لا انقطاع لها ، وكل عذاب يرجى انقطاعه في بعض الأزمان ففيه بعض الراحة ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { قَالَ قرِينُهُ رَبَّنَا مَآ أَطْغَيْتُهُ وَلَـٰكِن كَانَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ } ، أي : قال شيطانه الذي أضله ودعاه إلى ما دعاه ؛ فصار قرينه في الآخرة ؛ لقوله - تعالى - : { وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ ٱلرَّحْمَـٰنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ } [ الزخرف : 36 ] . ويحتمل { قرِينُهُ } أي : رفيقه الذي كان معه يتبعه ويصدر عن رأيه . ثم هذا القول من قرينه إنما بعد أن كان منه إنكار لما كان منه من الكفر والشرك عن اختيار ، وقال : هذا الذي أضلني وأطغاني ، وهو الذي حملني عليه ، كقولهم : { هَـٰؤُلاۤءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ ٱلنَّارِ } [ الأعراف : 38 ] ، فيقول رفيقه : { رَبَّنَا مَآ أَطْغَيْتُهُ وَلَـٰكِن كَانَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ } ، وكان الكفرة لحيرتهم وقلة حيلتهم أحياناً ينكرون الشرك ؛ كقوله : { وَٱللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } [ الأنعام : 23 ] وقوله : { يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ ٱللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ } [ المجادلة : 18 ] ، ثم قال : { أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْكَاذِبُونَ } [ المجادلة : 18 ] ، وأحياناً يقولون : هؤلاء أضلونا ، وأحياناً يلعن بعضهم بعضا . وقوله - عز وجل - : { رَبَّنَا مَآ أَطْغَيْتُهُ } أي : ما قهرته على الضلال ، ولا لي قوة ذلك ، ولكن اتبعني على ما كنت أنا فيه ، وأطاعني من غير أن يكون مني إكراه وإجبار على ذلك ، وهو ما ذكر : { وَلَـٰكِن كَانَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ } أي : كان في ضلال لا يرجى الرجوع ولا الانقطاع . وقال بعض أهل التأويل : إن ذلك الكافر يكذب الحفظة بأنهم كتبوا ما لم أعمل ، وهم كانوا يكذبون في ذلك اليوم ؛ لحيرتهم ؛ كقولهم : { وَٱللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } [ الأنعام : 23 ] ، فقال قرينه وهو الذي يكتب أعماله : { رَبَّنَا مَآ أَطْغَيْتُهُ وَلَـٰكِن كَانَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ } . لكن هذا فاسد ، وهذا القول من الشيطان ، لا من الملائكة الإطغاء والإغواء ؛ إذ هم لا يدعون على الملائكة الإطغاء والإغواء ؛ ألا ترى أنه قال : { لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِٱلْوَعِيدِ } واختصامهم مع الشيطان كما أخبر - عز وجل - في غير آي من القرآن ؛ قال الله - تعالى - : { وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ * قَالُوۤاْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ ٱلْيَمِينِ * قَالُواْ بَلْ لَّمْ تَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } [ الصافات : 27 - 29 ] وقوله - عز وجل - : { وَقَالَ ٱلشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ ٱلأَمْرُ … } [ إبراهيم : 22 ] إلى قوله - تعالى - : { وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَٱسْتَجَبْتُمْ لِي … } الآية [ إبراهيم : 22 ] . فهذه الخصومة بينهم وبين قرنائهم ، وهم الشياطين { وَمَن يَكُنِ ٱلشَّيْطَانُ لَهُ قَرِيناً فَسَآءَ قِرِيناً } [ النساء : 38 ] ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَيَّ } : خصومتهم ما ذكرنا ، قالت الأتباع : { رَبَّنَا هَـٰؤُلاۤءِ أَضَلُّونَا } [ الأعراف : 38 ] وما ذكر من لعن بعضهم بعضاً ومن تبري بعض عن بعض ، فقال - تعالى عز وجل - : { لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِٱلْوَعِيدِ } أي : قدمت إليكم من الوعيد في الدنيا ، فانقطعت خصوماتكم هذه ؛ أي : بينت في الدنيا ما يلحق بمن ضل بنفسه ، ومن ضل بغيره . كأن هؤلاء الكفرة يطلبون وجه الاعتذار بما لا عذر لهم ؛ فلذلك يقال لهم : { لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِٱلْوَعِيدِ } أي : أرسلت إليكم الرسل معهم الكتب وفيها الوعيد ، فلم تقبلوا ذلك كله . فإن قيل : قال هاهنا : { لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَيَّ } ، وقال في موضع آخر : { ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ } [ الزمر : 31 ] قيل : هو يخرج على وجوه : أحدها : أن قوله : { ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ } [ الزمر : 31 ] في أهل القبلة ، وهو في المظالم التي كانت بينهم في الدنيا . والثاني : ما قال بعضهم بأن إحدى الآيتين في موضع ، والأخرى في موضع ، فيؤذن لهم بالكلام فيه حتى يكون جمعاً بين الآيتين ، وهو كقوله - تعالى - : { فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ } [ الرحمن : 39 ] ، وقال في آية أخرى : { وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ } [ المؤمنون : 101 ] ، وقال في آية أخرى : { يَتَسَآءَلُونَ * عَنِ ٱلْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ } [ المدثر : 40 - 42 ] ؛ فعلى ذلك هذا . والثالث : جائز أن يكون قوله - تعالى - : { لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَيَّ } في الدين فيما بينهم وبين ربهم في دفع عذاب الله عن أنفسهم ، وذلك لا يملكونه ولا ينتفعون به ، وأما قوله - تعالى - : { ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ } [ الزمر : 31 ] فيما بين أنفسهم في المظالم والغرامات ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { مَا يُبَدَّلُ ٱلْقَوْلُ لَدَيَّ } هذا يحتمل وجوهاً : أحدها : ما يبدل ما استحق كل واحد منكم من العذاب والثواب ما سبق مني من الوعد والوعيد في الدنيا بأن أجعل جزاء الكافر الجنة ، وجزاء المؤمن النار ؛ إذ قد سبق في وعدي ووعيدي بأن أجعل الجنة مثوى المؤمنين ، والنار مثوى الكافرين ؛ فلا يبدل ذلك الوعد والوعيد . والثاني : { مَا يُبَدَّلُ ٱلْقَوْلُ لَدَيَّ } يحتمل أنه أراد به قوله : { لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ ٱلْجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ أَجْمَعِينَ } [ السجدة : 13 ] . والثالث : أي : لا يبدل اليوم ما يستوجب به الجنة والخلود فيها ، وهو الإيمان عن غيب ، كما أخبر - عز وجل - : { مَّنْ خَشِيَ ٱلرَّحْمَـٰنَ بِٱلْغَيْبِ وَجَآءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ … } الآية ، فأما الإيمان بعد العيان لا ينفع ، كما أخبر - عز وجل - : { فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا … } الآية [ غافر : 85 ] . وقوله - عز وجل - : { وَمَآ أَنَاْ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } أي : في العقل والحكمة تعذيب من أتى بالكفر والشرك ، فيكون ترك تعذيبه سفهاً . وقوله - عز وجل - : { يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ ٱمْتَلأَتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ } . هذا يخرج على وجهين : أحدهما : على تحقيق القول من الله - تعالى - لجهنم : { هَلِ ٱمْتَلأَتِ } ، وعلى تحقيق القول من جهنم والإجابة له : { هَلْ مِن مَّزِيدٍ } ، وذلك جائز أن ينطق الله - تعالى - جهنم حتى تجيب له بما ذكر { هَلْ مِن مَّزِيدٍ } على ما ذكرنا من شهادة الجوارح عليهم ، والنطق منها للكل ، حتى أجابت الجوارح لهم لما قالوا : { لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوۤاْ أَنطَقَنَا ٱللَّهُ ٱلَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ } [ فصلت : 21 ] وعلى ذلك ما ذكرنا في قوله - تعالى - : { يٰجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَٱلطَّيْرَ } [ سبأ : 10 ] ونحو ذلك ، ومثل هذا غير مستنكر في العقول على تقدير إحداث الحياة فيها التي هي شرط النطق عن علم ، والله أعلم . والثاني : على التمثيل ، لا على تحقيق القول لها : { هَلِ ٱمْتَلأَتِ } وعلى تحقيق الإجابة منها { هَلْ مِن مَّزِيدٍ } ولكن على التمثيل ؛ لوجهين : أحدهما : أي : إن جهنم لو كانت بحيث تنطق وتسمع وتعلم لو قلت لها : { هَلِ ٱمْتَلأَتِ } ، فتقول : { هَلْ مِن مَّزِيدٍ } ؟ يخبر عن انقياد المخلوقات له والطاعة والإجابة ، وهو ما ذكرنا في قوله - عز وجل - : { وَغَرَّتْهُمُ ٱلْحَيَٰوةُ ٱلدُّنْيَا } [ الأنعام : 70 ] لا يكون من الدنيا حقيقة التغرير قولا ولا فعلا ، ولكن معناه : إنها بحال من التزين وما فيها من الشهوات لو كان لها تمييز وعقل لغرتهم ، والله أعلم . والثاني : وصف لها بالعظم والسعة ، وإخبار عن أنها تحتمل المزيد ، وإن جمع من الكفرة ما لا يحصى ، على التمثيل ، وهو كقوله : { لَوْ أَنزَلْنَا هَـٰذَا ٱلْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ ٱللَّهِ } [ الحشر : 21 ] ، وكذلك قوله - عز وجل - : { وَغَرَّتْهُمُ ٱلْحَيَٰوةُ ٱلدُّنْيَا } [ الأنعام : 70 ] وصف لها بالتزين والحسن الظاهر ما [ لو ] لم يتأمل الناظر فيها العاقبة لاغتر بها من حسنها وزينتها ؛ فعلى ذلك هذا ، والله أعلم . ثم قوله - عز وجل - : { هَلْ مِن مَّزِيدٍ } يخرج على وجهين : أحدهما : هل بقي من أحد يزاد فيَّ فإني قد امتلأت ، وليس فيَّ سعة تحتمل غيرهم . والثاني : { هَلْ مِن مَّزِيدٍ } أي : فيَّ سعة عظيمة ، فهل من زيادة خلق أمتلئ بها ؟ لأن الله - تعالى - وعد أن يملأ جهنم ، كما قال : { لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ ٱلْجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ أَجْمَعِينَ } [ هود : 119 ] فتسأل المزيد من ربها لتمتلئ ، والله أعلم بذلك . وقال بعض أهل التأويل بأنها تسأل الزيادة حتى يضع الرحمن قدمه فيها فتضيق بأهلها حتى لا يبقى فيها مدخل رجل واحد ، وروي خبر عن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك ، وأنه فاسد ، وقول بالتشبيه ، وقد قامت الدلائل العقلية على إبطال التشبيه ، فكل خبر ورد مخالفاً للدلائل العقلية يجب رده ، ومخالف لنص التنزيل ، وهو قوله : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [ الشورى : 11 ] ثم هذا القول على قول المشبهة - على ما توهموا - مخالف للكتاب ؛ لأن الله - عز وجل - قال : { لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ ٱلْجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ أَجْمَعِينَ } [ هود : 119 ] وعندهم لا تمتلئ بهم ما لم يضع الرحمن قدمه فيها . ثم ذكر البلخي أن مدار ما ذكروا من الحديث على حماد بن سلمة ، وكان خرفاً مفنداً في ذلك الوقت لم يجز أن يؤخذ منه ، مع ما روي في خبر أنس - رضي الله عنه - عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " يأتي الله - تعالى - ببشر فيضع في النار حتى تمتلئ " فهذا يحتمل لا ما رووا ، والله الموفق . وقوله - عز وجل - : { وَأُزْلِفَتِ ٱلْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ } أي : قربت ، وذكر في آية أخرى : { وَسِيقَ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ إِلَى ٱلّجَنَّةِ زُمَراً } [ الزمر : 73 ] ذكر - هاهنا - تقريب الجنة إلى أهلها ، وذكر ثَمَّ سوق أهل الجنة إليها ، فبين الآيتين مخالفة من حيث الظاهر ، ولكن يحتمل وجهين : أحدهما : أن أهل الجنة إذا قربوا منها بالسوق إليها قربت هي إليهم ؛ لأن أحد الشيئين إذا قرب إلى الآخر قرب الآخر منه ، ويزول البعد بزوال المسافة ، وذلك معروف . ويحتمل أن يكون إخباراً عن وصف الجنة أنها بحال تقرب إلى أهلها وتزلف ، ذكر في الجنة التقريب ؛ وفي النار البروز والظهور بقوله - تعالى - : { وَبُرِّزَتِ ٱلْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ } [ الشعراء : 91 ] فهو - والله أعلم - أن أهل النار كانوا يجحدون النار وينكرونها ، وبرزت الجحيم ليرونها ويطلعون عليها ، وهو كقوله - عز وجل - : { لَتَرَوُنَّ ٱلْجَحِيمَ } [ التكاثر : 6 ] فأما أهل التوحيد فإنهم كانوا يقرون بالجنة ، ولكن لا يرون أنفسهم من أهلها لما بدا منهم من الخطايا والزلات ، ويرونها بعيدة من أنفسهم ، فذكر الله - تعالى - التقريب لهم ، ووعدهم بذلك ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { غَيْرَ بَعِيدٍ } أي : غير بعيد منهم ، بل بحيث يرونها وقت وقوفهم في القيامة ، والله أعلم . والثاني : أي : على بعد منهم في الدنيا ؛ أي : يأتونها ويكونون من أهلها عن قريب ؛ لأن كل آت فكأن قد أتى ، والله أعلم . ويحتمل : أي : غير بعيد منهم في الجنة إذا دخلوها من الثمار والفواكه ؛ بل قريب منهم ، يتناولون كيف شاءوا والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { هَـٰذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ } الأواب الرجاع ، من الأوبة ، وهي الرجوع ؛ فمعناه : لكل رجاع إلى الله - تعالى - في كل وقت ، أو رجاع إلى أمره وطاعته . وقوله - عز وجل - : { حَفِيظٍ } أي : يحفظ نفسه عن المعاصي والزلات سرّاً وعلانية والحافظ لحدوده في أوامره ونواهيه ، وهو كقوله - تعالى - : { لِّلْمُتَّقِينَ } [ البقرة : 2 ] و { لِّلْمُحْسِنِينَ } [ لقمان : 3 ] إذ التقوى هي الائتمار بما أمر والامتناع عما نهى وحظر ، والإحسان هو العمل بجميع ما يحسن في العقول . وقوله - عز وجل - : { مَّنْ خَشِيَ ٱلرَّحْمَـٰنَ بِٱلْغَيْبِ } أي : خاف وحذر بما أوعد . ثم يخرج على وجهين : أحدهما : { مَّنْ خَشِيَ ٱلرَّحْمَـٰنَ بِٱلْغَيْبِ } أي : قبل أن يرد على ظاهر ما ذكر . والثاني : أي : من خشي الرحمن في الدنيا التي هي حال غيب الدلائل بالمواعيد التي أوعدها وحذر منها قبل أن يعاينها ؛ إذ هو لم يرد ذلك العذاب فيصدقه فيما أوعد وخافه وهو كقوله - تعالى - : { وَيُحَذِّرُكُمُ ٱللَّهُ نَفْسَهُ } [ آل عمران : 28 ، 30 ] أي : عقوبته ونقمته ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَجَآءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ } والمنيب : هو المقبل على الله تعالى بجميع أوامره ونواهيه ، المطيع له في ذلك كله . وقوله - عز وجل - : { ٱدْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ } كأنه على الإضمار ، أي : يقال لهم : ادخلوها بسلام الملائكة : أي : تسلم الملائكة عليهم وقت دخولهم الجنة ؛ كقوله : { سَلاَمٌ عَلَيْكُـمْ طِبْتُمْ فَٱدْخُلُوهَا خَالِدِينَ } [ الزمر : 73 ] . والثاني : السلام : هو اسم من أسماء الله تعالى فيقال لهم : ادخلوها باسم الله تعالى على ما هو الأصل ، وفي كل خير أنه يبتدأ باسم الله تعالى ؛ امتثالا لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كل أمر ذي بال لم يبدأ باسم الله فهو أبتر " . وقال بعضهم : { ٱدْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ } ، أي : سالمين عن الخوف والحزن ، لا آفة تصيبكم فيها ، وهو كقوله : { ٱدْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ } [ الحجر : 46 ] عن الخوف والحزن . ويحتمل ادخلوها ولا كلفة عليكم ، ولا أمر ، ولا محنة ، سوى الثناء على الله تعالى والحمد له ، وتسليم بعضكم على بعض ؛ بل تسقط عنكم جميع المحن والأوامر التي عليكم في الدنيا ، وذلك كقوله تعالى : { وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } [ يونس : 10 ] ، وكأنه لا شيء ألذ في الدنيا على أهل الإيمان من الثناء على الله تعالى وتسليم بعضهم على بعض ؛ فلذلك أبقى ذلك في الجنة ، وأسقط ما وراء ذلك ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { ذَلِكَ يَوْمُ ٱلُخُلُودِ } : يحتمل : أي : ذلك يوم الخلود لأهل الجنة بالسرور والراحة ، ولأهل النار بالعقوبة والعذاب . ويحتمل : أي : يوم لا انقطاع لذلك الذي وعدوا ، وهي الجنة ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { لَهُم مَّا يَشَآءُونَ فِيهَا } ، أي : لهم ما يختارون فيها ، لا يجبرون ، ولا يكرهون فيها على شيء ؛ إذ المشيئة هي صفة كل فاعل مختار . وإن كانت المشيئة مشيئة التمني والتشهي ، فكأنه قال : لهم ما يتمنون ، ويتخيرون كقوله : { وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِيۤ أَنفُسُكُمْ } [ فصلت : 31 ] وقوله - عز وجل - : { وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ } [ النحل : 57 ] ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ } قال بعض أهل التأويل : بأنه تأتيهم سحابة فتمطرهم كل ما يشاءون ، وذلك هو المزيد لهم في الجنة . وقال بعضهم بأنه تنبت لهم شجرة فتنفطر لهم كل ما يشاءون ، فذلك هو المزيد . لكن يحتمل وجهين : أحدهما : النظر إلى رؤية الرب - جل وعلا - وهو كقوله تعالى - : { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ ٱلْحُسْنَىٰ وَزِيَادَةٌ } [ يونس : 26 ] قيل : الزيادة هي رؤية الله تعالى في الجنة . ويشبه : ولدينا مزيد من نعيمها ما لا يبلغ تمنيهم وشهواتهم ؛ كقوله - عليه السلام - في صفة نعيم الجنة : " ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر " ؛ لأن الأماني والشهوات إنما تكون لما سبق لجنسه من الذي تقع عليه الرؤية والنظر ، أو الخبر فأما ما لا معرفة به ، فلا يتمنى ولا يشتهى ، والله أعلم .