Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 59, Ayat: 11-17)

Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله - عز وجل - : { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ نَافَقُواْ يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ } . هذه الآية تدل على أن الله - تعالى - جعل حجة رسالة محمد صلى الله عليه وسلم قول المنافقين في أنفسهم ؛ لأنهم قالوا هذا القول سرا منهم إلى أهل الكتاب ؛ لأنه لا يحتمل أن يظهروا مثل هذا القول بين يدي المؤمنين ؛ ولا كان الكفار يخبرون بهذا أحداً من المؤمنين ، فلما أخبر بما قال المنافقون ، ثبت أنه ما علمه إلا من الوحي والتنزيل ، وذلك علم نبوته عليهم ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ } . يحتمل وجهين : أحدهما : أنه يجوز أن يكونوا قالوا لهم هذا على أن يتكثر أتباعهم في القتال . والثاني : أنهم قالوا ذلك لأهل الكتاب على حسبان منهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا علم بحال هؤلاء ، لم يخرجهم من المدينة ؛ خوفاً أن يقال : أخرج أصحابه ، وإذن لم يخرج أهل الكتاب ولم يقاتلوا . وقوله : { وَلاَ نُطِيعُ فيكُمْ أَحَداً أَبَداً } . يعني : لا ننظر أحداً فيكم أبداً . وقوله - عز وجل - : { وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ } يحتمل أن يكونوا وعدوا نصرهم هذا في قرى محصنة ، ثم أخبر أنهم : وإن نصروهم ثم انهزموا ، هربوا ونفروا وتولوا ولم ينصروهم بعد ذلك أبداً . وقوله - عز وجل - : { وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } . لقائل أن يقول : كيف يشهد عليهم بالكذب ، والكذب إنما يدخل في الأخبار ، وقولهم الذي قالوا إنما هو وعد منهم ؛ فحقه أن يقال : إنهم لمخلفو الوعد ؟ وبمثل هذه الحجة احتج الخوارج في تكفير من أذنب ذنباً ، وذلك أنهم يقولون : إن من آمن بالله - تعالى - فقد اعتقد ألا يعصيه ، فإذا عصاه تبين بعصيانه أنه كذب في اعتقاده ؛ فكفر لهذا المعنى . ومن جوابنا عن هذا : أن قول المنافقين لأهل الكتاب إخبار منهم من موالاتهم إياهم ، فأخبر الله - تعالى - أنهم كاذبون فيما أخبروا عن الموالاة ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { لَئِنْ أُخْرِجُواْ لاَ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُواْ لاَ يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ ٱلأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ } . في هذه الآية حجة رسالته على الفريقين جميعاً وذلك أن هذا خبر عن الغائب ، وذلك لا يوصل إلى علمه إلا بالتعليم ، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم اختلف إلى أحد غيره ، ولا تلقن شيئاً من أحد من البشر ، فإذا أخبر عما يحدث وعما هو غائب ، ثبت أنه ما قاله إلا عن الرسالة والوحي ، والله أعلم . قال : ويجوز أن يكون الله - تعالى - ذكر المؤمنين بهذه الآيات على ما لقي الرسول - عليه السلام - ممن كان الواجب [ عليهم ] - على ما عليه كانت عادتهم - : الإحسان إليه ؛ وذلك أنه كان من عادة العرب المعونة والنصرة لمن قاربهم في النسب أو القبيلة ، وإن كان ظالماً ، ثم إن الله - سبحانه وتعالى - أرسل محمداً صلى الله عليه وسلم من بين أظهرهم من قريش ، فأظهروا معه من العداوة ما أظهروا حتى هموا بقتله ، وجعل محمداً صلى الله عليه وسلم حين أرسله حجة يظهر لليهود والنصارى وجميع أهل [ الكتاب ] ما ذكر في كتابهم من نعته وصفته ، فقابلوه بذلك ما قابلوا من سوء الصنيع وإظهار العداوة ، وكان هذا كله - والله أعلم - حجة وعلامة ، يعلم بها أن رسالته - عليه السلام - لم تظهر بمعاونة أحد ؛ بل بنصر الله وفضله وتأييده ، والله المستعان . وقوله - عز وجل - : { لأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِّنَ ٱللَّهِ } . يحتمل أن يكون رهبة هؤلاء في صدورهم على التحقيق ، ويجوز أن تكون على التمثيل : فأما وجه التمثيل فهو ما قال : { وَيَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ وَلَـٰكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ } [ التوبة : 56 ] ؛ فأخبر أنهم يعتذرون إليهم بالحلف ؛ فيجوز أن يكون معاملتهم هذه - التمثيل - معاملة من يرهبهم ؛ فسمى ذلك : رهبة في قلوبهم ، وهذا نحو قوله - تعالى - : { ٱلَّذِى جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ * يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ } [ الهمزة : 2 - 3 ] ، يعني : جمع ماله جمع من يحسب أن ماله أخلده ؛ فكذلك الأول . ويجوز أن يكون على التحقيق ؛ ولذلك أوجه من التأويل : أحدها : أنهم كانوا يظهرون الموالاة لكل فريق ، وكان عندهم أن الله - تعالى - ولي أحد الفريقين لا محالة ، وإذا نجا أحد الفريقين نجوا هم أيضاً ؛ فكأنهم على هذا التأويل كانوا يرهبون الخلق جميعاً ، لا أن يختص به المؤمنون ، وكانوا لا يرهبون الله ؛ لأنهم أمنوا ناحيته من الوجه الذي وصفنا . ويجوز أن يكون رهبتهم من المؤمنين خاصة ، وذلك أن أهل النفاق إنما كانوا من أحد الصنفين : أما إذا كانوا دهرية فنافقوا إذا كانوا أهل كتاب ، وإن كانوا أهل كتاب فنافقوا ، فإن كانوا دهرية فكانوا لا يرهبون الله - تعالى - لما كانوا غير مقرين بالصانع ، وإن كانوا أهل كتاب ، فإنهم قد أمنوا - أيضاً - لما كانوا يصفون من قولهم : { نَحْنُ أَبْنَٰؤُاْ ٱللَّهِ وَأَحِبَّٰؤُهُ } [ المائدة : 18 ] ، وإذا سقطت الرهبة من كلا الجانبين من الله - تعالى - حصلت الرهبة من المؤمنين خاصة ، والله أعلم . ويجوز أن يكون تفسير قوله - تعالى - : { لأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِّنَ ٱللَّهِ } في قوله : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ } ، وذلك يحتمل وجهين : أحدهما : أنهم لا يفقهون أن البلايا التي في الدنيا ونعيمها تذكير لبلايا الآخرة ونعيمها ، وكانوا يرون أنها جعلت لأنفسها ، وإذا كان هذا وهمهم وحسبانهم لم يرهبوا من الله تعالى . والثاني : أنهم قوم لا يفقهون من الوعد والوعيد ؛ بل كانت رهبتهم ممن كانوا يأملون منهم المنافع ويحذرون مضارهم ، فلا يرهبون من الله تعالى . ولقائل أن يقول : إنه لا أحد من أهل الإسلام إلا ورهبته من الناس أشد من رهبة الله - تعالى - لأنك ترى الرجل يمتنع عن الزلة عند اطلاع الناس عليه ما لا يمتنع عن كثير من الزلات فيما بينه وبين الله تعالى . والجواب عن هذا وجهان : أحدهما : أنه ليس بإزاء الخوف من الإنسان رجاء يرجوه ، وبإزاء رهبته من الله - تعالى - رجاء يرجوه من رحمته وفضله وإحسانه ؛ فيجوز أن يكون الرجاء من رحمته وفضله يغلب عليه ؛ فيقترف الذنوب ويرتكبها . والوجه الثاني : إذا كان فيما يرتكبه من الذنب شرك فليس يهابهم ، وإنما خوفه من قوم فيهم سمعة الصلاح وأمارة النصر لدين الله - تعالى - ليس من نفس المخلوقين ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { لاَ يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ } . قوله : { جَمِيعاً } ، أي : لا يقاتلكم أهل النفاق وأهل الكتاب جميعاً معا ، وإنهم ليسوا بفاعلين ما وعدوا لأهل الكتاب من النصر والقتال . واحتمل أن يكون استثناؤه من الوعد الذي وعدوا لأهل الكتاب ، فإن كان من القتال فهو يحتمل وجهين : أحدهما : أنهم لا يقاتلون إلا أن يكونوا في قرى أو حصون أو من وراء جدر ، لا يعلم بهم أهل الإسلام ، والله أعلم . وإن كان من الوجه الثاني فهو يحتمل وجهين أيضاً . أحدهما : أنهم لا يوفون ما وعدوا من النصر في القتال لأهل الكتاب ، ولكنهم يلتجئون إلى قرى محصنة ؛ ألا ترى إلى ما أخبر الله - تعالى - منهم من ناحية المسلمين : { وَإِن يَأْتِ ٱلأَحْزَابُ يَوَدُّواْ لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي ٱلأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَآئِكُمْ } [ الأحزاب : 20 ] ، فأخبر أنهم قد أظهروا الموالاة للمسلمين كما أظهروا لأهل الكتاب إلى أن جاء القتال التجئوا إلى مكان يستمعون من أخبارهم ؛ فعلى ذلك النحو يجوز أن يكون في أهل الكتاب . والوجه الثاني : أنهم لا يقاتلون ، ولكنهم يدخلون في قرى محصنة يتربصون لمن يكون الظفر والعاقبة ؟ كما أخبر عنهم في آية أخرى ، وهو قوله - تعالى - : { ٱلَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ ٱللَّهِ قَالُوۤاْ أَلَمْ نَكُنْ مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوۤاْ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ } [ النساء : 141 ] : فأخبر الله - تعالى - : أنهم يتربصون العاقبة ، فالتجاؤهم إلى قرى محصنة يجوز أن يكون بهذا التأويل ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ } . يحتمل وجهين : أحدهما : أن يقول : { بَأْسُهُمْ } ، يعني : قوتهم { بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ } ، لما لم يروا أعداء ظاهرة . أو يقول : بأسهم شديد ما دام القتال بينهم ؛ لأنه ليس فيهم من أكرم بالرعب مسيرة شهرين ، فإذا أكرم بالرعب هذا المقدار من المسير ، فلا يحرم ذلك في أهل قريته ، وإذا كان كذلك ثبت أن التأويل ما وصفنا ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّىٰ } . لأن همة المنافقين سلامة الأنفس وراحة الأبدان ، وهمة أهل الكتاب الذب عن المذهب والسعي في إقامته ، فإذا اختلف همتهم ومقاصدهم تشتت قلوبهم ، وذلك معنى قوله : { مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذٰلِكَ لاَ إِلَىٰ هَـٰؤُلاۤءِ وَلاَ إِلَى هَـٰؤُلاۤءِ } [ النساء : 143 ] يعني : في الهمم والقلوب . وقوله - عز وجل - : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ } . يحتمل ثلاثة أوجه : أحدها : أنهم لا يعقلون حق الوعد والوعيد . والثاني : أنهم لا ينتفعون بما يعقلون . والثالث : أنهم لا يعقلون لمن يكون له العاقبة ، وقد وصفنا أن عادتهم التربص لمن يكون الظفر والعاقبة ، فإذا اشتبهت عليهم العاقبة ولم يعقلوها لم يوالوا واحداً من الفريقين في الظاهر والباطن جميعاً ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { كَمَثَلِ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ … } الآية . يجوز أن يكون في هذا إضمار مثل آخر ؛ كأنه يقول : مثل هؤلاء الكفار كمثل الذين كانوا من قبلهم ، وكذلك في قوله : { وَمَثَلُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ ٱلَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَآءً وَنِدَآءً } [ البقرة : 171 ] ، يعني : مثل محمد صلى الله عليه وسلم [ و ] مثل هؤلاء الكفار ، على إضمار مثل آخر ، ثم التمثيل وكيفيته يحتمل أوجهاً ثلاثة : أحدها : أن يقول : مثل هؤلاء الكفار الذين أساءوا لرسوله كمثل الكفار الذين أساءوا للرسل من قبله ، كان قريباً أن ذاقوا وبال أمرهم . والوجه الثاني : أن يقول : مثل أهل المدينة من الكفار حين هموا بإخراج الرسول من المدينة كمثل أهل مكة حين أخرجوا الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة وكان قريباً ، حتى ذاقوا وبال أمرهم من الأسر والقتل ، والدليل على أن كفار المدينة هموا بإخراج الرسول صلى الله عليه وسلم قوله - عز وجل - : { وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ ٱلأَرْضِ لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا … } الآية [ الإسراء : 76 ] . ويحتمل أن يكون تخصيصاً لقرية أو قبيلة ، ووجه ذلك أن يقول : مثل بني قريظة كمثل الذين من قبلهم وهم بنو النضير ، وإن كانوا قريباً أن ذاقوا وبال أمرهم ، والله أعلم . وقوله : { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } . هذا إخبار أنهم يموتون على الكفر ، وفيه دلالة رسالته صلى الله عليه وسلم حيث أخبر عن الغيب . وقوله - عز وجل - : { كَمَثَلِ ٱلشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ ٱكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيۤءٌ مِّنكَ } . فكذلك المنافقون يظهرون الموالاة والنصر ، فإذا جاء القتال امتنعوا وتبرءوا عنهم . ثم قوله : { إِنِّي بَرِيۤءٌ مِّنكَ } يجوز أن يكون في الآخرة ؛ حيث يقول : { مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ } [ إبراهيم : 22 ] . ويجوز أن يكون في الدنيا ، وهو قوله : { وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ ٱلْيَوْمَ مِنَ ٱلنَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَآءَتِ ٱلْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيۤءٌ مِّنْكُمْ إِنَّيۤ أَرَىٰ مَا لاَ تَرَوْنَ … } الآية [ الأنفال : 48 ] . وقوله - عز وجل - : { فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَآ أَنَّهُمَا فِي ٱلنَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَآءُ ٱلظَّالِمِينَ } .