Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 50, Ayat: 36-40)
Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله - عز وجل - : { وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشاً فَنَقَّبُواْ فِي ٱلْبِلاَدِ هَلْ مِن مَّحِيصٍ } ، هذا يخرج على وجهين : أحدهما : يقول : كم أهلكنا قبلهم من قرن ، لم يملكوا دفع ذلك عن أنفسهم ، ولا الانتصار من ذلك ، فكيف يملك قومك دفع ما ينزل بهم لو أصروا على التكذيب . والثاني : يقول : قد أهلك الذين كانوا قبل قومك : الذين كذبوا رسلهم ، أهلكوا إهلاك عقوبة وتعذيب ، والذين صدقوا أهلكوا بآجالهم ، لا هلاك عقوبة ، وقد كانوا جميعا : - المصدقين والمكذبين - سواء في هذه الدنيا ، وفي الحكمة التفريق بينهما ، فدل أن هناك دارا أخرى يفرق بينهما ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { فَنَقَّبُواْ فِي ٱلْبِلاَدِ } : قال أبو عوسجة : { فَنَقَّبُواْ فِي ٱلْبِلاَدِ هَلْ مِن مَّحِيصٍ } : أي : صاروا في البلاد هل من مفر ؟ ! . وقال القتبي : { فَنَقَّبُواْ فِي ٱلْبِلاَدِ } ، أي : طافوا ، وتباعدوا ، { هَلْ مِن مَّحِيصٍ } أي : هل يجدون من الموت محيصا ؟ أي : مفرا . ويحتمل : أي : تقلبوا في البلاد في تجاراتهم ، فلا يجدون ملجأ يرد به هلاكهم . يوعد بما ذكر أهل مكة أنهم لم يجدوا محيصا فكيف تجدون أنتم ؟ ! وقوله - عز وجل - : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ } يحتمل وجوها : أحدها : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَىٰ } أي : عظة ممن كان له قلب . والثاني : فيما ذكر من إهلاك الأمم الخالية ، وذهاب آثارهم بتكذيبهم الرسل لذكرى لمن ذكر . والثالث : أي : فيما ذكروا من استواء المحسن والمفسد في هذه الدنيا ، والصالح والطالح - لذكرى لمن كان له قلب أن هنالك دارا يميز فيها بينهما . وقوله : { لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ } ، أي : عقل وفهم . أو لمن كان له قلب ينتفع به في التأمل والنظر . وإنما كنى بالقلب عن العقل ؛ لأن الناس اختلفوا : بعضهم قالوا : إن القلب محل العقل . وقال بعضهم : محله الرأس ، لكن نوره يصل إلى القلب ؛ فيبصر القلب الأشياء الغائبة بواسطة العقل ؛ فلذلك كنى بالقلب عن العقل ؛ لمجاورة بينهما ، وهو سائغ في اللغة . وقوله - عز وجل - : { أَوْ أَلْقَى ٱلسَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ } ، أي : يستمع وهو شاهد سمعه وقلبه ، وأصله : أن القلب جعل للوعي والحفظ بعد الإدراك ، والإصابة . ثم أصل ما يقع به العلم والفهم شيئان : [ الأول : ] التأمل والنظر في المحسوس . والثاني : أن يلقي إليه الخبر وهو يستمع له ، فكأنه يقول - والله أعلم - : إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب يطلب الرشد والصواب ، وينظر ، ويعي ، ويحفظ . أو { أَلْقَى ٱلسَّمْعَ } ، أي : يستمع بما ألقي إليه وهو شاهد السمع والقلب ؛ فتكون الذكرى لمن اختص بهذين ، أو ينتفع به هذان الصنفان بالتأمل ، فيرى بالعقل محاسن الأشياء ومساوئها . أو يستمع حقيقة ذلك بالسمع ، فيتذكر ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ } ذكرنا فيما تقدم تأويل خلق السماوات والأرض في ستة أيام . وقوله : { وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ } ، أي : من إعياء وتعب ونصب ، وفيه نقض قول اليهود - لعنهم الله - صراحاً ، ونفي إيهام المشبهة في قوله : { ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ } [ الأعراف : 54 ] ، ويتبين المراد من قوله - عز وجل - : { ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ } [ الأعراف : 54 ] أما نقض قول اليهود - لعنهم الله - فإنهم يقولون : خلق السماوات والأرض في ستة أيام ، ثم استراح في يوم السبت ، وهم يتركون العمل يوم السبت لهذا ، فالله - عز وجل - أخبر أنه لم يمسه بخلق ما ذكر إعياء ولا لغوب على ما زعمت اليهود - لعنهم الله - فيكون ردّاً لقولهم صريحا . وأما نفي إيهام المشبهة ؛ فإنهم توهموا أن قوله : { ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ } [ الأعراف : 54 ] على إثر خلق السماوات والأرض وما بينهما في آية أخرى : أن ذلك للراحة ، فشبهوا الله تعالى بالخلق : أنهم إذا فرغوا من أعمال عملوها ثم استووا على شيء ، إنما يستوون للراحة ، فقالوا بالاستواء على العرش حقيقة ، فالله تعالى نفى التعب عن نفسه في خلق السماوات والأرض ؛ [ فدل ] على أن استواءه ليس للراحة حتى يراد به الاستقرار ، كما في الشاهد بين الخلق وَبَيَّنَ تعاليه وبراءته عما توهمت المشبهة ، وشبهوه بالخلق ، وتبين بذكر الاستواء على العرش بعد ذكر خلق السماوات الأرض أن المراد منه التمام ، أي : تم ملكه بعد خلق السماوات والأرض وما بينهما بخلق العرش ، ويذكر الاستواء ويراد به التمام ، والله أعلم . قال أبو عوسجة : اللغوب : الإعياء ، يقال : لغب يلغب لغوبا فهو لاغب . وأصله ما ذكرنا : أن خلق الله تعالى الأشياء لا لمنفعة له أو حاجة تقع له ، ولا بالآلات ، والأسباب التي بها يقع التعب والإعياء في الشاهد ؛ إذ الإعياء إنما يلحق من فعله الحركة والانتقال والسكون ، فأما الله تعالى إنما يخلق الأشياء بقوله : كن ، ولا يلحقه شيء من ذلك ، وهو قادر بذاته ، فاعل لا بآلة وسبب ؛ فأنى يقع له الإعياء والتعب ، تعالى الله عما يقول الظالمون علوّاً كبيرا . وقوله - عز وجل - : { فَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ } ، أي : فاصبر على ما يقولون فيك : إنك ساحر ، وشاعر ، ومجنون ، ونحوه ، فأمره بالصبر على ذلك ، وألا يدعو عليهم بالهلاك . ويحتمل : فاصبر على ما يقولون في الله من معاني الخلق ، فلا تحاربهم ، ولا تقاتلهم ، ولا تدعو عليهم بالهلاك ، ولكن اصبر ؛ فإن الله تعالى ينتقم منهم لك . وإنما أمره بالصبر ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان سريع الغضب لله تعالى فيما عاين من المناكير وسمع ، وكذلك جميع الأنبياء - عليهم السلام - لذلك أمره بالصبر فيما يقولون في الله أو فيه . وقوله - عز وجل - : { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ ٱلشَّمْسِ وَقَبْلَ ٱلْغُرُوبِ } . قيل : بحمد ربك ، أي : بالثناء على ربك ؛ أي : أثن عليه بما هو أهله ، وما يليق به . وأهل التأويل يفسرون التسبيح في هذا الموضع وفي غيره من المواضع بالصلاة ، فمعنى قوله تعالى : { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ } أي : صل بأمر ربك ، وإنما صرفوا التسبيح إلى الصلاة ؛ لأن الصلاة من أولها إلى آخرها وصف الرب تعالى بالتعظيم والتنزيه والبراءة عن كل عيب قولا وفعلا . ولأنه لو قام إلى الصلاة ، فقد فارق جميع الخلائق بما هم فيه ، وكذلك إذا جئنا للركوع والسجود فارق جميع الخلائق فيما هم فيه من الأمور ، واعتزلهم ، واشتغل بمناجاة ربه - جل وعلا - فجائز أن يكون تسميتهم التسبيح : صلاة ؛ لهذا . ويحتمل أن سموه : صلاة ؛ لما أن في الصلاة تسبيحا . وقوله - عز وجل - : { قَبْلَ طُلُوعِ ٱلشَّمْسِ وَقَبْلَ ٱلْغُرُوبِ } قال بعضهم : قبل صلاة الفجر ، وقبل غروبها . وقال بعضهم : صلاة العصر . وقال بعضهم : صلاة العصر والظهر ، لأنهما جميعا قبل غروب الشمس . وقوله : { وَأَدْبَارَ ٱلسُّجُودِ } قال عامة أهل التأويل : هما ركعتان بعد المغرب ، و [ هو ] جائز محتمل . ويحتمل أن يكون إدبار السجود ما ذكر في آية أخرى ؛ حيث قال : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ إِلَىٰ مَا خَلَقَ ٱللَّهُ مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُاْ ظِلاَلُهُ عَنِ ٱلْيَمِينِ وَٱلْشَّمَآئِلِ سُجَّداً لِلَّهِ } [ النحل : 48 ] ، وتفيؤ الظلال إنما يكون بالنهار ، وهو تسبيح الضلال ؛ فمعناه : وسبحه وقت إدبار سجود تلك الظلال ، والذي أخبر أنه يتفيأ أن تفيؤه هو تسبيحه ، وهو ما ذكر في قوله تعالى : { فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ ٱلنُّجُومِ } [ الطور : 49 ] إدبار النجوم : هو ذهاب النجوم ؛ فعلى ذلك قوله تعالى : { وَأَدْبَارَ ٱلسُّجُودِ } ، أي : سبحه بعد ذهاب سجود الظلال ، فذلك إنما يكون بعد ذهاب الشمس وغيبوبتها ، والله أعلم .