Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 6, Ayat: 141-144)
Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله - عز وجل - : { وَهُوَ ٱلَّذِيۤ أَنشَأَ جَنَّٰتٍ مَّعْرُوشَٰتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَٰتٍ } . ذكر هذا - والله أعلم - مقابل ما كان منهم من تحريم ما أحل الله لهم ورزقهم من الحرث ، والزرع ، والأنعام ، والانتفاع بها ، فقال : أنشأ جنات وبساتين من تأمل فيها وتفكر ، عرف أن منشئها مالك حكيم مدبر ؛ لأنه ينبتها ويخرجها من الأرض في لحظة ما لو اجتمع الخلائق على تقديرها : أن كيف خرج ؟ وكم خرج ؟ وأي قدر ثبت ؟ ما قدروا على ذلك ؛ كقوله : { وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ } [ الحجر : 19 ] ، ويخرج من الورق والثمار على ميزان واحد : ما لو جهدوا كل الجهد أن يعرفوا الفضل والتفاوت بين الأوراق والثمار ما قدروا ، وما وجدوا فيها تفاوتاً . ويخرج - أيضاً - كل عام من الثمار والأوراق ما يشبه العام الأول ؛ فدل ذلك كله أن منشئها ومحدثها مالك حكيم ، وضع كل شيء موضعه ، وأن ما أنشأ [ أنشأ ] لحكمة وتدبير لم ينشئها عبثاً ؛ فله الحكم والتدبير في الحل الحرمة والقسمة ، ليس لأحد دونه حكم ولا تدبير في التحريم والتحليل : { هَـٰذَا حَلاَلٌ وَهَـٰذَا حَرَامٌ } [ النحل : 116 ] ، وهذا لهذا وهذا لهذا ؛ إنما ذلك إلى مالكها ؛ فخرج هذا - والله أعلم - مقابل ما كان منهم من قوله : { وَقَالُواْ هَـٰذِهِ أَنْعَٰمٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لاَّ يَطْعَمُهَآ إِلاَّ مَن نَّشَآءُ بِزَعْمِهِمْ } [ الأنعام : 138 ] ، [ وقوله : { هَـٰذَا للَّهِ بِزَعْمِهِمْ } ] { وَهَـٰذَا لِشُرَكَآئِنَا } [ الأنعام : 136 ] ، وقوله - تعالى - : { وَأَنْعَٰمٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَٰمٌ لاَّ يَذْكُرُونَ ٱسْمَ ٱللَّهِ عَلَيْهَا ٱفْتِرَآءً عَلَيْهِ } [ الأنعام : 138 ] ، وغير ذلك من الآيات التي كان فيها ذكر تحكمهم على الله ، وإشراك أنفسهم في حكمه . ثم اختلف في قوله : { مَّعْرُوشَٰتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَٰتٍ } : قيل : معروشات : مبسوطات ما ينبت منبسطا على وجه الأرض ، { وَغَيْرَ مَعْرُوشَٰتٍ } : ما يقوم بساقه ، لا ينبسط على الأرض . وقيل : معروشات : ما يتخذ له العريش ، من نحو العرجون والقرع وغيره ، وغير معروشات : ما لا يقع الحاجة إلى العرش ؛ من نحو : النخيل والأشجار المثمرة ، وهما واحد . وقيل : على القلب ، معروشات : ما تقوم بساقها ، وغير معروشات : ما لا ساق لها ، والله أعلم . وتعريشه ما ذكر على أثره . { وَٱلنَّخْلَ وَٱلزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَٱلزَّيْتُونَ وَٱلرُّمَّانَ مُتَشَٰبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَٰبِهٍ } . منها ما يكون متشابهاً في اللون ومختلفاً في الأكل والطعم ، ومنها ما يكون مختلفاً في اللون والمنظر متشابهاً في الطعم والأكل ؛ ليعلموا أن منشئها واحد ، وأنه حكيم أنشأها على حكمة ، وأنه مدبر : أنشأها عن تدبير ، لم ينشئها عبثاً . [ و ] من الناس من يقول : إن قوله : { مُتَشَٰبِهاً } في الذي ذكر ، وهو الرمان والزيتون ؛ لأن ورقهما متشابه ، والثمرة مختلفة . ومنهم من يقول : فيهما وفي غيرهما ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ } . كأنه قال : كلوا من ثمره إذا أثمر ، ولا تحرّموا ؛ خرج على مقابلة ما كان منهم من التحريم ، أي كلوا منها ، ولا تحرموا ؛ ليضيع ويفسد . وقوله - عز وجل - : { وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } . ذكر - عز وجل - الإيتاء مما يحصد بعد ذكر النخيل ، والزرع ، والزيتون ، والرمان ، حبّاً وغير حب ، وما يقع فيه الكيل وما لا يقع ، مجملا عاما ولم يفصل بين قليله وكثيره . ففيه دلالة وجوب الصدقة والعشر في قليل ما تخرج الأرض وكثيره . وكذلك قوله - تعالى - في سورة البقرة : { وَمِمَّآ أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ ٱلأَرْضِ } [ البقرة : 267 ] . وحديث معاذ - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " في كل ما أخرجت الأرض العشر ، أو نصف العشر " . وحديث ابن عمر - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كتب إلى أهل اليمن بذلك . وما روي عن أنس - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم [ أنه ] قال : " فيما أخرجت الأرض - قليله وكثيره - العشر " . وخبر معاذ ، قال : " بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن ، فأمرني أن آخذ [ من كل حالم ] دينارا ، أو عدله معافريّاً ، وأمرني أن آخذ من كل أربعين مسنة ، ومن كل ثلاثين تبيعاً ، ومن كل ما سقت السماء العشر ، وما سقي بالديالي نصف العشر " . إلى هذا كله يذهب أبو حنيفة - رحمه الله - ويوجب الصدقة في قليل الخارج من الأرض وكثيره . ثم اختلف أهل التأويل في تأويل الحق الذي ذكره الله في قوله : { وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } : قال قوم : هي صدقة سوى الزكاة ؛ واحتجوا بأن الآية مكية ، وأن الزكاة فرضت بالمدينة ، وهي منسوخة بآية الزكاة . وقال قوم : هي الزكاة ، فإن نسخ إنما نسخ قدرها ، لم ينسخ الحق رأساً ؛ لأنهم كانوا يتصدقون بالكل ، فما نسخ إنما نسخ بآية الزكاة قدرها . ألا ترى أنه قال في [ آية ] أخرى : { وَلاَ تُسْرِفُوۤاْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُسْرِفِينَ } . والإسراف في اللغة هو المجاوزة عن الحدّ الذي حد له كقوله : { وَٱلَّذِينَ إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً } [ الفرقان : 67 ] . وقيل في قوله : { وَلاَ تُسْرِفُوۤاْ } ، أي : لا تمنعوا الكل ولكن كلوا بعضه ، وآتوا حقه من بعضه . وقيل : الإسراف - هاهنا - هو الشرك ؛ كأنه قال : ولا تشركوا آلهتكم فيما رزقكم الله من الحرث والأنعام ؛ فتحرموه ولا تنتفعوا به ، والإسراف هو الذي لا ينتفع به أحد ، وما كانوا جعلوا لشركائهم لا ينتفعون به هم ولا انتفع به أحد ؛ يكون مقابل قوله : { هَـٰذِهِ أَنْعَٰمٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ … } الآية [ الأنعام : 138 ] . وأما أبو يوسف ومحمد - رحمهما الله - [ فإنهما ] يذهبان إلى ما روي عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - [ قال ] : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ " ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة ، ولا فيما دون خمس ذود صدقة ، ولا فيما دون خمسة أواق صدقة " وعن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ] " لا صدقة في الزرع ، ولا في الكرم ، ولا في النخل ، إلا ما بلغ خمسة أوسق " ، وذلك مائة فرق . وعن ابن عمر وعبد الله بن عمرو وأبي هريرة - رضي الله عنهم - عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله . وما روى موسى بن طلحة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ليس في الخضراوات صدقة " [ وعن عمر مثله ، وعن علي مثله ، وكذلك روي عن جماعة السلف : أن لا صدقة إلا في الحنطة والشعير والحبوب ، وقال أبو حنيفة - رحمة الله عليه - معنى ذلك كله لا صدقة ] تؤخذ إلا فيما بلغ خمسة أوسق " ، وليس في الخضراوات صدقة تؤخذ ، وما عليه في نفسه صدقة يؤديها هو . ثم إن كان ذلك الحق الذي ذكر في الآية الزكاة ، فإن الآية تدل - والله أعلم - على أن زكاة الحب والثمار إنما تجب فيما بيّن : الجنات المعروشات وغير المعروشات ؛ فدخل في ذلك - والله أعلم - العنب ، وغير العنب ، والثمار كلها ، وقال : { وَٱلنَّخْلَ وَٱلزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَٱلزَّيْتُونَ وَٱلرُّمَّانَ مُتَشَٰبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَٰبِهٍ } ، فدخل جميع ما تخرج الأرض من كل الأصناف التي سبق ذكرها ، وقال : { كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } ، فجعل الحق الواجب فيه يوم يحصد ؛ فيجوز أن يكون عُفي عما قبل ذلك . فإن كان هذا هو التأويل ، فهو - والله أعلم - معنى ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ولو لم يكن قوله - تعالى - : { كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ } عفوا عن صدقة ما يؤكل منه ما كان في ذلك فائدة ؛ لأنّ الثمرة تؤكل ولا تصلح لغير ذلك إلا للوجه الذي ذكرنا ، وهو أنهم كانوا يحرمونها ولا ينتفعون بها ؛ فقال - عز وجل - : كلوا وانتفعوا به ، ولا تضيعوه . وإذا كان قوله : { كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ } عفوا عن صدقة ما يؤكل منه ، ظهرت فائدة الكلام ، وهو على هذا التأويل - والله أعلم - ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا خرصتم فخذوا ودعوا الثلث ، فإن لم تدعوا الثلث فالربع " . وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " ليس في العرايا صدقة " . وعن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه كان يبعث أبا خيثمة خارصا للنخل ، ويقول له : " إذا وجدت أهل بيت في حائطهم ، فلا تخرص بقدر ما يأكلون " . وعن مكحول قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " خفضوا على الناس في الخرص ؛ فإن في المال العرية والوصية " . فدلت هذه الأحاديث [ على ] أنه لا صدقة فيما يؤكل من الثمر رطباً إذا لم يكن فيما يأكلون إسراف . وقدر النبي صلى الله عليه وسلم لذلك الثلث أو الربع ، وذلك - والله أعلم - يشبه ما دلت عليه الآية على تأويل من جعل الحق زكاة ؛ لأن الله - تعالى - قال : { وَلاَ تُسْرِفُوۤاْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُسْرِفِينَ } ؛ فاحتمل أن يكون - أيضاً - معنى ذلك : ولا تسرفوا في الأكل ؛ فيجحف ذلك بأهل الصدقة ، ويحتمل أن يكون ذلك نهياً عن الإسراف في جميع الأشياء ، على ما ذكرنا من قبل . وإذا صح أن لا صدقة فيما يؤكل من الرطب والعنب والثمار بهذا الأخبار ، وأن الصدقة إنما تجب فيما يلحقه الحصاد يابسا يمكن ادخاره - فالواجب ألا يكون في شيء من الخضر التي تؤكل رطبة صدقة ، وألا تكون الصدقة واجبة إلا فيما يبس منها ، ويمكن أن يدخر . فأما البقول والرطاب والبطيخ والقثاء والخيار والتفاح وأشباهها : فلا صدقة فيها ، هذا كله يدل لأبي يوسف ومحمد - رحمهما الله - إلا أنا لا نعلم مخالفا أن فيما يباع من الرطب صدقة ، وإن كان يؤكل كهيئة ، فهذا يفسد ما احتججنا به لأبي يوسف ومحمد ومن وافقهما ، وتأويل ما روي " أن لا صدقة في الخضراوات " ، " وليس في أقل من خمسة أوسق صدقة تؤخذ " ، وإنما عليه في نفسه أن يؤديها ، والله أعلم . وجائز أن يكون قوله : { وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } : على أولئك خاصّة في ذلك الوقت ، أو يقول : وآتوا حقه ولا تصرفوا إلى الأصنام التي تصرفون إليها ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَمِنَ ٱلأَنْعَٰمِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ } . هو صلة قوله : { أَنشَأَ جَنَّٰتٍ مَّعْرُوشَٰتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَٰتٍ } إلى آخر ما ذكر ، وأنشأ - أيضاً - من الأنعام حمولة وفرشاً . ثم اختلف فيه : قال بعضهم : الحمولة : ما يحمل عليها أنشأها للحمل ، والفرش : الصغار منها التي لا تحمل . وقيل : الحمولة : من نحو الإبل والبقر والبغال وغيرها من الحيوان ، والفرش : هو الغنم والمعز التي تؤكل وأنشأها للحم . ويحتمل الفرش : ما يؤخذ من الأنعام ، ويتخذ منه الفرش والبسط . وقال الحسن : الحمولة : ما يحمل عليها وهو خالص ، والفرش : كل شيء من أنواع المال من الحيوان وغيره ؛ يقال : أفرشه الله له ، أي : جعله له . قال ابن عباس - رضي الله عنه - : الحمولة : الإبل والخيل والبغال والحمير ، وكل شيء يحمل عليه ، وإما الفرش فالغنم . وعن ابن عمر - رضي الله عنه - قال : الحمولة : الإبل ، والفرش : البقر والغنم . وقال أبو عوسجة : الحمولة : مراكب النساء ، والفرش : ما يكون للنتاج . وقال القتبي : الحمولة : كبار الإبل التي يحمل عليها ، والفرش : صغارها التي لم تدرك أن يحمل عليها ، وهي ما دون الحقاق ، والحقاق : هي التي تصلح أن تركب ، أي : حق ذلك . وقوله - عز وجل - : { كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَٰتِ ٱلشَّيْطَٰنِ } . قوله : [ { كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ } ووجهوا شكر ذلك إليه ، { وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَٰتِ ٱلشَّيْطَٰنِ } في تحريم ما أحل الله لكم ، وجعل ذلك لكم ] رزقا ؛ كقوله : { وَجَعَلُواْ للَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ ٱلْحَرْثِ وَٱلأَنْعَٰمِ نَصِيباً فَقَالُواْ هَـٰذَا للَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَـٰذَا لِشُرَكَآئِنَا } . وقوله : { هَـٰذِهِ أَنْعَٰمٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لاَّ يَطْعَمُهَآ إِلاَّ مَن نَّشَآءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَٰمٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَٰمٌ لاَّ يَذْكُرُونَ ٱسْمَ ٱللَّهِ عَلَيْهَا } [ الأنعام : 138 ] وقوله : { وَقَالُواْ مَا فِي بُطُونِ هَـٰذِهِ ٱلأَنْعَٰمِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَىٰ أَزْوَٰجِنَا } [ الأنعام : 139 ] ، يقول : كلوا مما رزقكم الله ؛ وكذلك قوله : { كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ } ، وانتفعوا به ، { وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَٰتِ ٱلشَّيْطَٰنِ } : في تحريم ذلك على أنفسكم ، واعرفوا نعمه التي أنعمها عليكم ، ووجهوا شكر نعمه إليه ، ولا توجهوها إلى غيره . ثم قوله : { خُطُوَٰتِ ٱلشَّيْطَٰنِ } . قيل : آثار الشيطان . وقيل : أعمال الشيطان . وقيل : دعاء الشيطان وتزيينه ، وكله واحد . وأصله : أن كل من أجاب آخر إلى ما يدعو إليه ويأتمر بأمره ، يقال : قد اتبع أثره ، وقد ذكرنا هذا فيما تقدم . وقوله - عز جل - : { إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } . أي : إنه فيما يدعوكم إلى تحريم ما أحل الله لكم ورزقكم - يقصد قصد إهلاككم وتعذيبكم ، لا قصد منفعة لكم في ذلك ، وكل من قصد إهلاك آخر فهو عدوّ له ، وهو يخرج على ما ذكرنا من تذكير المنن والنعم التي أنعمها عليهم ، يقول : هو الذي جعل لكم ذلك ؛ فلا تصرفوا شكره إلى غيره . وقوله - عز وجل - : { ثَمَٰنِيَةَ أَزْوَٰجٍ مَّنَ ٱلضَّأْنِ ٱثْنَيْنِ وَمِنَ ٱلْمَعْزِ ٱثْنَيْنِ … } إلى آخر ما ذكر . أي : أنشأ - أيضاً - ثمانية أزواج ، على ما ذكر : أنشأ جنات معروشات وغير معروشات ، وأنشأ من الأنعام - أيضاً - حمولة وفرشاً ، وأنشأ - أيضاً - ثمانية أزواج مما عد علينا . ويحتمل أن يكون قوله : { ثَمَٰنِيَةَ أَزْوَٰجٍ مَّنَ ٱلضَّأْنِ ٱثْنَيْنِ وَمِنَ ٱلْمَعْزِ ٱثْنَيْنِ … } إلى آخر ما ذكر هو تفسير قوله : { وَمِنَ ٱلأَنْعَٰمِ حَمُولَةً وَفَرْشاً } ، ويكون { ثَمَٰنِيَةَ أَزْوَٰجٍ } التي ذكر في الآية بيان الحمولة والفرش التي ذكر في الآية الأولى . ثم في قوله : { ثَمَٰنِيَةَ أَزْوَٰجٍ مَّنَ ٱلضَّأْنِ ٱثْنَيْنِ وَمِنَ ٱلْمَعْزِ ٱثْنَيْنِ } : في الآية تعريف المحاجة مع الكفرة وتعليمها من الله ؛ لأنهم كانوا يحرمون أشياء على الإناث ويحللونها للذكور ؛ كقوله : { وَقَالُواْ مَا فِي بُطُونِ هَـٰذِهِ ٱلأَنْعَٰمِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَىٰ أَزْوَٰجِنَا وَإِن يَكُن مَّيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَآءُ } [ الأنعام : 139 ] ؛ فقال الله - عز وجل : { قُلْ ءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ ٱلأُنثَيَيْنِ } : يعرفنا المحاجة معهم ؛ وطلب العلة التي بها حرم ، فقال : { قُلْ ءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ ٱلأُنثَيَيْنِ } ، فإن قالوا : حرم الذكر ، فيجب أن كل ذكر محرم ، ثم من الذكور ما يحل ، فتناقضوا في قولهم ، وإن قالوا : حرم الأنثى ، فيجب أن كل أنثى - أيضاً - تكون محرمة ، فإذا لم تحرم كل أنثى ظهر تناقضهم ؛ لأنه لا يجوز أن يجب حرمة شيء أو حله لمعنى ، ثم يرتفع ذلك الحكم والمعنى موجود ، أو حرم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين ، فإن كان لهذا ، فيجب أن لكل مشتمل عليه أرحام الأنثيين محرم ، فإذا لم يحرم ذلك [ دل أن التحريم لم يكن لهذا ] . وفيه دلالة أن الحكم إذا وجب لعلة ، فذلك الحكم واجب ما دامت العلة قائمة موجودة ، وفيه الأمر بالمقايسة . وقوله - عز وجل - : { نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَ } . أي : ليس عندهم علم يعلمون ذلك وينبئونه ، ذكر - هاهنا - { نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَٰدِقِينَ } : في مقالتكم : إنه حرم ، وقال في الآية التي تليها : { أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ وَصَّٰكُمُ ٱللَّهُ بِهَـٰذَا } ، أي : بتحريمها ، أي : ليس لكم شهداء على تحريم ما تحرمون : لا من جهة الكتاب ، ولا رسول ، ولا استدلال ؛ لأن العلوم ثلاثة : علم استدلال وهو علم العقل ، وعلم المشاهدة والعيان وهو علم الحس ، وعلم السمع والخبر ؛ فيخبر أنه ليس لهم من هذه العلوم شيء . أما علم الاستدلال : فلا عقل يدل على تحريم ما حرمتم . ولا علم مشاهدة ؛ لأنكم لم تشاهدوا الله حرم ذلك . ولا علم من جهة السمع والخبر ؛ لأنهم [ كانوا ] لا يؤمنون بالكتب ، ولا صدقوا الرسل فيقولون : أخبرنا الرسل بتحريم ذلك ، أو وجدنا في الكتب حُرْمتها ، فبهتوا في ذلك وضجروا . وفي الآية دلالة إثبات رسالة محمّد ونبوّته صلى الله عليه وسلم ؛ لأنهم كانوا لا يحرمون هذه الأشياء ظاهرا فيما بينهم ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم نشأ بين أظهرهم منذ كان صغيراً إلى كبره ، وعرفوا أنه لم يختلف إلى أحد عرف ذلك ، ثم أخبر [ الله - عز وجل - ] [ عن حل ] ما حرموا وفساد ما صنعوا ؛ ليدلهم أنه إنما عرف ذلك بالله ، وبه علم حل ما حرموا ، وحرمة ما أحلوا ، لا بأحد من الخلائق . وقوله - عز جل - : { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً } [ الأنعام : 144 ] . أي : لا أحد أظلم ممن افترى على الله كذبا ؛ لأنه هو الذي أنشأهم وأنشأ لهم جميع ما يحتاجون إليه ويقضون حوائجهم ، وبه كان جميع نعمهم التي يتنعمون ويتقلبون فيها ؛ فلا أحد أظلم ممن افترى على الله كذبا ، فقال : حرم كذا ولم يكن حرم ، أو : أمر بكذا ولم يكن أمر . ألا ترى : أنه قال - عز وجل - : { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ ٱللَّهِ حَدِيثاً } [ النساء : 87 ] ، و { قِيلاً } [ النساء : 122 ] ، فكما لم يكن أحد أصدق منه حديثاً ، فعلى ذلك لا أحد أظلم ممن افترى على الله كذبا بعد علمه : أنه هو الفاعل لذلك كله ، وهو المنشئ ما ذكر . وقوله : { فَمَنْ أَظْلَمُ } . في الظاهر استفهام ، ولكن في الحقيقة إيجاب ؛ لأنه لا يحتمل الاستفهام ؛ كأنه قال : لا أحد أفحش ظلماً ممن افترى على الله كذبا على الإيجاب . وقوله - عز وجل - : { لِيُضِلَّ ٱلنَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ } . لأنه يقصد بالافتراء على الله قصد إضلال الناس وإغوائهم . { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّٰلِمِينَ } . أي : لا يهديهم وقت اختيارهم الكفر والظلم . وقيل : { لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّٰلِمِينَ } [ أي أنهم يختمون ] بالكفر . ويحتمل : لا يهديهم ؛ إذا كانوا هم عند الله ظلمة كفرة ، وإن كانوا عند أنفسهم عدولا على الحق .