Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 56, Ayat: 57-74)

Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله - عز وجل - : { نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلاَ تُصَدِّقُونَ } هذا يخرج على وجهين : أحدهما : يقول - والله أعلم - : لما صدقتموني ورسلي بأنا خلقناكم في الابتداء ، فهلا صدقتمونا ورسلنا بأنا نعيدكم تارة أخرى ؛ إذ الأعجوبة في ابتداء الأشياء أكثر منها في الإعادة ، وهو ما قال : { وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } [ الروم : 37 ] . والثاني : إنكم صدقتموه ورسله : أنه أنشأكم في بطون أمهاتكم في الظلمات الثلاث ، ونقلكم من حال إلى حال ، لا يحتمل أن يترككم سدى بلا عاقبة ؛ فيكون فيه إثبات البعث ؛ إذ لولا ذلك لكان خلقهم وتحويلهم من حال إلى حال عبثا ؛ كما قال تعالى : { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً } [ المؤمنون : 115 ] ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { أَفَرَأَيْتُمْ مَّا تُمْنُونَ * ءَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَم نَحْنُ ٱلْخَالِقُونَ } قد علموا أنهم لم يخلقوا ما يمنون ، ولا خلقوا أنفسهم ، فيقول - والله أعلم - : قد أقررتم أنكم لم تخلقوا ما أمنيتم ، ولا أنفسكم ، ولا تملكون ذلك ، فقد عرفتم أن الله هو خالقكم وخالق ذلك كله ، وهو المالك لذلك ؛ فإذا عرفتم ذلك ، وأنتم أهل تمييز ، وأكمل عقلا من غيركم ، فإذا لم تملكوا خلق أنفسكم ، فالذين هم دونكم أحق ألا يملكوا خلق أنفسكم وخلق ما ذكر ثبت أن الله تعالى هو خالق ذلك كله ؛ فكيف عبدتم غيره ، وصرفتم الألوهية إلى غيره . وقوله - عز وجل - : { نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ ٱلْمَوْتَ } يحتمل وجوها : أحدها : أنه لما كان هو الذي خلقكم وما ذكر ، ثم قدر بينكم الموت ، وفيكم الولي له والعدو ، وقد سوى في الدنيا بين الولي والعدو ، وفي الحكمة التفريق بينهما ؛ دل أن هنالك دارا أخرى يفرق بينهما . والثاني : { قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ ٱلْمَوْتَ } ، أي : المعجل والمؤجل ؛ أي : لم يجعل موت جميعكم في وقت واحد ، بل جعل أجلا مؤجلا في الأصل ، وقدر أن تكون مدة أجل هذا أكثر من مدة أجل الآخر . وقيل : { نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ ٱلْمَوْتَ } أي سوينا بينكم في الموت بين عزيزكم وذليلكم ، ورفيعكم ووضيعكم ، لا يسلم أحد عنه . ويحتمل وجها آخر هو - أولى - : وهو أنه قدر بينكم الموت ، وكل واحد منكم يكره الموت ، ثم لم تملكوا دفع الموت عن أنفسكم ؛ دل أن هاهنا قاهرا قادرا يجب القول بوجوده ، والانقياد لأوامره ونواهيه . وقوله : { وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ } أي : وما نحن بمغلوبين في تبديل أمثالكم . أو يقول : وما نحن بعاجزين على أن نبدل أمثالكم . وقوله : { وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لاَ تَعْلَمُونَ } قال أبو بكر الأصم : فيما لا تعلمون من تبديلكم إلى صورة ذميمة قبيحة ؛ كصورة القردة والخنازير ، ونحوها . وقيل : { وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لاَ تَعْلَمُونَ } في أي خلق شاء ؛ وهو أقرب من الأول . وجائز أن يكون معناه { وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لاَ تَعْلَمُونَ } في ظلمات ثلاث الذي لا يبلغه علم البشر ، ولا تدبير الحكماء إلى أن بلغوا ما بلغوا ، فمن ملك ذلك لا يحتمل أن يعجز عن بعث أو غيره ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ ٱلنَّشْأَةَ ٱلأُولَىٰ } ، فهو على ما ذكرنا : إنكم لما عرفتم أنه هو الذي أنشأكم النشأة الأولى لا عن أصل سبق ، لا يحتمل أن يعجز عن النشأة الآخرة ؛ لأنها مثل الأولى ؛ بل في وهمكم أسهل وأهون . وقوله - عز وجل - : { فَلَوْلاَ تَذَكَّرُونَ } يخرج على ما ذكرنا : هلا تذكرون وحدانيته وربوبيته . أو هلا تذكرون أن قادر على البعث . أو هلا تذكرون أنه هو المستوجب لشكر ما أنعم عليكم ، وهلا تذكرون نعمه وإحسانه . ومن الناس من قال : النشأة الأولى هاهنا نشأة آدم - عليه السلام - وخلقه ؛ أي : علمتم نشأته لا عن أصل ولا احتذاء لغير ، فمن قدر على ذلك فهو على النشأة الأخرى لقادر ، وعلى تقدير وهمكم أقدر ، والله الموفق . وقوله - عز وجل - : { أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ * ءَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ ٱلزَّارِعُونَ } جائز أن يكون هذا صلة ما تقدم من قوله : { أَفَرَأَيْتُمْ مَّا تُمْنُونَ } ، كأنه يقول : أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تخلقون الزرع أم نحن الخالقون له ؟ فيكون فيه الذي ذكرنا في ذلك ، والله أعلم . والثاني : أفرأيتم ما تحرثون أأنتم جعلتم الحراثة بحيث تنبت أم نحن الجاعلون بحيث تنبت ؟ ثم قال : { لَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً } ، أي : يابسا . وقال أبو عوسجة : أي : متكسر ؛ يذكر نعمته التي أنعهما عليهم ؛ يقول : هو الذي جعله بحيث ينتفع [ به ] ، ويبقى ، ولو شاء لجعله بحيث لا ينتفع به ، ويخبر عن قدرته : أنه قادر على الإنبات ، وعلى الإهلاك ؛ فعلى ذلك قادر على الإنشاء والإعادة . وأهل التأويل يقولون : أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تنبتونه أم نحن المنبتون ، وأصله ما ذكرنا . وقوله - عز وجل - : { فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ } قيل : تعجبون . وقيل : تندمون ، وهي لغة عكيل . وقال أبو بكر الأصم : أي : صرتم تتنعمون وتتلذذون ؛ كما يقول الرجل لآخر : لو أخذت مالك أو سلبته صرت غنيا أو استغنيت . ولكن لا ندري أيقال ما ذكر أم لا ؟ فإن كان يقال ذلك ، يصير تقديره كأنه يتلذذ ؛ لكثرة ما يذكره في كل وقت ؛ لأن الرجل إذا ذهب ماله لا يزال يذكره كالمتلذذ به والمتنعم . وعن ابن عباس - رضي الله عنه - : { فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ } ، أي : تلاومون . وفي حرف ابن مسعود - رضي الله عنه - : { فصرتم تفكهون } ، وقوله : { فَظَلْتُمْ } يستعمل في زمان النهار دون الليل . وقوله - عز وجل - : { إِنَّا لَمُغْرَمُونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ } أي : فظلتم تقولون : إنا لمغرمون . ثم اختلف فيه : قيل : إنا لمعذبون بقوله : { إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً } [ الفرقان : 65 ] . وقيل : إنا المذمومون الملقون للشر ، ونحو ذلك ، لكنه من الغرم الظاهر ؛ لأن مرتجعه خسران في ماله ، أو هلاك يلحقه الغرامة ؛ لما يحتاج إلى غيره ، وأصله كأنه يقول - والله أعلم - : لو جعله حطاما يابسا لا تنتفعون به ، ظلتم تقولون : { إِنَّا لَمُغْرَمُونَ } . وقوله : { بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ } قيل : المحروم : هو الذي ينتفي عنه المال أو ما ينتفع به . وقال بعضهم : محدودون . وقيل : محاربون . لكن المحروم ظاهر ، لا يحتاج إلى التفسير ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { أَفَرَءَيْتُمُ ٱلْمَآءَ ٱلَّذِي تَشْرَبُونَ * ءَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ ٱلْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ ٱلْمُنزِلُونَ } يذكر نعمه عليهم بما أنزل لهم من الماء العذب فيشربون ، وأخبر أنه لو شاء ، لجعله أجاجا مالحاً ما يهلك الأنفس ، ولا تقوم به ، وكذلك قوله : { لَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاما } حتى يخرج من أن يكون غذاء فيه ، ولكن بفضله ورحمته أبقى لهم ذلك أغذية وأشربة ؛ ولذلك قال في آخره : { فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ } [ أي ] : هلا تشكرون ما أنعم عليكم ؟ ثم في هذه الآية دلالة نقض قول المعتزلة في أفعال العباد ؛ حيث قال : { أَفَرَأَيْتُمْ مَّا تُمْنُونَ * ءَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَم نَحْنُ ٱلْخَالِقُونَ } ، والإمناء : هو فعل العبد ؛ إذ هو دفق المني ، ثم أخبر أنه هو خالق ذلك ؛ حيث قال : { ءَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ } ، وكذلك الحراثة والزراعة فعل العباد ، وأخبر أنه خالق ذلك . [ و ] في قوله تعالى : { لَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاما } و { أُجَاجاً } نقض قولهم في الأصلح ؛ فإنه يقال لهم : إن قوله : لو شاء لجعله كذا ، ثم لم يفعل ذلك ، فقد ترك الأصلح لهم ، أو يكون الأصلح لهم في إبقاء ذلك ؛ فيصير كأنه قال : لو شاء لجعل ما هو حق وعدل جورا ، ولا يجوز أن يقال : إن الله تعالى لو شاء أن يجور لجار ؛ فعلى أي الوجهين حمل ، كان في ذلك نقض مذهبهم . وفي قوله تعالى : { قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ ٱلْمَوْتَ } نقض قولهم من أن المقتول لم يمت بأجله ؛ لأنه - تعالى - أخبر أنه قدر الموت بينهم ، وعندهم : أن من قتل لم يمت بما قدر الله تعالى ، ولم يمت بأجله ، وقد أخبر أنه هو قدر ذلك ، وأنه لا يسبق في ذلك بقوله : { وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ } ، ولو كان على ما تقوله المعتزلة يموت قبل أجله ، فقد قالوا : إنه لم يقدر له الموت ، وأن القاتل قد سبقه ومنعه عن وفاء ما جعل له من الأجل والبلوغ إلى ذلك الأجل الذي جعل له وكذبه في خبره : أنه يبلغ إلى ذلك الأجل ، والله الموفق . ثم قوله : { ءَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ ٱلْمُزْنِ } اختلف في تأويل المزن : قال عامة أهل التأويل والأدب : المزن : هو السحاب . وقال أبو بكر الأصم : المزن : هو الماء العذب ؛ فعلى قوله يكون حرف { مِنَ } صلة ، كأنه قال : أأنتم أنزلتم المزن . والظاهر ما ذهب إليه أولئك : أنه ينزل من السحاب ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { أَفَرَأَيْتُمُ ٱلنَّارَ ٱلَّتِي تُورُونَ } قال بعضهم : توقدون . وقال بعضهم : تقدحون ، يقال : قدحت النار ، وأوريتها : أي أخرجتها ؛ يقال : ورت الناس تري وريا ؛ فهي وارية ، أي : أضاءت . وقوله - عز وجل - : { أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَآ أَمْ نَحْنُ ٱلْمُنشِئُونَ } قيل : هي الشجرة التي تجعل حطبا ، وتوقد بها النار وتحرق . وقيل : هي الشجرة التي فيها النار ، وهي التي يتخذ منها الزيوت ، والأول أقرب ، والله أعلم . وقوله : { نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً } قال بعض أهل التأويل : أي : جعلنا هذه النار تذكرة للنار الكبرى : وهي نار الآخرة . ويحتمل أن يكون { نَحْنُ جَعَلْنَاهَا } ، أي : هذه النعم الحاضرة تذكرة للنعم الموعودة . أو جعلنا هذه الشدائد والبلايا في الدنيا تذكرة لما أوعدنا في الآخرة ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَمَتَاعاً لِّلْمُقْوِينَ } قال بعض أهل التأويل : أي متاعا للمسافرين ، خص المسافرين ، لنزولهم القواء ، وهو القفر ؛ وهو قول القتبي . وقيل : المقوين : المستمتعين . وقال أبو عوسجة : المقوي : الذي لا زاد له . وقيل : الذي يقع في أرض قواء ، والقواء : الأرض الخالية من الناس . وقال أبو عبيد : أرى الذي لا زاد له ليس أولى بالنار ، ولا أحوج إليها من الذي معه الزاد ؛ بل صاحب الزاد إليها أحوج ، ويقال : رجل مقوٍ : إذا كانت معه مطية قوية .