Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 6, Ayat: 145-147)

Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله - عز وجل - : { قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَىٰ طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ } . قوله : { قُل لاَّ أَجِدُ } يحتمل وجهين : أحدهما : أي : لا أجد مما تحرمون أنتم فيما أوحي إلي ، وأما مما لا تحرمون فإنه يجد . والثاني : لا أجد فيما أوحي محرما في وقت ، ثم وجده في وقت آخر . وأيهما كان فليس فيه دليل حل سوى ما ذكر في الآية على ما يقوله بشر . وقوله - عز وجل - : { قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَىٰ طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ } . مثل هذا الخطاب لا يكون إلا في معهود [ أو ] سؤال ، وإلا مثل هذا الخطاب لا يستقيم على الابتداء . فإن كان في معهود فهو يخرج جواب ما كانوا يحرمون من أشياء من الأنعام والحرث ، وما ذكر في الآيات التي تقدم ذكرها ، وما كانوا يحرمون من البحيرة والسائبة ، والوصيلة ، والحامي ؛ فقال : { قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً } : مما تحرمون أنتم ، { عَلَىٰ طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً } . أو كان جواب سؤال في نازلة ؛ فقال : { قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً } إلا فيما ذكر في الآية ، أو لم يجده محرما في وقت إلا ما ذكر ، ثم وجده في وقت آخر ، ففي أيهما كان لم يكن لبشر علينا في ذلك حجة ؛ حيث قال إن الأشياء كلها محللة مطلقة بهذه الآية : { قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً } إلا ما ذكر : من الميتة ، والدم ، ولحم الخنزير ، وما أهل لغير الله به ، فقال : لا يحرم من الحيوان إلا ما ذكر . ويقول : إن النهي الذي جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أنه نهى عن كل ذي ناب من السباع ، وعن كل ذي مخلب من الطير " ، إنما هو خبر خاص من أخبار الآحاد ، وخبر الواحد لا يعمل في نسخ الكتاب ، وقد قال : { لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً } . [ وبعد ] : فإن ذلك الخبر من الأخبار المتواترة ؛ لأنه عرفه الخاص والعام ، وعملوا به وظهر العمل به حتى لا يكاد يوجد ذلك يباع في أسواق المسلمين ؛ دل أنه [ من ] المتواتر . قال الشيخ - رضي الله عنه - : وعندنا أن لفظة " التحريم " [ على الإطلاق لا تقال إلا في النهايات من الحرمة ، ونحن نقول : لا تطلق لفظة التحريم ] في الحيوان إلا فيما ذكر في الآية من الميتة ، والدم المسفوح ، والخنزير ، ولكن يقال : منهي عنه مكروه ، ولا يقال : محرم مطلقا ، ويقال : لا يؤكل ولا يطعم . وبعد : فإن الآية لو كانت في غير الوجهين اللذين ذكرناهما ، لم يكن فيها دليل حل ما عدا المذكور في الآية ؛ لأنه قال : { لاَّ أَجِدُ } ، ولم يوجد في وقت ، ثم وجد في وقت آخر ، [ و ] هذا جائز . وفي قوله : { مُحَرَّماً عَلَىٰ طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ } دلالة أن الجلد يحرم بحق اللحمية ؛ لأنه أمكن أن يشوى فيؤكل ؛ فحرمته حرمة اللحم ، فإذا دُبغ خرج من أن يؤكل ؛ [ فظل هو مخرج ] عن قوله : { عَلَىٰ طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ … } ، والله أعلم . ثم في قوله : { مُحَرَّماً عَلَىٰ طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ … } الآية دلالة أن الحرمة التي ذكر في قوله : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ ٱلْمَيْتَةُ وَٱلْدَّمُ وَلَحْمُ ٱلْخِنْزِيرِ وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ ٱللَّهِ بِهِ وَٱلْمُنْخَنِقَةُ وَٱلْمَوْقُوذَةُ وَٱلْمُتَرَدِّيَةُ … } [ المائدة : 3 ] إلى آخر ما ذكر حرمة الأكل والتناول منها ؛ لأنه لم يبين في تلك الآية ما الذي حرم منها سوى ما ذكر حرمته تفسرها هذه الآية . وقوله - عز وجل - : { مُحَرَّماً عَلَىٰ طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً } . دل هذا أن الحرمة في تلك الآية الأكل والتناول منها ؛ وكذلك قوله : { ٱلْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ } [ المائدة : 5 ] : ذكر الحل ، ولم يذكر الحكم ، لماذا ؟ ثم جاء التفسير في هذه الآية أنه للأكل ، ثم الميتة التي ذكر أنها محرمة ليست هي التي ماتت حتف أنفها خاصة . ألا ترى أنه ذكر : { وَمَا ذُبِحَ عَلَى ٱلنُّصُبِ } [ المائدة : 3 ] ، { وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ ٱللَّهِ بِهِ } [ المائدة : 3 ] . [ و ] قال : { وَٱلْمُنْخَنِقَةُ وَٱلْمَوْقُوذَةُ وَٱلْمُتَرَدِّيَةُ وَٱلنَّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ ٱلسَّبُعُ } [ المائدة : 3 ] ، كل هذا الذي ذكر لم يمت حتف أنفه ، ولكن بأسباب لم يؤمر بها ؛ فصارت ميتة ؛ فدل أن كل مذبوح أو مقتول بسبب لم يؤمر به فهو ميتة ، لا يحل التناول منها إلا في حال الاضطرار . وفي قوله : { أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً } . دلالة أن المحرم من الدم هو المسفوح ، والدم الذي يكون في اللحم ويخالط اللحم ليس بحرام ، والدم المسفوحُ حرامٌ . قال أبو عوسجة : المسفوح المصبوب ؛ تقول : سفحت : صببت . وقال القتبي : مسفوحاً ، أي : سائلا . وقال ابن عباس - رضي الله عنه - : المسفوح : هو الذي يراق . وقوله - عز وجل - : { لَحْمَ خِنزِيرٍ } . ذكر اللحم وذكر حرمة الميتة ؛ ليعلم أن الخنزير بجوهره حرام ، والميتة حرمتها لا بجوهرها ، لكن لما اعترض ؛ لذلك قلنا : [ إنه ] لا بأس بالانتفاع بصوف الميتة ووبرها وعظمها ، ولا يجوز من الخنزير شيء ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { فَمَنِ ٱضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ } . قيل : غير باغ : يستحله في دينه ، ولا عاد ، أي : ولا متعد بألم يضطر إليه فأكله . وقد ذكرنا أقاويلهم والاختلاف في تأويله في صدر الكتاب . { فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ } ، لأكله الحرام في حال الاضطرار ، { رَّحِيمٌ } ، حيث رخص الحرام في موضع الاضطرار ، وهذا - أيضاً - قد مضى ذكره في غير موضع . وقوله - عز وجل - : { وَعَلَى ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ } [ الأنعام : 146 ] . قيل : مثل [ هذا ] النعامة والبعير . وقيل : كل ذي ظفر : مثل الديك ، والبط ، والبعير ، وكل ما لم يكن منفرج الأصابع والقوائم . وقيل : حرمنا كل ذي حافر من نحو حمار الوحش والوز وغيره . وقيل : { حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ } : كل ذي مخلب من الطير ، وكل ذي ناب من السباع ، ومن الدواب : كل ذي ظفر منشق ؛ مثل : الأرنب والبعير وأشباههما ، وهو قول ابن عباس - رضي الله عنهما - والأشبه أن يكون ما ذكر [ من تحريم كل ذي ظفر عليهم هو ما يحل أكله لا ما يحرم وهو ما ذكر بعضهم أنه البعير والغنم لأنه ذكر ] في آية أخرى { فَبِظُلْمٍ مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ … } الآية [ النساء : 160 ] . وقوله - عز وجل - : { وَمِنَ ٱلْبَقَرِ وَٱلْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَآ إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا } . قيل : [ تحرم ] [ شحوم ] بطونهما ، ومن الثروب ، وشحم الكليتين . { أَوِ ٱلْحَوَايَآ } . وهي المباعر والمصارين ، أي : الشحم الذي عليهما . { أَوْ مَا ٱخْتَلَطَ بِعَظْمٍ } . قيل : الألية . وقيل : قوله : { إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا } : هو سمن اللحم ، قيل فيه أقاويل مختلفة في هذا ، وفي الأول في قوله : { حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ } ، لكن ليس لنا إلى معرفة ذلك حاجة ؛ لأن تلك شريعة قد نسخت ، والعمل بالمنسوخ حرام ، فإذا لم يكن علينا العمل بذلك فليس لنا إلى معرفة ذلك حاجة كان ذا أو ذا ، وإنما علينا أن نعرف : لم كان ذلك التحريم عليهم ؟ وبم كان تحريم هذه الأشياء عليهم ؟ فهو - والله أعلم - ما ذكر في قوله : { فَبِظُلْمٍ مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ كَثِيراً … } الآية [ النساء : 160 ] الآية ، أخبر أن ما حرم عليهم من الطيبات ؛ بظلمهم للذين ظلموا ؛ ولذلك قال الله - تعالى - : { ذٰلِكَ جَزَيْنَٰهُم بِبَغْيِهِمْ } . أخبر أن ذلك جزاء بغيهم الذي بغوا . والثاني : أنهم كانوا يدعون ويقولون : { نَحْنُ أَبْنَاءُ ٱللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ } [ المائدة : 18 ] ، يقول : لو كنتم صادقين في زعمكم أنكم أبناء الله وأحباؤه ، لكن لا أحد يعاقب ولده أو حبيبه بأدنى ظلم ، ولا يحرم عليه الطيبات ، فإذا كان الله حرم عليكم الطيبات ، وجزاكم بتحريم أشياء ؛ عقوبة لكم بظلمكم وبغيكم - ظهر أنكم كذبتم في دعاويكم ، وافتريتم بذلك على الله . وفيه دليل إثبات رسالة محمد ونبوته صلى الله عليه وسلم لأنهم كانوا يحرمون هذه الأشياء فيما بينهم ، ولا يقولون : إنهم ظلمة ، وإن ما حرم عليهم [ كان ] بظلم كان منهم وبغى ، ثم أخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن ما حرم عليهم من الطيبات إنما حرم بظلمهم وبغيهم ؛ دل أنه إنما أخبر بذلك عن الله ، وبه عرف ذلك ؛ فدل أنه آية من آيات نبوته صلى الله عليه وسلم ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { ذٰلِكَ جَزَيْنَٰهُم بِبَغْيِهِمْ } . أي : ذلك التحريم عقوبة لبغيهم وظلمهم . { وِإِنَّا لَصَٰدِقُونَ } [ أي : إنا لصادقون ] بالإنباء أن ذلك كان بظلمهم وبغيهم ، أو إنا لصادقون في كل ما أخبرنا وأنبأنا . وقوله - عز وجل - : { فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ } [ الأنعام : 147 ] . قال الحسن : فإن كذبوك فيما تدعوهم إليه وتأمرهم به : من التصديق ، والتوحيد له ، والربوبية فقل : ربكم ذو رحمة [ واسعة ] إذا رجعتم عن التكذيب ، وصدقتم وعرفتم أنه واحد لا شريك له ، يغفر لكم ما كان منكم في حال الكفر ، ويكفر عنكم سيئاتكم التي كانت . وقوله - عز وجل - : { فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ ٱلْقَوْمِ ٱلْمُجْرِمِينَ } [ الأنعام : 147 ] . كأنه على التقديم والتأخير ، [ كأنه ] يقول : فإن كذبوك فقل : { وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ ٱلْقَوْمِ ٱلْمُجْرِمِينَ } . ثم قل : { رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ } : يسع في رحمته العفو إذا تبتم . وقال غيره من أهل التأويل : { فَإِن كَذَّبُوكَ } يا محمد حين أنبأتهم بما حرم الله عليهم بظلمهم وبغيهم ، { فَقُلْ رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ } لا يهلك [ أحداً ] وقت ارتكابه المعصية ، ولا يعذبه حالة ذلك ، لكنه يؤخر ، { وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ } أي : عذابه إذا نزل بقوم مجرمين بجرمهم ، والله أعلم .