Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 6, Ayat: 63-67)

Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله - عز وجل - : { قُلْ مَن يُنَجِّيكُمْ مِّن ظُلُمَاتِ ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ } ليس هذا على الأمر له ، ولكن على المحاجة ؛ كقوله - تعالى - : { قُلْ سِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ فَٱنْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلُ } [ الروم : 42 ] ، ليس على الأمر بالسير في الأرض ، ولكن على الاعتبار بأولئك الذين كانوا من قبل ، والنظر في آثارهم وأعلامهم [ أن ] كيف صاروا بتكذيبهم الرسل ، وماذا أصابهم بذلك ؛ فعلى ذلك هذا ، فيه الأمر بالمحاجة معهم في آلهتهم : { قُلْ مَن يُنَجِّيكُمْ مِّن ظُلُمَاتِ ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ } آلهتكم التي تعبدون من دون الله ، وتشركونها في ألوهيته وربوبيته ، أو الله الذي خلقكم ؟ فسخرهم حتى قالوا : [ الله ] هو الذي ينجينا من ذلك ، فقال : { قُلِ ٱللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ } ، فإذا كان هو الذي ينجيكم من هذا لا آلهتكم التي تبعدونها ؛ فكذلك هو الذي ينجيكم من كل كرب ومن كل شدة . ويحتمل قوله - تعالى - : { قُلْ مَن يُنَجِّيكُمْ مِّن ظُلُمَاتِ ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ } . أي : لا أحد ينجيكم من ظلمات البر والبحر ؛ كقوله : { وَمَنْ أَظْلَمُ } ، أي : لا أحد أظلم من تخافون على آلهتكم الهلاك كما تخافون على أنفسكم ؟ فلا أحد سواه ينجيكم من ذلك ومن كل كرب . قال أبو بكر الكيساني : هم عرفوا في الدنيا أنه هو الذي ينجيهم من ذلك كله ، وهو الذي يعطي لهم ما أعطوا بما قامت عليهم الحجج ، ولم يعرفوا أنه هو الذي ينجيهم في الآخرة ويهلكهم ، وهو هكذا : عرفوا الله في الدنيا ، ولم يعرفوه في الآخرة . ثم اختلف في ظلمات البر والبحر : قال بعضهم : الظلمات : هي الشدائد والكروب التي تصيبهم بالسلوك في البر والبحر . وقال آخرون : الظلمات هي الظلمات لأن أسفار البحار والمفاوز إنما تقطع بأعلام السماء ، فإذا أظلمت السماء بقوا متحيرين لا يعرفون إلى أي ناحية يسلكون ، ومن أي طريق يأخذون ، فعند ذلك يدعون الله تضرعاً وخفية . قال الحسن : التضرع : هو ما يرفع به الصوت ، والخفية : هي ما يدعي سرّاً وهو من الإخفاء . وفي حرف ابن مسعود : ( تدعونه تضرعاً وخيفة ) وهي من الخوف . قال الكلبي : في خفض وسكون ، وتضرع إلى الله . وقوله - عز وجل - : { لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَـٰذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ ٱلشَّاكِرِينَ } . قال أبو بكر لنكونن من الشاكرين ، أي : لا نوجه الشكر إلى غيرك ، والشكر - هاهنا - : هو التوحيد ، أي : لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الموحدين لك من بعد ؛ لأنهم كانوا يوحدون الله في ذلك الوقت ، لكنهم إذا نجوا من ذلك أشركوا غيره في ألوهيته . ألا ترى أنه قال : { قُلِ ٱللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ } . وقوله - عز وجل - : { ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ } بعد علمكم أن الأصنام التي تعبدونها لم تملك الشفاعة لكم ، ولا الزلفى إلى الله ؛ يذكر سفههم في عبادتهم الأوثان على علم منهم أنها لا تشفع [ لهم ] ، ولا تملك دفع شيء عنهم . وقوله - عز وجل - : { قُلْ هُوَ ٱلْقَادِرُ عَلَىٰ أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ } . اختلف في نزول الآية فيمن نزلت ؟ قال بعضهم : نزلت في مشركي العرب - وهو قول أبي بكر الأصم - لأنها نزلت على أثر آيات نزلت في أهل الشرك ، من ذلك قوله : { قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ ٱللَّهِ وَلاۤ أَعْلَمُ ٱلْغَيْبَ وَلاۤ أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ } [ الأنعام : 50 ] . وقوله : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ ٱللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ … } الآية [ الأنعام : 46 ] . وقوله : { وَهُوَ ٱلْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً … } [ الأنعام : 61 ] إلى قوله - تعالى - : { ثُمَّ رُدُّوۤاْ إِلَىٰ ٱللَّهِ مَوْلاَهُمُ ٱلْحَقِّ } [ الأنعام : 62 ] : هذه الآيات كلها نزلت في أهل الشرك ، فهذه كذلك نزلت فيهم ؛ لأنها ذكرت على أثرها ؛ ولأن سورة الأنعام نزل أكثرها في محاجة أهل الشرك ، إلا آيات منها نزلت في أهل الكتاب ، وسورة المائدة نزل أكثرها في محاجة أهل الكتاب ؛ لأنه يذكر فيها : { قُلْ يَـٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ } [ المائدة : 59 ، 68 ، 77 ] . ومنهم من يقول : نزلت في أهل الإسلام ، وهو قول أبي بن كعب ، وقال : هن أربع ، فجاء منهن ثنتان بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألبسهم شيعاً ، وأذاق بعضهم بأس بعض . أما لبس الشيع : هي الأهواء المختلفة ، { وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ } هو السيف والقتل ، هذان قد كانا في المسلمين ، وبقى ثنتان لا بد واقعتان . ومنهم من يقول : كان ثنتان في المشركين من أهل الكتاب ، وثنتان في أهل الإسلام ، وهو قول الحسن قال : قد ظهر في أهل الإسلام الأهواء المختلفة والقتل والفتن ، وأما اللذان في أهل الشرك من أهل الكتاب : فهما الخسف في الأرض ، والحجارة من السماء . ثم اختلف في قوله : { عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ } . عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال : { عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ } ، أي : من أمرائكم ، { أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ } . أي : من سفلتكم ؛ لأن الفتن ونحوها إنما تهيج من الأمراء الجائرين ومن أتباعهم . وقوله - عز وجل - : { يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً } . قال : الأهواء المختلفة . وقوله - تعالى - : { وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ } . أي : يسلط بعضهم على بعض بالقتل والعذاب . ومن قال بأن الآية نزلت في أهل الشرك يقول : كان في أشياعهم ذلك كله ، أما العذاب من الفوق فهو الحصب بالحجارة ؛ كما فعل بقوم لوط ، ومن تحت أرجلهم وهو الخسف ؛ كما فعل بقارون ومن معه . وقوله : { أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً } . يقول : فرقاً وأحزاباً ، وكانت اليهود والنصارى فرقاً مختلفة ، اليهود فرقاً والنصارى كذلك ؛ كقوله : { وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ ٱلْعَدَاوَةَ وَٱلْبَغْضَآءَ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ } [ المائدة : 64 ] وقوله : { فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ ٱلْعَدَاوَةَ وَٱلْبَغْضَآءَ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ } [ المائدة : 14 ] . وقوله : { وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ } . هو الحرب والقتال . وقول الحسن ما ذكرنا أنه ظهر في أهل الإسلام الأهواء المختلفة وظهر الحرب والقتل . وأما الخسف والحصب : فلم يظهرا ؛ فهما في أهل الشرك . ويحتمل قوله : { عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ } أرسلها عليهم ؛ لأنهم قد أقروا أنه [ هو ] رفع السماء ، فمن قدر على رفع شيء يقدر على إرساله . وقوله : { أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ } . لأنهم عرفوا أنه بسط الأرض ، ومن ملك بسط شيء يملك طيه ويخسف بهم . وقوله - عز وجل - : { ٱنْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ ٱلآيَاتِ } . قيل : أي : نردد الآيات [ ليعلم ] كل مزدجره . أو يقول : كيف نصرف الآيات ليعلم كل صدقها وحقيقتها أنها من الله جاءت . { لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ } : يحتمل وجوهاً : صرفها ليفقهوا ، وذلك يرجع إلى المؤمنين خاصة . والثاني : { لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ } ، أي : ليلزمهم أن يفقهوا ، وقد ألزم الكل أن يفقهوا ، لكن من لم يفقه إنما لم يفقه ؛ لأنه نظر إليه بعين الاستخفاف . والثالث : { نُصَرِّفُ ٱلآيَاتِ } أي : نصرف الرسل ونبلغها إليهم على رجاء أن يفقهوا ، لكي يفقهوا ؛ إن نظروا فيها وتأملوها . وذكر { لَعَلَّهُمْ } ؛ لأن منهم من فقه ، ومنهم من لم يفقه . { وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ } . يحتمل به : القرآن ، ويحتمل : بما ذكر من الآيات ، ويحتمل : الإيمان به والتوحيد . { وَهُوَ ٱلْحَقُّ } وكذب به قومك . وهم أحق أن يصدقوك بما جئت به وأنبأتهم ؛ لأنك نشأت بين أظهرهم ، فلم تأت كذباً قط ، ولا رأوك تختلف إلى أحد يعلمك ، فهم أحق أن يصدقوك بما جئت به وأنبأتهم ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { قُل لَّسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ } . قال عامة أهل التأويل : الوكيل : الحفيظ ، والوكيل : هو القائم في الأمر ، أي : لست بقائم عليكم ؛ لأكرهكم على التوحيد والإيمان شئتم أو أبيتم ، ولست بحافظ على أعمالكم إنما عليَّ التبليغ ؛ كقوله : { مَّا عَلَى ٱلرَّسُولِ إِلاَّ ٱلْبَلاَغُ } [ المائدة : 99 ] . وقوله - عز وجل - : { لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ } قال بعضهم : لكل أمر حقيقة . وقيل : لكل خبر غاية ينتهي إليها . ويحتمل : أن يكون صلة قوله : { قُل لَّسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ } ؛ { لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ } ، أي : لست عليكم بوكيل ، لكن لكل نبإ مستقر في أن أغنم أموالكم وأسبي ذراريكم ؛ كقوله : { لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ * إِلاَّ مَن تَوَلَّىٰ وَكَفَرَ } [ الغاشية : 22 - 23 ] . ويحتمل قوله : { وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ } أي : بما كان وعد وأوعد ، والله أعلم . وفي قوله : { أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ } دلالة نقض قول المعتزلة ؛ لأنا نعلم أن للخلق حقيقة الفعل في القتل والحرب والأهواء المختلفة ، ثم أضاف ذلك إلى نفسه ؛ دل أن له صنعاً في أفعالهم ، وليس كما تقول المعتزلة : إنه لا يملك ذلك . وكذلك ما ذكر من إضافة تلبيس الشيع إليه رد لقولهم ؛ لأنهم يقولون : هم يختلفون ، وقد أخبر أنه هو يجعلهم شيعاً ، وذلك ظاهر النقض عليهم ؛ لأنه أخبر أنه يذيق بعضهم بأس بعض ، وهم يقولون : هو لا يذيق ولكن ذلك القاتل أو الضارب أو المعذب هو يذيقهم دون رب العالمين ؛ وكذلك قوله : { قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ ٱللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ } [ التوبة : 14 ] ، وهم يقولون : هو لا يعذبهم ولكن الخلق يعذبونهم ؛ وكذلك قوله : { أَن يُصِيبَكُمُ ٱللَّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا } [ التوبة : 52 ] ، وهم يقولون : هو لا يملك تعذيبهم بأيديهم ، وذلك رد لظاهر الآية وتركها جانباً .