Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 6, Ayat: 100-103)

Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله - عز وجل - : { وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ ٱلْجِنَّ } أي : قالوا لله شركاء ؛ وكذلك قوله : { وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ٱلْبَنَاتِ } [ النحل : 57 ] أي : يقولون لله البنات ، أو وصفوا لله ، دليله ما ذكر في آخره : { سُبْحَٰنَهُ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يَصِفُونَ } دل هذا أن قوله : { وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ } أي : وصفوه بالشركاء والولد . وقوله - عز وجل - : { شُرَكَآءَ ٱلْجِنَّ } . قال بعضهم : هذا كقوله : { وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ٱلْجِنَّةِ نَسَباً } [ الصافات : 158 ] . وقيل : إنهم لم يعبدوا الجن ، ولا قصدوا قصد عبادة الشيطان ؛ حيث قال : { أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يٰبَنِيۤ ءَادَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ ٱلشَّيطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } [ يس : 60 ] ؛ لأن جميع أهل الكفر على اختلاف مذاهبهم يبغضون الشيطان ، ويلعنون عليه ، ولكن معناه : أن الشيطان هو الذي دعاهم إلى عبادة الأصنام والأوثان ، فإذا عبدوا الأصنام بدعائه فكأنهم عبدوه إذ بأمره وبدعائه يعبدونها . أو أن يكون كما روي في الخبر " أن الشمس إذا طلعت تطلع بين قرني شيطان " ، فإذا عبدوها فكأنهم عبدوا الشيطان مثل هذا يحتمل ، والله أعلم . فإن قيل : فإذا صاروا كأنهم عبدوا الشيطان ، ومن ذكر من الجن بدعائهم إلى ذلك ، وبأمرهم بذلك حتى نسب وأضاف العبادة إليهم ، كيف لا صار المؤمنون كأنهم عبدوا الرسل ؛ لأنهم إنما عبدوا الله بدعاء الرسل وبأمرهم ؟ قيل : لأن الرسل إنما دعوهم إلى عبادة الله وأمروهم بذلك ؛ لأن الله - تعالى - أمرهم بذلك ، وأما أولئك إنما دعوهم إلى عبادة من ذكر بذات أنفسهم . وفي قوله : { وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ ٱلْجِنَّ } إخبار لأوليائه وتذكير لهم حسن صنيعه إلى أعدائه من الإنعام عليهم ، والإحسان إليهم ، وقبح صنيع أولئك إليه من وصفهم إياه بالولد والشركاء ؛ ليعاملوهم معاملة الأعداء أو معاملة أمثالهم { وَخَلَقَهُمْ } أي : يعلمون أنه هو خلقهم ، ثم يشركون غيره في ألوهيته وعبادته ، لا يوجهون شكر نعمه إليه . والثاني : قوله : { وَخَلَقَهُمْ } ، أي : خلق هذه الأصنام التي يعبدونها ، ويعلمون أنها مخلوقة مسخرة مذللة ، فمع ما يعلمون هذا يشركون في ألوهيته وعبادته ، فكيف يكون المخلوق المسخر شريكاً له ؟ ! وقوله - عز وجل - : { وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَٰتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ } . هم كانوا فرقاً وأصنافاً ؛ منهم من يقول بأن عيسى ابنه وهم النصارى ، ومنهم من يقول بأن عزيراً ابنه وهم اليهود ، وقال مشركو العرب : الملائكة بنات الله ، فقال : { أَلَكُمُ ٱلذَّكَرُ وَلَهُ ٱلأُنْثَىٰ * تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَىٰ } [ النجم : 21 - 22 ] ، وقال : { أَمْ لَهُ ٱلْبَنَاتُ وَلَكُمُ ٱلْبَنُونَ } [ الطور : 39 ] ، وقال : { وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَـٰنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ } [ الزخرف : 17 ] . قال : أَنِفْتُم أنتم من البنات ؛ كيف نسبتم البنات إليه ؟ ! في هذه الآية تصبير لرسول الله صلى الله عليه وسلم على أذاهم بقوله ، مع كثرة ما كان لهم من الله من النعم والمنن يشركون في عبادته غيره ؛ فأنت إذا لم يكن منك إليهم شيء من ذلك [ فأولى ] أن تصبر على أذاهم . وقوله - عز وجل - : { لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِٱلْمُعْتَدِينَ } . أي : يعلمون هم أن ليس له ولد ولا شريك ؛ ولكن كانوا يكابرون ، ويحتمل { بِغَيْرِ عِلْمٍ } : على جهل يقولون ذلك . وقوله - عز وجل - : { سُبْحَٰنَهُ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يَصِفُونَ } . هو حرف تعظيم وتنزيه جعل فيما بين الخلق : به يعظمون ، وبه ينزهون ، وبه ينفون كل عيب فيهم ؛ فعلى ذلك ذكر عند وصف الكفرة بالولد والشريك والعيوب ؛ تنزيهاً وتبرئة عن كل عيب وصفة ، وتعالياً عن جميع ما قالوا فيه ، وهو - والله أعلم - كما يقولون : معاذ الله ؛ تعظيماً وتبريئاً من ذلك . وفي قوله : { سُبْحَٰنَهُ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يَصِفُونَ } نقض قول المعتزلة ؛ [ لقولهم ] : إن صفات الله ليست إلا وصف الواصفين ، فلو لم يكن [ إلا وصف الواصف ] لا غير لكان لا معنى لذم بعض الواصفين وحمد بعضهم ؛ فثبت أن في ذلك صفة سوى وصف الواصفين . وقوله - عز وجل - : { بَدِيعُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ } . قوله : { بَدِيعُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } أي : أنشأهما بلا احتذاء ولا امتثال بغير ، وقوله هذا يرد على القرامطة قولهم ؛ [ لأنهم يقولون : خالق ، [ ولا يقولون مبدع ] ، ويقولون : المبدع الثاني هو أول مخلوق خلق منه جميع العالم ، فلو كان أول خلق خلق مبدعاً فهو مبدع ، والإبداع : هو إحداث شيء لم يسبق له أصل ولا مثال ؛ ولهذا يقال لمن أحدث في دينه شيئاً : مبتدع ؛ لأنه أحدث فيه شيئاً لم يسبق له أصل ولا مثال . وقوله - عز وجل - : { بَدِيعُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ } . أي : من قدر على إبداع السماوات والأرض ، لا عن أصل سبق ولا عن مثال تقدم ؛ فأنى يقع له الحاجة إلى الولد ؟ ! والولد في الشاهد إنما يتخذ ؛ [ لإحدى ] خصال ثلاث : إما للانتصار على الأعداء والانتقام منهم ، وإمّا لوحشة تأخذهم ، وإما لحاجة تمسّهم ؛ فالله - سبحانه وتعالى - يتعالى عن ذلك كله فأنى يتخذ ولداً ؟ ! والثاني : { أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ صَٰحِبَةٌ } ، أي : تعرفون أن الولد لا يكون في الشاهد إلا عن صاحبة [ وليست له صاحبة ] فأنى يكون له ولد ؛ كأن الخطاب كان في قوم ينفون عنه الصاحبة ، وإنما الحاجة إلى الصاحبة ؛ للشهوات التي مكنت فيهم ؛ فالشهوة هي التي تقهر المرء وتحمله على الحاجة . وقوله - عز وجل - : { وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ } . فيه نقض قول المعتزلة ؛ لأنه أخبر أنه خلق كل شيء ، وعلى قولهم : لم يخلق جزءاً من ألف جزء من الأشياء ؛ لأنهم يقولون : إن الله لم يخلق أفعال العباد ، ولا حركاتهم ، ولا سكناتهم ، ولا قيامهم ، ولا قعودهم ، ولا شيئاً من ذلك ، ثم لا يجوز أن تصرف الآية إلى الخصوص ، وهو يخرج مخرج الامتداح ، ولو جاز أن يصرف هذا على شيء دون شيء لجاز لغيرهم أن يصرفوا قوله : { وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } إلى شيء دون شيء وكذلك قوله : { وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ } على قول المعتزلة هو خالق بعض الأشياء ليس هو بخالق الأشياء كلها ؛ على ما أخبر فلئن جاز صرفه إلى بعض الأشياء دون بعض ؛ لجاز - أيضاً - صرف قوله { عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ } . وقيل : إلى بعض دون بعض ، حفظ بعض الأشياء ولم يحفظ الكل ، فإن لم يجز هذا ؛ لأنه خرج مخرج الامتداح ؛ فعلى ذلك لا يجوز صرف الأول إلى بعض دون بعض ؛ لأنه امتداح ، ولئن جاز أن يقال بأن العبد هو خالق ذلك ، جاز أن يقال : هو خالق الكل ، والقادر عليه ؛ فهذا سمج بيّن ، نسأل الله العصمة عن السرف في القول ، والزيغ عن الحق ؛ فإنه لا حول ولا قوة إلا بالله . وقوله - عز وجل - : { ذٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمْ } . أي : ابتدع خلق السماوات والأرض ، وما ذكر من أنواع المنن والنعم التي أنعمها عليهم ؛ من نحو : ما جعل لهم من النجوم ؛ ليهتدوا بها في الظلمات ، وما ذكر أنه أنشأهم من نفس واحدة ، وما ذكر من إنزال الماء من السماء ، وإخراج ما أخرج به من النبات والثمار والحبوب والأعناب ، وغير ذلك من عجيب حكمته ، ذلك كله بالله الذي { لاۤ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } ، منشئ ذلك كله . { فَٱعْبُدُوهُ } . أي : إليه وجهوا شكر نعمه ، ولا توجهوا إلى غيره ، قال الكيساني : بديع السماوات [ والأرض ] ، وبادع السماوات [ والأرض ] واحد ؛ كما يقال : عليم وعالم ، و ( بدع ) و ( ابتدع ) : بمعنى واحد . وقال بعضهم : هو مثل قوله : { فَاطِرِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } [ الأنعام : 14 ] . وقوله - عز وجل - : { لاَّ تُدْرِكُهُ ٱلأَبْصَٰرُ وَهُوَ يُدْرِكُ ٱلأَبْصَٰرَ } . قيل : كنى بالأبصار عن الخلق ؛ كأنه قال : لا يدركه الخلق ، وهو يدرك الخلق ، وإنما كنى بالأبصار عن الخلق ؛ لما بالأبصار تدرك الأشياء ويحاط بها ؛ لذلك كان معنى الكناية ، والله أعلم . وقيل : هو [ على ] حقيقة الأبصار ، [ و ] كذلك بصر القلب ؛ لما به نفع المعارف ، فإن كان بصر الوجه ، ففيه دليل إثبات الرؤية ؛ لأنه نفى عنه الإدراك ، فلو [ لم يكن يحتمل الرؤية ] لم يكن لنفي الإدراك معنى ؛ لأنه لا يدرك ما لا يرى ؛ فدل نفي الإدراك على أن هنالك رؤية ، لكنه لا يدرك ولا يحاط بها ؛ على ما ذكر : { وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً } [ طه : 110 ] ؛ إذ من الأشياء الظاهرة مما يقع عليها البصر يكون لها سر ، وفيها خفاء ؛ من نحو : البصر ، والسمع [ واللسان ] ، والأنف ، واليد ، وغير ذلك من الأشياء : مما لا يدرك حقيقة ماهيتها وكيفيتها ولا تقديرها : [ يبصر ] بالبصر أشياء لا يعرف حقيقة كيفية البصر ولا ماهيته ، وكذلك السمع : لا يدري أنه كيف هو ؟ ولا بم يسمع ؟ وكذلك هذا في كل جارحة وحاسة : تجد اليوم خشونة الشيء الذي تمسه ولينه ، لا تعرف : بم تجد ذلك وتعرفه ؟ وكذلك الكلام من اللسان ، والشم من الأنف لا يدري ما هو ؟ وكيف ؟ وبم يجد تلك الرائحة والنتن ؟ فإذا كانت معارف الخلق في الأشياء الظاهرة التي يقع عليها البصر لا يدرك حقيقة ماهيتها ، ولا يعرف كيفيتها ، ولا يحاط بها علما ؛ فالله - سبحانه - الذي بحكمته وضع ذلك ، وبلطفه ركب - أبعد عن الإدراك ، وأحرى ألا يحاط به ، ولا يدرك . وهذا يرد على المجسمة مذهبهم ؛ لأنهم يصورون ربهم في قلوبهم ، ويمثلونه ، فعلى ذلك يعبدونه ، فهم مشبهة . وأصله أن الله - تبارك وتعالى - يعرف بالآيات والدلائل ، لا بالمحسوسات والمشاهدات ، وكل شيء سبيل معرفته الآيات والدلائل : فهو غير محاط به ولا يدرك ؛ فهو على ما وصف نفسه : { وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً } [ طه : 110 ] ، { لاَّ تُدْرِكُهُ ٱلأَبْصَٰرُ } ؛ لأن الإدراك والإحاطة إنما يقعان بالمحسوسات ، لا بما يعرف بالآيات والدلائل ، وعلى ذلك جاءت دلائل الرسل [ به ] ؛ نحو ما قال موسى - حين سأله فرعون - : { فَمَن رَّبُّكُمَا يٰمُوسَىٰ * قَالَ رَبُّنَا ٱلَّذِيۤ أَعْطَىٰ كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ } [ طه : 49 - 50 ] ، وقال إبراهيم : { رَبِّيَ ٱلَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ } [ البقرة : 258 ] ، وقال : { فَإِنَّ ٱللَّهَ يَأْتِي بِٱلشَّمْسِ مِنَ ٱلْمَشْرِقِ } [ البقرة : 258 ] دلالة على ألوهيته ووحدانيته من جهة الآيات والدلائل ، لا من غيره . وعلى ذلك دل الله الخلق على معرفة وحدانيته وربوبيته ، بقوله : { وَهُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلنُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا } [ الأنعام : 97 ] ، وقال : { هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ ٱلشَّمْسَ ضِيَآءً وَٱلْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ } [ يونس : 5 ] ، وقال : { وَهُوَ ٱلَّذِيۤ أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ } [ الأنعام : 99 ] إلى آخر ما ذكر ، دلهم على ما به يعرفون ألوهيته ووحدانيته من جهة الآيات والدلائل ، لا من جهة ما تقع به الإحاطة والإدراك ، وبالله الهداية والرشاد . وقوله - عز وجل - : { وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلْخَبِيرُ } . قيل : اللطيف : في أفعاله ، الخبير بخلقه وبأعمالهم . وقيل : اللطيف : البار الرحيم . وقيل : اللطيف : هو العليم بخفيات الأشياء . والخبير بظواهر الأشياء . ثم هو اللطيف : العظيم ، والعظيم في الشاهد : غير اللطيف ، واللطيف : غير العظيم ؛ لأن العظيم في الشاهد هو الذي به كثافة ، واللطيف : ما يلطف في نفسه ويرق ، وكل واحد منهما مما يناقض الآخر ؛ ليعلم أنه لطيف عظيم ، لا من الوجوه التي تعرف في الخلق ؛ وكذلك قوله : { هُوَ ٱلأَوَّلُ وَٱلآخِرُ وَٱلظَّاهِرُ وَٱلْبَاطِنُ } [ الحديد : 3 ] هو أول وآخر وظاهر وباطن ، وفي الخلق : من كان أولا لم يكن آخراً ، ومن كان ظاهراً لم يكن باطناً ؛ ليعلم أنه أول وآخر وظاهر وباطن ، لا من الوجه الذي يعرف ويفهم من الخلق ؛ ولكن مما وصف نفسه .