Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 6, Ayat: 95-99)
Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله - عز وجل - : { إِنَّ ٱللَّهَ فَالِقُ ٱلْحَبِّ وَٱلنَّوَىٰ } . قيل : فالق الحب والنوى كما قال الله - تعالى - : { فَاطِرِ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } [ الأنعام : 14 ] ؛ وكقوله تعالى : { قُلِ ٱلَّذِي فَطَرَكُمْ } [ الإسراء : 51 ] أي : خلقكم يخبر أنه خالق الحب والنوى ، خص الحب [ والنوى ] بالذكر لما منهما خلق جميع ما في الدنيا من الأنزال والحبوب ؛ كقوله تعالى : { خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ } [ النساء : 1 ] منذ ما خلق ما في الدنيا من البشر ، فأضاف ذلك إليه ؛ فعلى ذلك لما خلق هذه الأنزال كلها من الحب والنوى ، ومنها أخرج ، أضاف إليها ذلك ، والله أعلم . ويحتمل : أن يكون ليس بإخبار عن ابتداء إنشاء ، ولكن إخبار عن لطفه . والفلق : هو الشق ، يخبر أنه يشق النواة مع شدتها وصلابتها ، ويخرج منها نبتاً أخضر ليناً ، ما لو اجتمع كل الخلائق على إنفاذه وإخراج مثله من غير أذى يصيب ذلك النبت ما قدروا عليه ، يخبر عن لطفه وقدرته ، أي : من قدر على هذا لقادر على إعادة الخلق وبعثهم بعد إماتتهم وإفنائهم ، وإن لم يبق لهم أثر ؛ كما قدر على هذا ، يعرفهم قدرته أنها غير مقدرة بقدرة الخلق وبقوتهم ، بل خارجة عن قوتهم ؛ لأن قوته وقدرته ذاتية أزلية بلا سبب ، وقوتهم وقدرتهم بأسباب ؛ وكذلك ما يشق من الورق الضعيف اللين الشجر والنخل مع شدته وصلابته ، ما لو اجتمع الخلائق كلهم على شق ذلك الشجر بذلك الورق مع لينه ما قدروا عليه ، يعرفهم لطفه وقدرته أنه لا يعجزه شيء . وفيه أن ذلك فعل واحد ؛ لأنه لو كان فعل عدد لكان إذا أراد هذا شقه منع الآخر عن ذلك . وفيه أنه على تدبير خرج لا جزافاً ؛ حيث اتفق ذلك في كل عام على قدر واحد . وقوله - عز وجل - : { يُخْرِجُ ٱلْحَيَّ مِنَ ٱلْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ ٱلْمَيِّتِ مِنَ ٱلْحَيِّ } . إن الحب والنوى التي ذكر ميت ، فيخرج منهما النبات الأخضر حيّاً ، ثم يميت ذلك ويخرج منه حباً ونوى . وفيه دلالة البعث بعد الموت ؛ يقول : إن الذي قدر على إخراج النبات الأخضر الحي من حبة ميتة أو نواة ميتة ، وليس فيها من أثر ذلك الحي شيء - لقادر أن يبعثهم ويحييهم بعد الموت ، وإن لم يبق من أثر الحياة شيء ، وقد ذكرنا هذا فيما تقدم في غير موضع . وقوله - عز وجل - : { ذٰلِكُمُ ٱللَّهُ فَأَنَّىٰ تُؤْفَكُونَ } . أي : ذلكم الذي يفعل ذلك هو الله - تعالى - لا الأصنام التي تعبدونها وأشركتم في عبادتكم لله وألوهيته [ أي ] ، أيُّ حجة تصرفكم عما ذكر ؟ أي : لا حجة لكم في صرف الألوهية عنه إلى غيره ، ولا صرف العبادة إلى الأصنام . وقوله - عز وجل - : { فَأَنَّىٰ تُؤْفَكُونَ } . قيل : فأني تصرفون عما ذكر من دلالات وحدانيته وألوهيته وربوبيته . والإفك : هو الصرف في اللغة ؛ كقوله : { قَالُوۤاْ أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا } [ الأحقاف : 22 ] [ أي : ] لتصرفنا . وقيل : تؤفكون : تكذبون ، أي : ما الذي حملكم على الكذب ؟ والكذب والصرف واحد في الحقيقة ؛ لأن الكذب هو صرف قول الحق إلى الباطل ، وهما واحد . وقوله - عز وجل - : { فَالِقُ ٱلإِصْبَاحِ } . هو يحتمل الوجهين اللذين ذكرتهما في قوله : { فَالِقُ ٱلْحَبِّ وَٱلنَّوَىٰ } : خبر عن ابتداء خلقه . ويحتمل الشق ، أي : يشق النهار من الليل ، والليل من النهار بعد ما تلف كل واحد منهما [ حتى ] لم يبق له أثر ، ففيه دليل البعث والإحياء بعد الموت ، أي : أن الذي قدر على إنشاء النهار من الليل والليل من النهار بعد ما تلف وذهب أثره - لقادر على إنشاء الخلق ، وبعثهم بعد الموت وذهاب آثارهم . وقوله - عز وجل - : { وَجَعَلَ ٱلْلَّيْلَ سَكَناً } . جعل الله الليل سكناً وراحة للخلق ، والنهار معاشاً لهم يعيشون فيه ، وجعلهما آيتين من آيات ربوبيته ووحدانيته مسخرين ، يغلبان الخلائق ويقهرانهم ، ويكونون تحت سلطانهما ويجريان على سنن واحد ؛ [ ومجرى واحد ] دل أن لهما مدبراً خالقاً عليما ، ولو كانا يجريان بطباعهما لكان يختلف جريانهما ، ولم يتسق ، فدل اتساقهما وجريانهما مجرى واحداً أن لغير فيهما تدبيرا ؛ وكذلك الشمس والقمر جعلهما مسخرين لمنافع الخلق ؛ لنضج الأنزال وينعها ، ولمعرفة عدد الأيام والشهور والسنين ، ويجريان مجرى واحداً ومسلكاً واحداً غير مختلف ؛ دلّ ذلك أنهما كانا بمدبر عليم حكيم . وفي قوله : { فَالِقُ ٱلإِصْبَاحِ وَجَعَلَ ٱلْلَّيْلَ سَكَناً } دلالة نقض قول المعتزلة ؛ لأن الإصباح هو فعل الخلق ؛ لأنه مصدر أصبح ، وكذلك السكن هو فعل الخلق ، ثم أضاف ذلك كله إلى نفسه ؛ دل أنه خالق أفعالهم . وقوله - عز وجل - : { وَٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ حُسْبَاناً } اختلف فيه ؛ قال أبو عبيد : هو من الحساب ، وهو جمع حساب ، [ يقال : حساب وحسبان ] ؛ مثل : شهاب وشهبان ؛ وهو كقوله : { هُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ ٱلشَّمْسَ ضِيَآءً وَٱلْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ ٱلسِّنِينَ وَٱلْحِسَابَ } [ يونس : 5 ] . وقيل : حسباناً ، أي : جريانا ، يجريان ويدوران أبداً لا يستريحان ؛ دل أنهما كانا بغير مسخرين للخلق ؛ لأنهما لو كانا بطباعهما لكانا يستريحان . وقيل : حسباناً ، أي : ضياء ؛ كقوله : { جَعَلَ ٱلشَّمْسَ ضِيَآءً وَٱلْقَمَرَ نُوراً } [ يونس : 5 ] ، والله أعلم بذلك . وقوله - عز وجل - : { ذٰلِكَ تَقْدِيرُ ٱلْعَزِيزِ ٱلْعَلِيمِ } . أي : ذلك الجريان الذي ذكر ، أو تلك المنافع التي جعلت فيها تقدير العزيز [ العليم ] . قال الحسن : العزيز : هو الذي لا يعجزه شيء ، والعزيز : هو الذي [ به ] يعز كل عزيز . وقال بعض أهل التأويل : العزيز : المنيع في سلطانه ، المنتقم من أعدائه ، العليم بمصالح الخلق وبما كان ويكون وبحوائجهم ، وبالله التوفيق . وقوله - عز وجل - : { وَهُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلنُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَٰتِ ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ } . والمراد منه : الظلمات ، وذكر في قوله : { قُلْ مَن يُنَجِّيكُمْ مِّن ظُلُمَاتِ ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ } [ الأنعام : 63 ] وأراد بالظلمات : الشدائد والأهوال التي تصيبهم . ألا ترى أنه قال : { تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً } [ الأنعام : 63 ] عند الشدائد والأهوال كانوا يدعون ربهم تضرعاً وخفية ، على ما ذكرهم هاهنا عظيم سلطانه وقدرته لما يدفع عنهم الشدائد [ وينجيهم من ] الأهوال التي تنزل بهم ، فالدافع عنهم ذلك هو لا الأصنام التي يعبدون [ من ] دون الله ويشركونها في عبادته . ويذكر في قوله : { وَهُوَ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلنُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَٰتِ ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ } عظيم ما أنعم عليهم بما جعل لهم من السماء نجوماً ليهتدوا بها للطرق والمسالك في البحار والبراري عند اشتباهها عليهم . وفيه دليل وحدانية الرب وتدبيره وحكمته ؛ لأنه جعل في السماء أدلة يهتدون بها ، ويستدلون على معرفة الطرق مع بعد ما بينهما من المسافة ، وتسوية أسباب الأرض بأسباب السماء ، وتعلق منافع بعضها ببعض ؛ ليعلموا أنه كان بواحد مدبر عليم حكيم ؛ إذ لو كان بعدد أو بمن لا تدبير له ولا حكمة ، لم يحتمل ذلك ، ولم يتسق ما ذكرنا ؛ دل أنه كان بالواحد العليم الحكيم ، مع علمهم أن الأصنام التي يعبدونها وأشركوها في عبادته لا يقدرون على ذلك ، لكنهم يعبدونها ويشركونها في ألوهيته سفهاً منهم وعناداً ، وبالله العصمة والتوفيق . وفي قوله : { فَالِقُ ٱلْحَبِّ وَٱلنَّوَىٰ } [ الأنعام : 95 ] ، وقوله : { فَالِقُ ٱلإِصْبَاحِ } [ الأنعام : 96 ] ، وقوله : { جَعَلَ لَكُمُ ٱلنُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا } ، وغير ذلك من الآيات التي ذكر تذكير نعمه وإحسانه إليهم ليتأدى بذلك شكرهم ويجعل السعي له . وجائز أن يستدل به على تذكير قدرته وسلطانه : أن من قدر على ما ذكر لا يحتمل أن يعجزه شيء . و [ فيه ] تذكير تدبيره وعلمه وحكمه على ما ذكرنا من اتساق الأمور والحال على أمر واحد . وقوله - عز وجل - : { قَدْ فَصَّلْنَا ٱلآيَٰتِ } : [ قيل : صرفنا الآيات ] ، أي : صرفنا كل آية إلى موضعها الذي يكون لهم دليلا عند الحاجة إليها . وقيل : { قَدْ فَصَّلْنَا ٱلآيَٰتِ } [ قد ] بينا الآيات { لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } ، أي : لقوم ينتفعون بعلمهم وإذا انتفعوا بها صارت الآيات لهم ؛ لأن من انتفع بشيء يصير ذلك له ؛ لذلك ذكر لقوم يعلمون ؛ لأنهم إذا لم ينتفعوا بها لم تصر الآيات لهم . وقوله - عز وجل - : { وَهُوَ ٱلَّذِيۤ أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَٰحِدَةٍ } [ الأنعام : 98 ] . فيه دلالة أنه يبدئ ويعيد من غير شيء ؛ لأنه أخبر أنه خلق البشر كله من نفس واحدة ، والخلائق كلهم لو اجتمعوا ما احتملت الأرض ، ولم تكن الخلائق بأجمعهم في تلك النفس الواحدة ، دل أنه قادر على الابتداء والإعادة لا من شيء ؛ إذ لم يكن لتلك النفس التي خلق الخلائق منها تقدمة شيء . وقوله - عز وجل - : { فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ } [ الأنعام : 98 ] . قال الحسن : مستقر في الآخرة بعمله الذي ختم به : إن ختم بعمل الخير يبقى أبداً في الخير ، وإن ختم بشر يبقى أبداً في شر ، ومستودع في أجله ، ينتقل من وقت إلى وقت ومن حال إلى حال . وقيل : مستقر في الدنيا . ويشبه أن يكون مستقر ومستودع في كل حال وكل وقت مستقر ( في ) [ أرحام النساء ومستودع في أصلاب الرجال ، وهو قول عامة أهل التأويل ، وقيل مستقر في القبر ، ومستودع في الدنيا ، ويشبه أن يكون { فَمُسْتَقَرٌّ } ] في حال القيام حتى ينتقل إلى حال أخرى ، { وَمُسْتَوْدَعٌ } [ لما هو على شرف الانتقال إلى أخرى . وجائز أن يكون قوله { فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ } : مستقر ] في الآخرة بالجزاء لأعمالهم التي عملوا ، ومستودع في الدنيا . ويحتمل : مستقر بالليالي ، ومستودع بالنهار ، والأول لبني آدم خاصة . ثم قوله - عز وجل - : { لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } ، { لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ } الفقه هو معرفة الشيء بمعناه الدال على نظيره ، والعلم ما يعرف نفسه ؛ ولهذا لا يقال : الله فقيه ، ويقال : عالم ؛ لأنه عالم بالأشياء [ بذاته لا ] بأغيارها ونظائرها ، [ والفقيه : هو الذي يعرف الأشياء بأغيارها ونظائرها ودلائلها ] . وقوله - عز وجل - : { وَهُوَ ٱلَّذِيۤ أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ } [ الأنعام : 99 ] . يذكرهم عز وجل عظيم منته بما ينزل من السماء من الماء ، ويخرج به نبات كل شيء ؛ كما ذكرهم من النعم بما جعل لهم من [ الشمس والنجوم ؛ ليهتدوا ] بها في الظلمات واشتباه الطريق ، وما جعل الليل للسكون والراحة ، والنهار للمعاش والتقلب ، وما جعل لهم من الشمس والقمر ، وجعل لهم فيهما من المنافع من نضج الأنزال والزروع وينعهما ومعرفة عدد السنين والحساب والآجال التي يجعلون للعقود ، وغير ذلك من النعم التي أنعمها عليهم ؛ لئلا يرجعوا شكر هذه النعم إلى غيره ، ولا يتخذوا إلهاً سواه ، وقد ذكرنا أن سورة الأنعام نزل أكثرها في محاجة أهل الشرك في إثبات الوحدانية له والألوهية لله ، وإثبات الرسالة والنبوة ، وإثبات البعث بعد الموت ؛ لأنهم كانوا ينكرون ذلك كله . وقوله - عز وجل - : { فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ } . يحتمل قوله : { نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ } ] ما بالخلق حاجة إليه ؛ ليعلم أن كل ما يخرج في الأرض أصله من الماء به ينبت [ مما يكون غذاء ] البشر وغذاء الحيوان كلهم والطيور ؛ كقوله : { وَجَعَلْنَا مِنَ ٱلْمَآءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ } [ الأنبياء : 30 ] يذكرهم عظيم ما جعل لهم في الماء من المنافع ، على ما أخبر أنه به يخرج نبات كل شيء ، وبه حياة كل شيء ، [ ثم ] من الأوقات ما لو نزل من السماء ماء لم يُنبت ؛ دل أنه إنما ينبت بتدبير غير لا بالماء . وقوله - عز وجل - : { فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً } . قيل : به يخرج أول ما يخرج خضرا يكون ابتداء كل نبت أخضر ، ثم يتحول إلى لون آخر ، ومنهم من قال : به يعني بالماء وهو ما يبقى أخضر لولا الماء وإلا يبس وتغير عن حال ابتدائه . وقوله - عز وجل - : { نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُّتَرَاكِباً } يخبر عن لطفه وصنعه بما يخرج من الحب متراكباً بعضه على بعض ، ما لو اجتمع الخلائق كلهم لم يقدروا على تركيب مثله ؛ ليعلموا أن لغير في ذلك تدبيرا وصنعا . وفيه دلالة أنه قد ينشيء الأشياء من لا شيء ولا سبب ، وإن كان قد أنشأ بعضها بأسباب ؛ نحو أن أخرج [ من الحبة والنواة نباتاً أخضر ، ولم يكن في الحب نبات ثم أخرج ] من ذلك النبات الأخضر حبوباً ، ولم تكن الحبوب في النبات ؛ ليعلموا أنه قادر على إنشاء الأشياء لا من شيء ولا سبب . وفيه نقض قول الدهرية في كون الأشياء في شيء واحد كما هي ؛ لأنه لا يحتمل [ أن يكون ] عشرة آلاف نواة أو حبة [ في ] نواة واحدة أو في حبّة واحدة ، أو تكون الشجرة مع طولها وغلظها وعظمها في نواة أو حبة . وقوله - عز وجل - : { وَمِنَ ٱلنَّخْلِ } . أي : يخرج من النخل طلعها بالماء ، وفيه من عظيم لطفه وتدبيره أن جعل النخيل والأشجار تتشرب بعروقها الماء ، ثم ينتشر [ ذلك ] في أصلها إلى أغصانها ، ثم يخرج منه ويظهر خضراً ؛ ليعلم عظيم تدبيره ولطفه . وقوله - عز وجل - : { قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ } . قيل : القنوان : العروق يكون فيها التمر والثمار ، واحدها : قنو . وقوله - عز وجل - : { دَانِيَةٌ } : قال الحسن : دانية بعضها إلى بعض مجتمعة غير متفرقة ، على ما يكون من الأعناب والثمر والحبوب ، فإن كان هذا فهو في الكل . وقال بعضهم : دانية : قريبة ملتزقة بالأرض ، يناله القائم والقاعد جميعاً . وعن ابن عباس : { قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ } : قصار النخل اللاصقة عذوقها بالأرض . وقوله - عز وجل - : { وَجَنَّٰتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ } . أي : أخرج بالماء جنات وكروما . { وَٱلزَّيْتُونَ وَٱلرُّمَّانَ } قيل : أخرج بالماء - أيضاً - الزيتون والرمان [ وقال بعضهم : ( الزيتون والرمان ) ] { مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَٰبِهٍ } أي : يشبه ورق الزيتون في المنظر ورق الرمان . { وَغَيْرَ مُتَشَٰبِهٍ } : ثمرتها في اللون والطعم ، ولكن هو على الكل على كل الثمار ، ولا يشبه بعضها بعضاً : منها ما يشبه ساق هذا بساق آخر والثمار والحبوب مختلف . ومنها ما يشبه في اللون ، والطعم مختلف . ومنها ما يشبه في الطعم ، واللون مختلف . ليعلموا أن لغير في ذلك تدبيرا وصنعاً لطيفاً لم يكن كذلك بالماء ؛ لأنه لو كان كذلك بالماء لكان لا يختلف كل هذا الاختلاف في اللون والطعم والساق والورق ؛ دل أنه كان كذلك لغير - عليم مدبر حكيم - أنشأه على ما أراد بلطفه . وقوله - عز وجل - : { ٱنْظُرُوۤاْ إِلِىٰ ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ } : يحتمل الأمر بالنظر وجوهاً ؛ أي [ يحتمل ] : انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه أي : كيف يقلبها ، ويحولها من حال إلى حال ، ومن لون إلى لون ، وأنه يخرج في ساعة لطيفة ما لو اجتمع الخلائق على تقديره ومعرفته أي كم خرج [ وأي مقدار ] خرج لم يقدروا عليه ؛ ليعلموا أنه قادر على إحياء الخلق بمرة واحدة . وفي إنزال المطر من السماء مع بعدها آية عجيبة وحكمة بالغة ، وهو أن ينزله واحداً [ واحداً ] حتى لا يختلط بعضه ببعض مع كثرة المطر وازدحامه وبعد السماء ما لو اجتمع الخلائق على حفظ مثله ما قدروا عليه [ دل ] أنه كان بمدبر عليم حكيم . وقوله - عز وجل - : { إِنَّ فِي ذٰلِكُمْ لأَيَٰتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [ الأنعام : 99 ] . قد ذكرنا أنها تصير آيات لمن صدق بها وآمن ، وأما من عاند وكابر ولم يتأمل فيها لم يفهم [ ما فيها ] من عجيب آياته وعظيم منته . وفي قوله : { ٱنْظُرُوۤاْ إِلِىٰ ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ } وجهان آخران من الحكمة : [ أحدهما ] : أن انظروا إلى ثمره إذا أثمر أنه أول ما يخرج يخرج على لون واحد وعلى قدر واحد وعلى طعم واحد ، ثم يختلف ألوانها وطعمها وتتفاوت أقدارها ؛ ليعلموا أنه كان بتدبير واحد عليم حكيم قادر على خلق الأشياء بلا سبب ؛ لأنه لو كان كذلك بسبب لا بتدبير فيه كان سبب هذا كله واحداً ، فيجيء أن يخرج كله على سنن واحد ؛ دل أنه خالق بذاته لا بسبب . والثاني : أن انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه أنه جعل ما يطيب منه للبشر ، وعلمهم أسبابا يتخذون بها الطيبات من ذلك من نحو النضج والطبخ وغيره ، وجعل لغيرهم من الحيوان كما هو خارج من الأرض ؛ ليعلموا أن غيرهم من الحيوان والدواب إنما جعلهم لمنافع البشر مسخرين لهم ، وأن البشر هم المقصودون في خلق الأشياء كلها ، وبالله الحول والقوة ، وله المنة والفضل .