Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 6, Ayat: 91-94)
Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله - عز وجل - : { وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } : قيل : نزلت سورة الأنعام في محاجة أهل الشرك إلا آيات نزلت في محاجة أهل الكتاب ، إحداها هذه : { وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ … } الآية ، وذكر في موضع آخر : { مَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } [ الحج : 74 ] { إِنَّ ٱللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } [ الحج : 74 ] وقال في آية أخرى : { وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } [ الزمر : 67 ] { وَٱلأَرْضُ جَمِيعـاً … } [ الزمر : 67 ] الآية . ثم قال بعض أهل التأويل : ما عرفوا الله حق معرفته . وقال غيرهم : ما عظموا الله حق عظمته ؛ ذكروا أن هؤلاء لم يعظموا الله حق عظمته ، ولا عرفوه حق معرفته ، ومن يقدر أن يعظم الله حق عظمته ، أو أن يعرفه حق معرفته ، أو من يقدر أن يعبد الله حق عبادته ؟ ! وكذلك روي في الخبر : " أن الملائكة يقولون يوم القيامة : يا ربنا ما عبدناك حق عبادتك " ، مع ما أخبر عنهم أنهم : { لاَّ يَعْصُونَ ٱللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [ التحريم : 6 ] ، وقال : { لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ } [ الأنبياء : 19 ] ، فهم مع هذا كله يقولون : " ما عبدناك حق عبادتك " ، ومن يقدر أن يعرفه حق معرفته ، أو يعظمه حق عظمته ؟ ! ولكن تأويله - والله أعلم - أي : ما عرفوا الله حق المعرفة التي تعرف بالاستدلال ، ولا عظموه حق عظمته التي تعظم بالاستدلال ، هذا تأويلهم ، وإلا لا أحد [ يقدر أن ] يعرف الله حق معرفته ، ولا يعظمه حق عظمته حقيقة . وهو يخرج على وجهين : أحدهما : ما قدروا الله حق قدره ، ولا اتقوه حق تقواه مما كلفوا به وأطاقوه ومما جرى الأمر بذلك ، وإنما تجري الكلفة منه على قدر الطاقة والوسع ، وإلا لا يقدر أحد أن يعظم ربه حق عظمته ولا يتقيه حق تقواه ، لكن ما ذكرنا مما جرت [ به ] الكلفة . والثاني : ما قدروا الله حق قدره ولا حق تقاته على القدر الذي يعملون لأنفسهم ، أي : لو اجتهدوا في تقواه وعظمته القدر الذي لو كان ذلك العمل لهم فيجتهدون ، ويبلغ جهدهم في [ ذلك ] ذلك فقد اتقوا . وقوله - عز وجل - : { إِذْ قَالُواْ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ عَلَىٰ بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ } . لو كان هؤلاء في الحقيقة أهل الكتاب ما أنكروا الرسل ولا الكتب ؛ لأن أهل الكتاب يؤمنون ببعض الرسل وببعض الكتب ، وإن كانوا يكفرون ببعض ، لكن هؤلاء أنكروا الرسل لما كانوا أهل نفاق ، ويكون من اليهود أهل نفاق ، كما يكون من أهل الإسلام ، كانوا يظهرون الموافقة لهم ، ويضمرون الخلاف لهم والموالاة لأهل الشرك ، ويظاهرون عليهم ؛ كما كان يفعل ذلك منافقو أهل الإسلام ؛ كانوا يظهرون الموافقة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ويضمرون الخلاف له ، ويظاهرون المشركين عليه ، فأطلع الله رسوله على نفاقهم ؛ ليعلم قومهم خلافهم ، وأن ما كان من تحريف الأحكام وتغيرها وكتمان نعت محمد صلى الله عليه وسلم وصفته إنما كان من هؤلاء . وذكر في بعض القصة " أنها نزلت في شأن مالك بن الصيف ، وكان من أحبار اليهود ، وكان سمينا فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هل تجد في التوراة أن الله يبغض كل حبر سمين ؟ قال : نعم ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : فأنت حبر سمين يبغضك الله ، فغضب فقال : ما أنزل الله على بشر من شيء أنكر الرسل والكتب جميعاً ، فأكذبه الله تعالى ، وأظهر نفاقه عند قومه " ، فقال : { قُلْ مَنْ أَنزَلَ ٱلْكِتَٰبَ ٱلَّذِي جَآءَ بِهِ مُوسَىٰ نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً } ، قيل : تجعلونه قراطيس ، يعني : صحفاً ، أي : كتبتموه في الصحف ، ثم تنكرون أنه ما أنزل الله على بشر من شيء ، أي : ما الذي كنتم كتبتموه إن لم ينزل الله على بشر من شيء { تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً } ، يقول : تظهرون من الصحف ما ليس فيه صفة رسول الله ونعته صلى الله عليه وسلم وتخفون ما فيه صفته ونعته وتغيرون . وقيل : { تُبْدُونَهَا } أي : تظهرون قراءتها { وَتُخْفُونَ كَثِيراً } مما فيه نعته صلى الله عليه وسلم أو : ما فيه من الأحكام التي لا تطيب بها أنفسهم من أمر الرجم والقصاص وغير ذلك . وقوله - عز وجل - : { قُلْ مَنْ أَنزَلَ ٱلْكِتَٰبَ ٱلَّذِي جَآءَ بِهِ مُوسَىٰ نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ } ، سمى عز وجل جميع كتبه نوراً وهدى ، وهو نور من الظلمات ، أي : يرفع الشبهات ، ويجليها ، وهدى من الضلالات ، أي : بياناً ودليلا من الحيرة والهلاك ، وبالله العصمة والنجاة . وقوله - عز وجل - : { وَعُلِّمْتُمْ مَّا لَمْ تَعْلَمُوۤاْ أَنتُمْ وَلاَ ءَابَآؤُكُمْ } قال مجاهد : نزلت الآية في المسلمين ؛ يقول : عُلِّمُوا ما لم يَعْلَمُوا ولا آباؤهم . وقال الحسن : الآية في الكفرة ، أي : علمتم ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم من تحريف أولئك الكتاب وتغييرهم إياه . وقيل : وعلمتم ما في التوراة ما لم تعلموا أنتم ، ولم يعلمه آباؤكم . ثم قال : { ثُمَّ ذَرْهُمْ } : قال بعضهم : قوله : { قُلِ ٱللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ } هو صلة قوله : { قُلْ مَنْ أَنزَلَ ٱلْكِتَٰبَ ٱلَّذِي جَآءَ بِهِ مُوسَىٰ نُوراً } [ قل ] يا محمد الله أنزله على موسى . وقيل : [ صلة قوله : { قُلْ مَنْ أَنزَلَ ٱلْكِتَٰبَ ٱلَّذِي جَآءَ بِهِ مُوسَىٰ نُوراً } ] [ قل يا محمد الله : { وَعُلِّمْتُمْ مَّا لَمْ تَعْلَمُوۤاْ أَنتُمْ وَلاَ ءَابَآؤُكُمْ } ] ، قال : قل يا محمد الله علمكم . ويحتمل أن يكون - عز وجل - سخرهم حتى قالوا ذلك ، فكان ذلك حجة عليهم . وقوله - عز وجل - : { ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ } . هذا يحتمل وجهين : [ الأول ] يحتمل : ذرهم ولا تكافئهم بصنيعهم ؛ كقوله : { فَٱعْفُ عَنْهُمْ وَٱصْفَحْ } [ المائدة : 13 ] . الثاني : أنه قد أقام عليهم الحجج وظهرت عندهم البراهين ، لكنهم كابروا وعاندوا ، فأمره أن يذرهم لا يقيم عليهم الآيات والحجج بعد ذلك ، ولكن يدعوهم إلى التوحيد لا يذر دعاءهم إلى التوحيد ، ولكن يذرهم ولا يقيم عليهم الحجج . وقوله - عز وجل - : { فِي خَوْضِهِمْ } ؛ أي : في باطلهم وتكذيبهم يعمهون . وقوله - عز وجل - : { وَهَـٰذَا كِتَٰبٌ أَنزَلْنَٰهُ مُبَارَكٌ } . قيل : القرآن أنزلناه مباركاً ؛ سماه مرة : مباركاً ، ومرة نورا ، ومرة هدى ورحمة ، ومرة شفاء ، ومجيداً وكريماً وحكيماً ، وليس يوصف هو في الحقيقة بنور ، ولا مبارك ، ولا رحمة ، ولا هدى ، ولا شفاء ، ولا مجيد ، ولا كريم ولا حكيم ؛ لأنه صفة ولا يكون للصفة صفة توصف بها ، ولو كان هو في الحقيقة نوراً ، ورحمة ، وهدى أو ما ذكر [ لكان يكون لكل واحد نوراً وما ذكر ] ، فلما ذكر أنه عمى على بعض ، وأخبر أنه يزداد بذلك رجساً إلى رجسهم دل أنه ليس هو في الحقيقة كذلك ؛ لأنه لو كان كذلك لكان لكل أحد ، لكن سماه بهذه الأسماء : سماه نوراً لما يصير نوراً للمسترشدين ، ويصير شفاء ورحمة للمتبعين ليشفوا [ من ] الداء الذي يحل في الدين . وسماه روحا لما يحيي به الدين . وسماه حكيماً لما يصير من عرف بواطنه واتبعه حكيماً . وكذلك سماه مجيداً كريماً لما يدعو الخلق إلى المجد والكرم ، فمن اتبعه تخلق بأخلاق حميدة ؛ فيصير مجيداً كريماً . وسماه مباركاً لما به ينال كل بركة ، [ والبركة اسم لشيئين : اسم كل بر وخير والثاني : ] اسم لكل ما [ يثمر وينمو ] في الحادث ، فمن اتبعه نال به كل بر وخير وكل ثمرة ونماء في الحادث ؛ هذا وجه الوصف بما ذكرنا . وقوله - عز وجل - : { مُّصَدِّقُ ٱلَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ } . من الكتب ؛ لأنه كان يدعو الخلق إلى ما كان يدعو سائر الكتب التي أنزلها على الرسل ، من توحيد الله والنهي عن إشراك غيره في الألوهية والربوبية ، ويدعو إلى كل عدل وإحسان ، وينهى عن كل فاحشة ومنكر ؛ وكذلك سائر الكتب دعت الخلق إلى ما دعا هذا ، لم يخالف بعضهم بعضا ، [ بل كانت موافقة بعضها ] لبعض ؛ لذلك قال : { مُّصَدِّقُ ٱلَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ } ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَلِتُنذِرَ أُمَّ ٱلْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا } . قيل : أم القرى : مكة ، وسميت أم القرى لوجهين : أحدهما : لأنها متقدمة ، ومنها : دحيت الأرض على ما ذكر أهل التأويل . والثاني : سميت : أم القرى ؛ لأنها مقصد الخلق في الحج ، وفيها تقضى المناسك ، وإليها يقصدون ويأمون ، وإليها يتوجهون في الصلوات ، وهي مقصد أهل القرى . وقوله - عز وجل - : { وَلِتُنذِرَ أُمَّ ٱلْقُرَىٰ } أي : أهل أم القرى . وقوله - عز وجل - : { وَٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلأَخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ } . فإن قيل : أخبر أن من آمن بالبعث يؤمن بهذا الكتاب ، وأهل الكتاب يؤمنون بالبعث ولا يؤمنون به ، فما معناه ؟ قيل : يحتمل هذا وجوهاً : أحدها : أن يكون هذا في قوم مخصوصين إذا آمنوا بالبعث آمنوا به ؛ كقوله : { أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ } [ يس : 10 ] ، هذا في قوم مخصوصين ؛ لأنه قد آمن كثير منهم بالإنذار ؛ فعلى ذلك الأول . والثاني : قوله : { وَٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلأَخِرَةِ } بالعلم والحجج آمنوا بالقرآن ؛ لأن القرآن جاء في تأييد حجج البعث وتأكيده ، فلا يجوز أن يؤمنوا بما يؤيده القرآن ولا يؤمنوا بالقرآن . والثالث : يحتمل أن يكون إخبارا عن أوائلهم : أنهم كانوا مؤمنين بالبعث بالآيات والحجج راغبين فيه ، فلما جاء آمنوا به . وأمكن أن تكون الآية في المؤمنين ، أخبر أنهم آمنوا بالآخرة وآمنوا بالقرآن ؛ ألا ترى أنه قال : { وَهُمْ عَلَىٰ صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ } . ويحتمل [ أن ] الذين يؤمنون بالآخرة يحق لهم أن يؤمنوا بالقرآن ؛ لأنه به يتزود للآخرة . ويحتمل [ غير ] ما ذكرنا من الوجوه . وقوله - عز وجل - : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً } . هذا في الظاهر استفهام وسؤال لم يذكر له جواب ، لكن أهل التأويل فسروا فقالوا : لا أحد أظلم ممن افترى على الله كذبا ، وهذا جواب له [ ليس ] هو تفسيره ، لكن ترك ذكر الجواب لمعرفة أهل الخطاب [ به ] ، وقد يترك الجواب لمعرفة أهله به . وقوله - عز وجل - : { وَمَنْ أَظْلَمُ } : أكثرهم قد ظلموا أو كلهم قد ظلموا ؛ لكن كأنه قال : لا أحد أفحش ظلماً ممن افترى على الله ؛ لأنه يتقلب في نعم الله في ليله ونهاره وأحيانه ، فهو أفحش ظلماً وأوحش كذباً . وقوله - عز وجل - : { أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ } . في الآية دلالة أن نافي الرسالة عمن له الرسالة في الافتراء على الله الكذب ؛ كمدعي الرسالة لنفسه وليست له الرسالة ، سواء ، كلاهما مفتر على الله كذبا ؛ وكذلك من ادعى أنه ينزل مثل ما أنزل الله ، أو من ادعى أنه لم ينزل الله شيئاً ، فهو في الافتراء على الله كالذي ادعى أنه ينزل مثل ما أنزل الله النافي والمدعي في ذلك سواء شرعا ؛ فعلى ذلك يكون نافي الشيء ومثبته في إقامة الحجة والدليل سواء ، والله أعلم . وذكر أهل التأويل أن قوله : { أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ } نزل في مسيلمة الكذاب ، ونزل قوله : { وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَآ أَنَزلَ ٱللَّهُ } في عبد الله بن سعد بن أبي سرح ، لكن ليس لنا إلى معرفة هذا حاجة ؛ هم وغيرهم ومن ادعى وافترى على الله كذباً سواء في الوعيد . وقوله : { وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَآ أَنَزلَ ٱللَّهُ } . ادعى بعضهم أنهم يقولون مثل ما قال الله إنكارا منهم له ؛ كقوله تعالى : { وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَـٰذَا } [ الأنفال : 31 ] . وقوله - عز وجل - : { وَلَوْ تَرَىۤ إِذِ ٱلظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ ٱلْمَوْتِ وَٱلْمَلاۤئِكَةُ بَاسِطُوۤاْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوۤاْ أَنْفُسَكُمُ } . عن ابن عباس - رضي الله عنه - قال : قوله : { فِي غَمَرَاتِ ٱلْمَوْتِ } : نزعات الموت وسكراته وغشيانه { وَٱلْمَلاۤئِكَةُ بَاسِطُوۤاْ أَيْدِيهِمْ } : يقول ملك الموت وأعوانه الذين معه من [ ملائكة الرحمة و ] ملائكة العذاب ، { بَاسِطُوۤاْ أَيْدِيهِمْ } : يقول : ضاربون بأيديهم أنفسهم يقولون لها : اخرجي ، يعني الأرواح ، وهو قوله : { أَخْرِجُوۤاْ أَنْفُسَكُمُ } وهو عند الموت ؛ وكذلك يقول قتادة . وقال الحسن : ذلك في النار في الآخرة ضرب الوجوه والأدبار . وقوله - عز وجل - : { فِي غَمَرَاتِ ٱلْمَوْتِ } ، أي : كثرة العذاب وشدته ؛ يقال للشيء الكثير : الغمر ؛ وهو كقوله : { وَيَأْتِيهِ ٱلْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ } [ إبراهيم : 17 ] أي : أسباب الموت ، ولو كان هناك موت يموت لشدة العذاب . وقوله - عز وجل - : { بَاسِطُوۤاْ أَيْدِيهِمْ } : بضرب الوجوه والأدبار ، { أَخْرِجُوۤاْ أَنْفُسَكُمُ } : على حقيقة الخروج منها ؛ كقوله : { يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ ٱلنَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا } [ المائدة : 37 ] ، والأول ليس على حقيقة الخروج ، ولكن كما يقال عند نزول الشدائد : أخرج نفسك . وقال مجاهد : هذا في القتال تضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم ، يعني : الأستاه ، ولكنه يكون - وهو كقول ابن عباس رضي الله عنه وقتادة - : عند الموت . قال أبو عوسجة : غمرات الموت : سكراته وشدائده ، والغمر : هو الماء الكثير ، والغمر : العداوة ، والغمر : الذي لم يجرب الأمور ، والغمر : الدسم ، والغُمر : القدح الصغير من الخشب ، وغمرة الحرب : وسطها . وقوله - عز وجل - : { ٱلْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ ٱلْهُونِ } : قيل : عذاب الهون لا رأفة فيه ولا رحمة ، أي : الشديد { بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى ٱللَّهِ غَيْرَ ٱلْحَقِّ } ، بأن معه شريكاً وآلهة ، { وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ } ، أنه لم ينزل شيئاً ولم يوح إليه شيء ، وإنما يوحي إليّ ، وغير ذلك من الافتراء الذي ذكروا ، وبالله العصمة . وقوله - عز وجل - : { وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَٰدَىٰ كَمَا خَلَقْنَٰكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } . يحتمل هذا - والله أعلم - وجوهاً : [ الأول ] : أي : أعدناكم وبعثناكم فرادى بلا معين ولا ناصر ؛ كما خلقناكم أول مرة بلا معين ولا ناصر . والثاني : أعيدكم وأبعثكم فرادى بلا أعوان لكم ولا شفعاء يشفعون لكم يعين بعضكم بعضا ؛ كما خلقناكم في الابتداء فرادى ، لم يكن لكم شفعاء ولا أعوان . وقيل : يبعثكم ويعيدكم بلا مال ولا شيء من الدنياوية ؛ كما خلقكم في الابتداء ، ولم يكن لكم مال ولا شيء من الدنياوية . وجائز أن يكون قوله : { وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَٰدَىٰ } ليس معكم ما تفتخرون به من الخدم والأموال والقرابات التي افتخرتم [ بها ] في الدنيا ؛ [ وليس معكم ما تفتخرون به ] كما خلقناكم أول مرة . وجائز أن يكون قوله : { كَمَا خَلَقْنَٰكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } منفصلا [ عن ] قوله : { وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا } ، لكن جواب سؤال : أن كيف يبعثون ؟ فقال : أي تبعثون كما خلقناكم أول مرة . وقوله - عز وجل - : { وَتَرَكْتُمْ مَّا خَوَّلْنَٰكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ } [ يحتمل وجهين ] : يحتمل تركتموه وراء ظهوركم لا تلتفتون إليه ولا تنظرون ؛ كالمنبوذ وراء ظهوركم ، إنما نظرتم إلى أعمالكم التي قدمتموها . والثاني : لم تقدموا ما خولناكم ، ولم تنتفعوا منه ، بل تركتموه وراء ظهوركم لا تنتفعون به ، إنما منفعتكم ما قدمتموه وأنفقتم منه . وقوله - عز وجل - : { خَوَّلْنَٰكُمْ } . قيل : أعطيناكم . وقيل : رزقناكم . وقيل : مكناكم ؛ وهو واحد . وقوله - عز وجل - : { وَمَا نَرَىٰ مَعَكُمْ شُفَعَآءَكُمُ ٱلَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَآءُ } . أنهم كانوا يجعلون لله شركاء في عبادته وألوهيته ، ويقولون : { هَـٰؤُلاۤءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ ٱللَّهِ } [ يونس : 18 ] و : { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى ٱللَّهِ زُلْفَىۤ } [ الزمر : 3 ] ، يقول الله : وما نرى [ معكم شفعاءكم ] الذين زعمتم أنهم شركاء لله في عبادتكم ، وزعمتم أنهم شفعاؤكم عند الله بل شُغِلُوا هُم بأنفسهم ؛ يخبر عن سفههم وقلة نظرهم فيهم . وقوله - عز وجل - : { لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ } : قرئ بالرفع والنصب جميعاً . فمن قرأ بالرفع يقول : لقد تقطع تواصلكم . ومن قرأ بالنصب يقول : لقد تقطع ما كان بينكم من الوصل . يخبر عز وجل عن قطع ما كان بينهم من التواصل ، وتعاون بعضهم بعضا في هذه الدنيا ، أنهم كانوا يتعاونون ويتناصرون بعضهم بعضا - يخبر أن ذلك كله ينقطع في الآخرة ، ويصير بعضهم أعداء بعض ، ويتبرأ بعضهم من بعض ؛ كقوله : { إِذْ تَبَرَّأَ ٱلَّذِينَ ٱتُّبِعُواْ مِنَ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُواْ } [ البقرة : 166 ] ؛ وكقوله : { ٱلأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ ٱلْمُتَّقِينَ } [ الزخرف : 67 ] ؛ وكقوله - تعالى - : { وَإِذَا حُشِرَ ٱلنَّاسُ كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَآءً } [ الأحقاف : 6 ] ؛ وكقوله : { سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ } [ مريم : 82 ] الآية ؛ يصير المعبودون أعداء للعابدين ، والعابدون أعداء للمعبودين ، وتصير الوصلة والمودة التي فيما بينهم في هذه الدنيا عداوة ، والرحم والقرابة اللتين كانتا بينهم منقطعاً ، حتى يفر بعضهم من بعض ؛ كقوله - تعالى - : { يَوْمَ يَفِرُّ ٱلْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ } [ عبس : 34 - 35 ] الآيات . وقوله - عز وجل - : { وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ } . أي : ذهب عنكم وبطل ما كنتم تزعمون أنهم شفعاؤكم عند الله ، وبالله العصمة والنجاة .