Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 55, Ayat: 46-61)

Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله - عز وجل - : { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ } ، ذكر الخوف عن المقام بين يدي ربه ، ولم يبين خوفه ماذا ؟ ولا أنه إذا خافه تركه أو لا ؟ فجائز أن يكون ما ذكر من الخوف بين يدي ربه ما بَيَّنَ في آية أخرى ، وهو قوله : { وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى ٱلنَّفْسَ عَنِ ٱلْهَوَىٰ } [ النازعات : 40 ] يحتمل وجهين : أحدهما : نهي النفس عما تهواه . والثاني : منع النفس عن أن تهوى ما نهيت عنه ، والله أعلم . وجائز أن يكون في هذه الآية بيان ما ذكر في تلك الآية من الخوف من المقام بين يدي ربه ، أي : خاف مقام ربه ، وترك ما هم [ به ] من المعصية ، أو ما هوت نفسه . ثم لسنا نعرف ما فائدة ذكر الجنتين له ليس ذلك في ثلاث أو أربع ؟ قال أهل التأويل : إنما ذكر جنتين ؛ لأن الجنان أربعة : جنة عدن ، وفردوس ، وجنة المأوى ، وجنة النعيم ، فجنة العدن وجنة النعيم للمقربين والشهداء والصديقين ، والجنتان الأخريان لمن دونهم من المؤمنين الذين هم أصحاب اليمين . وجائز أن يخرج على وجهين : أحدهما : أن يكون بصره إذا نظر يمينا وشمالا لا يقع إلا على جنته ، لا يقع على جنة غيره ، وكذلك إذا نظر من الأعلى أو من الأسفل يقع بصره على ملكه ، لا يقع على ملك غيره ، فليس ذلك على تحقيقٍ إخبارا عن عدد الجنتين ، ولكن إخبارا أن بصره حيث [ يقع ] لا يقع إلا على ملكه وجنته ، والله أعلم . والثاني : يكون له جنتان : إحدى الجنتين ؛ لترك المساوئ ، والأخرى ؛ لإتيان المحاسن . وذكر القتبي عن الفراء في قوله : { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ } قال : قد تسمي العرب الشيء الواحد باسم الاثنين إذا كان رءوس الآي ومقاطعها ؛ لتحقيق الموافقة في المقاطع ؛ فعلى ذلك جائز أن يكون ذكر { جَنَّتَانِ } ، لموافقة مقاطع الآي ، والمراد منه جنة واحدة . لكن القتبي أنكر عليه ذلك ، وذلك إنما يقال إذا انقطع الكلام ، فأما إذا كان الكلام غير منقطع ؛ فإنه لا يقال ذلك ، والله أعلم . ثم سمى البعثَ : مقاما بين يدي ربه ، وسماه : رجوعا إليه ، ومصيراً ، وبروزا ، فهو على وجهين : أحدهما : أنه سماه بما ذكر ؛ لأن البعث هو نهاية هذا العالم . والثاني : سماه بذلك ؛ لأن لكل أحد يظهر في ذلك اليوم : أن الأمر لله تعالى ، وأن التدبير له في الدنيا والآخرة ، وأن لا تدبير لأحد سواه ؛ كقوله - عز وجل - : { لِّمَنِ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ لِلَّهِ ٱلْوَاحِدِ ٱلْقَهَّارِ } [ غافر : 16 ] . ثم جائز أن يكون ما ذكر من الجنتين للسابقين والشهداء على ما ذكره بعض أهل التأويل ، وما ذكر من قوله : { وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ } [ الرحمن : 62 ] لأصحاب اليمين . ثم نعت ووصف ما جعل لكل فريق ؛ فأما نعت ما جعل للسابقين والصديقين والشهداء ما ذكر ؛ حيث قال : { ذَوَاتَآ أَفْنَانٍ } ، قال عامة أهل التأويل : ذواتا أغصان ، ولكن ليس في هذا كثير حكمة ، لكن يحتمل أن قوله : { ذَوَاتَآ أَفْنَانٍ } من الفنون ، أي : فيهما من كل فن وكل نوع . وقال مقاتل : ذلك في الجنتين اللتين جعلهما لأصحاب اليمين مدهامتين ، والمدهم : هو الذي تضرب خضرته - لشدته - إلى السواد ، وهو دون الأول في الوصف ؛ إذ لم يصفهما إلا بصفة واحدة ، ووصف تينك الجنتين بالفنون ، وقال في تينك : { فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ } ، وقال أصحاب اليمين : { فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ } [ الرحمن : 66 ] ، والناضخ : هو الذي لا يتبين جريانه ، ووصف تينك بالجريان ، والنضخ دون الجريان . وقال القتبي : { نَضَّاخَتَانِ } [ الرحمن : 66 ] اللتان تفوران بالماء ، والنضح دون النضخ ، وهو الرش ، وقال في جنتي السابقين : { فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ } أي : صنفان ، أو لونان ، [ من ] أي شيء كان ، وقال في [ جنتي ] أصحاب اليمين : { فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ } [ الرحمن : 68 ] ذكر أشياء معدودة ، وغمر الأشياء في تينك ؛ حيث قال : { فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ } لتفضيل أولئك على هؤلاء . وجائز أن يذكر في كل واحدة منهما حكمة على حدة : قوله : { ذَوَاتَآ أَفْنَانٍ } ما ذكرنا أن فيهما من كل فن وكل نوع ، و [ قوله : { فِيهِمَا عَيْنَانِ } ] إحدى العينين هي العين المعروفة الموعودة ، والأخرى التي لا يعرفون ولا يوعدون ، وقوله - عز وجل - : { فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ } أي : صنفان ولونان على غير تغير الطعم ، ولا فساد يدخل في ذلك ؛ لأن تغير اللون في الدنيا لا يكون للفواكه إلا بعد دخول فساد فيها ، فيخبر أن تغير لونه لا لفساد يدخل في ذلك ، والله أعلم . وقال بعضهم : إنما ذكر الزوجين من الفواكه ؛ لما أن قلوب البشر قد خطرت بأحد الزوجين وتمنته أنفسهم ، والزوج الآخر هو لطف الله تعالى على عباده ؛ فضلا منه إليهم من غير أن يخطر على بالهم ، ولا وقعت عليه أبصارهم ، ولا انتهت إليه آمالهم ؛ إكراما لهم بها وامتنانا . وقال بعضهم : ليس المراد في هذه الآيات تبيين ما لأهل الجنة ، ولكن فيه تبيان فضل السابقين على أصحاب اليمين : أن أولئك يعطون من الفضل ضعفي ما أعطي هؤلاء ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَآئِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ } قال الفراء : يجوز أن تكون البطانة والظهارة جميعا من شيء واحد ، ومن جهة واحدة ، لكن سمي الجهة التي تلي أجسادهم بطانة ، والأخرى : ظهارة ، كالسماء ؛ أن الجهة التي تلي الملائكة هي بطانتهم ، وظهارتنا ، وما تلينا ظهارتهم وبطانتنا ، وكل شيء يلي إنسانا فهي بطانة ، والجانب الذي لا يليه ظهارة ، يقال : هذا ظهر السماء ، للجانب الذي نراه ، والآخر : بطن السماء ، والله أعلم . وقال القتبي : لا ، ولكن ذكر البطانة من إستبرق ، ولم يذكر الظهارة ، والعرف في الناس : أن ظهارة فرشهم أنفس من البطانة ، والبطانة دون الظهارة ، فعلى ذلك في ذكر البطانة ووصفها بأنها من الإستبرق دلالة أن ظهارتها أرفع وأنفس من البطانة . لكن ما قاله الفراء صحيح ، وما ذكره القتبي هو من صنيع الناس في الدنيا من اتخاذ الظهارة فوق البطانة ؛ لما لا تحتمل أملاكهم التسوية بين ما بطن وما ظهر في النفاسة والرفعة ، فأما الله - سبحانه وتعالى - فلا نفاد لخزائنه ، يفعل ما يشاء كيف شاء . وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال : قد أخبرتم بالبطائن فكيف بالظهارة ثم الإستبرق اختلف فيه : قيل : هو ما غلظ منه بلسان قوم . وقال بعضهم : هو ما دق ورق ، والله أعلم . ولا نفسره نحن : أنه ما هو ؟ وكيف هو ؟ ولكن نعلم أنه شيء وعد لهم ربهم ، وهو شيء ترغب فيه أنفسهم ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَجَنَى ٱلْجَنَّتَيْنِ دَانٍ } جائز أن يكون ذكر هذا في حق السابقين الذين سارعوا في الخيرات ، واستبطئوا ما وعد لهم بما لم يروا لطاعاتهم قيمة ، ويغلبهم خوفهم في التقصير في العمل لله تعالى الواجب عليهم ، وفي أوامره ونواهيه ، فقال : { وَجَنَى ٱلْجَنَّتَيْنِ } اللتين وعد لكم { دَانٍ } ، قال أهل التأويل : أي : الشجر دان منهم ، قربت حين يتناولها الرجل كيف شاء ، لكن يذكر هنا - والله أعلم - : أن الجنتين وإن بعدتا ، فإن الثمار منهم دانية . قال أبو عوسجة : الجنى : الحمل ، وأجنت الشجرة تجنى ؛ إذا حملت وأدرك حملها . وقوله - عز وجل - : { فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ ٱلطَّرْفِ } أي : قصرن طرفهن على أزواجهن ، ولا ينظرن إلى غيرهم ، ولا يشتهينهم ، وقال في آية أخرى : { حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي ٱلْخِيَامِ } [ الرحمن : 72 ] ذكر هذا ؛ لأن أهل الدين يكونون من أهل غيرة ، لا يريدون أن تنظر أزواجهم إلى غيرهم ، ولا غيرهم ينظرون إليهن ، فأخبر بالآيتين : أنهن لا ينظرن إلى غير أزواجهن ، ولا غيرهم إليهن ؛ حيث وصفهن بأنهن قاصرات مقصورات في الخيام . وقوله - عز وجل - : { لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنٌّ } ، قرئ : { لَمْ يَطْمِثْهُنَّ } بضم الميم وكسره . قال الفراء : { لَمْ يَطْمِثْهُنَّ } ، أي : لم يقبضهن ، والطمث : النكاح بالرومية . وقال أهل التأويل : لم يجامعهن إنس قبلهم ولا جان . وقال أبو عوسجة : أي : لم يمسسهن إنس في التربية كما يربى الأولاد ، ولا جان على ما تمس الجن الأولاد فيفسدوهم ، ولكنهم كما وصف : { إِنَّآ أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَآءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً * عُرُباً أَتْرَاباً * لأَصْحَابِ ٱلْيَمِينِ * ثُلَّةٌ مِّنَ ٱلأَوَّلِينَ } [ الواقعة : 35 - 39 ] . وقوله - عز وجل - : { كَأَنَّهُنَّ ٱلْيَاقُوتُ وَٱلْمَرْجَانُ } ، قال أهل التأويل : شبههن بالياقوت ؛ لصفائهن ، وبالمرجان ؛ لبياضهن ، وهو كما قالوا ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { هَلْ جَزَآءُ ٱلإِحْسَانِ إِلاَّ ٱلإِحْسَانُ } قيل : هل جزاء الإحسان في الدنيا إلا الإحسان لهم في الآخرة ؟ أي : هل جزاء فعل الحسن في الدنيا إلا إعطاء الحسن في الآخرة ، وهي الجنة . ولكن غيره كأنه أقرب ، أي : هل جزاء إحسان الله تعالى بما أنعم عليهم في الدنيا إلا الإحسان له بالشكر والقبول ، أي : الإتيان بفعل الحسن ، وهو الشكر له ، وحسن القبول ؛ لأنه ليس يستوجب أحد قِبَلَ الله تعالى بإحسانه في الدنيا جزاء في الآخرة ، إنما الجزاء لهم بحق الفضل والإنعام ، لا بحق الاستحقاق . ويحتمل أن يكون تأويله : هل جزاء الإحسان في الدنيا إلا الإحسان له في الآخرة ، والله أعلم . واستدل أبو يوسف ومحمد - رحمهما الله - بهذه الآية على أن للجن ثوابا ؛ كما للإنس ؛ فإنه جرى الخطاب من أول السورة إلى آخرها للجن والإنس من قوله : { يٰمَعْشَرَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنسِ } [ الرحمن : 33 ] ، وقوله - عز وجل - : { لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنٌّ } ؛ فعلى ذلك يشتركون في الوعد والوعيد . لكنْ أبو حنيفة - رحمه الله تعالى - يقول : لا ثواب للجن في ذلك من نحو الفواكه والسفن الجواري ، فعلى ذلك ما ذكر من الثواب لهم يجوز الثواب ، وللجن يجوز العين ، والله أعلم . وقد ذكرناه في غير هذا الموضع .