Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 64, Ayat: 5-10)
Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله - عز وجل - : { أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ } . فتأويله عندنا - والله أعلم - أي : قد أتاكم نبأ الذين كفروا من قبل ، وماذا نزل بهم حين كفروا وعاندوا ، ومعنى ذلك أن الله تعالى [ قد ] حذرهم بما يكون في الآخرة من ألوان العذاب ، فلم يتعظوا ، لما لم يكونوا يؤمنون بالبعث ، فلما لم ينجع فيهم ذلك ، حذرهم بعقوبات تنزل بهم لو لم ينتهوا عما هم فيه من الطغيان . وقوله - عز وجل - : { فَذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ } ، أي : شدة أمرهم ، ويحتمل أن يكون عاقبة أمرهم . وقوله : { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } فيه إخبار أن ما نزل بهم من العذاب في الدنيا ، لم يكفر عنهم الذنب ، أعني : ذنب الكفر ، وأن عذاب الدنيا إنما كان جزاء شرهم في الكفر ، وأنه يعذبهم في الآخرة عذاب [ الكفر والشرك ] ، والله أعلم . وقوله - تعالى - : { ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِٱلْبَيِّنَاتِ فَقَالُوۤاْ أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا } . فكأنه يريد بقوله : { ذَلِكَ } أي : تلك العقوبات التي نزلت بالأمم الماضية ، إنما كان سببها : أن رسلهم كانت تأتيهم بالبينات ، { فَقَالُوۤاْ أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا } ، وكان قولهم : { أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا } تلقين إبليس ؛ حيث لقنهم مخالفة الرسول وتكذيبه ، وأنكم لو احتجتم إلى طاعته ففيكم من هو أعظم منه درجة وأكثر منزلة ، فإذا لم تطيعوه فكيف تطيعون بشراً مثلكم ؟ ! وهذا كله عناد وخطأ ، وذلك أنهم قد كانوا يعبدون الأصنام ؛ تقليدا منهم لبشر ؛ ألا ترى إلى قوله : { إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ ءَاثَارِهِم مُّقْتَدُونَ } [ الزخرف : 23 ] ، ومعلوم أن جعل الأصنام معبودا يعبدونه بقول البشر ؛ تقليدا له - أكثر وأعظم من تصديق البشر : أنه رسول من عند الله - تعالى - عند قيام الدليل المعجز ، فإذا استجازوا تقليد البشر في ذلك ، فكيف لا استجازوا تصديق الرسول فيما يدعوهم إلى توحيد الله وطاعته فيما يرجع إليهم من المنافع والمضار ، ولكنهم كانوا قوما سفهاء ، فاتبعوا سفههم وعنادهم ، والله أعلم . وكذلك قولهم : { إِنْ هَـٰذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ } [ المائدة : 110 ] ، وكيف يكون سحراً ، وقد أتاهم بآيات أعجزتهم وأعجزت السحرة أن يأتوا بمثلها ؟ ! ولكنهم عاندوا ، ولم يجدوا حيلة سوى أن قالوا : { إِنْ هَـٰذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ } [ المائدة : 110 ] . وقوله : { فَكَفَرُواْ وَتَوَلَّواْ وَّٱسْتَغْنَىٰ ٱللَّهُ } . أي : كفروا بالرسل { وَتَوَلَّواْ } : أعرضوا عن طاعته ، وطاعة رسوله . وقوله : { وَّٱسْتَغْنَىٰ ٱللَّهُ } لم يسمع من أحد من المتكلمين يقول : { وَّٱسْتَغْنَىٰ ٱللَّهُ } على الابتداء إلا ما ذكر في ظاهر هذه الآية ، والقول [ في الاستغناء فيما يريد به الإخبار جائز ؛ نحو قولك : الله مستغن ، فأما أن تبتدئ ، فتقول : الله مستغن ، فيما فيه شك وريب ، فإنه لا يجوز البداية به ] . وقد غلط بعض المفسرين حيث قالوا : استغنى الله : بطاعة من أطاعه عن معصية من عصاه ؛ لأن الله تعالى لم يمتحن عباده بالطاعة والمعصية لمنافع يأملها أو مضرة يخشاها ويخافها ، بل هو مستغنٍ بذاته عن ذلك في الأزل ، والله أعلم . ويجوز أن يكون في هذا إضمار ، يعني : واستغنى الرسول عن طاعتهم بالله تعالى ، أو يصرف الاستغناء إلى الإخبار عن ذاته : أنه مستغنٍ بذاته في الأزل ، لا تمسه حاجة ، وأنه لا يضره كفر من كفر ، ولا ينفعه إيمان من آمن ، بل إنما يحصل ذلك كله للممتحن بهما ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَٱللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ } . قد وصفنا معنى الغني ، وأما الحميد يحتمل وجهين : أحدهما : يعني : المحمود ، أي : المستحق للحمد بذاته ؛ إذ يستحق من كل أحد الحمد على ما يحسن إليه ، أو يحمل معنى الحميد على معنى الحامد ، ووجه ذلك أن الله تعالى يحمد محاسن الخلق وآثار أفعالهم ، وأن حقيقة تلك الأفعال من جهة التوفيق والتسديد إنما كانت به ، وذلك غاية الكرم . وقوله - عز وجل - : { زَعَمَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَن لَّن يُبْعَثُواْ قُلْ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ } . قوله : { قُلْ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ } يحتمل وجهين : أحدهما : أنه يجوز أن يكون هذا تعليما [ لرسول الله ] صلى الله عليه وسلم أن يعلمه القسم تأكيدا ؛ لما كان يخبر عن البعث ، وكذلك جميع ما ذكر من القسم في القرآن يجوز أن يكون على هذا المعنى ؛ لأن القسم إنما هو لنفي تهمة تمكنت ، والله تعالى لا يتهم في خبره ، والرسول هو الذي كانوا يتهمونه فيما يخبر ؛ لما لم يثبت عندهم رسالته لعدم تأملهم في دلائله ، فعلمه القسم ؛ تأكيدا لما يخبر ونفيا للتهمة عما يقوله ، والله أعلم . ويجوز أن يكون هذا قسماً مقابلا لما أقسم به الكفرة في أمر البعث ؛ ألا ترى إلى قوله تعالى : { وَأَقْسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ ٱللَّهُ مَن يَمُوتُ بَلَىٰ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً } [ النحل : 38 ] . وقوله - عز وجل - : { وَذَلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٌ } يحتمل وجهين : أحدهما : أن أمر البعث على الله يسير هين لأنهم أنكروا البعث بعدما صاروا ترابا ؛ فأخبر أن بعثهم وإعادتهم [ أهون في عقولهم من إنشائهم ، ولم يكونوا شيئاً ؛ فكيف أنكروا قدرته على إعادتهم ] بعد أن صاروا ترابا ، فأخبر - جل وعلا - أن ذلك على الله يسير . والوجه الثاني من التأويل : أن يذكر ما عملوا من خير أو شر أحصاه عليهم [ كل ] سر وعلانية وكل صغير وكبير ؛ ليعاينوا ذلك في كتبهم ، ويعلموا تحقيقاً : أنها على الله يسير . وقوله - عز وجل - : { فَآمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ } . يجوز أن يكون هذا صلة ما تقدم ، وذلك أن الله تعالى ذكر ما نزل من العقوبة بالأمم الماضية ، وأن ذلك إنما نزل بهم ؛ لكفرهم بالله تعالى ، وتكذيبهم الرسل ، فآمنوا [ أنتم بالله ورسوله ] لئلا ينزل بكم ما نزل بهم من البأس والعقوبة ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَٱلنّورِ ٱلَّذِيۤ أَنزَلْنَا } النور : هو القرآن ، ويجوز أن يكون سماه : نوراً ؛ لأنه يبصر به حقيقة المذاهب في الطاعة والمعصية والإحسان والإساءة والإيمان والكفر كما يبصر بنور النهار حقيقة الأشياء من جيدها ورديئها ، كذلك يبصر بهذا منافع الطاعة ومضار المعصية ، فسمي : نوراً من هذا الوجه ، والله أعلم . وقوله : { وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } . أي : أن الله خبير بما تسرون وما تعلنون ، فراقبوه وحافظوه في الحالين جميعاً ، وفي هذا بيان أن الله تعالى عالم بما يعمله العباد في الأزل ، وبما يكون منهم ، وأنه ليس كما وصفه بعض الجهال ، والله المستعان . وقوله : { يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ ٱلْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ ٱلتَّغَابُنِ } . ذلك اليوم في الحقيقة يوم جمع وتفريق ، وهو أيضاً في الحقيقة يوم تغابن وترابح ، وإن ذكر أحدهما ؛ دليل ذلك ما ذكر في غيرها من الآيات ؛ ألا ترى إلى قوله تعالى : { فَرِيقٌ فِي ٱلْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي ٱلسَّعِيرِ } [ الشورى : 7 ] ، وإلى ما ذكر في عقيب قوله : { ذَلِكَ يَوْمُ ٱلتَّغَابُنِ } [ من قوله ] : { وَمَن يُؤْمِن بِٱللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ } ، وهذا هو معنى الترابح ، ولكنه - جل ثناؤه - يجوز أن يكون اكتفى بذكر أحدهما عن الآخر . ثم الغبن يذكر في التجارات ، والأصل في ذلك [ عندنا ] أن كل سليم طبعه لا يخلو من عمل ، وعمله لا يخلو من إحدى ثلاثة أوجه : إما أن يكون في مباح أو أمر أو نهي ، ومعلوم أن من استعمل المباح فهو يستعين به في إقامة الأمر ، إذ لا بد من البقاء لإقامة الأمر ؛ وذلك باستعمال المباح والاشتغال بأسبابه ، فكأنه في إقامة ذلك الأمر ؛ فحقيقته ترجع إلى أن الأعمال في الحقيقة تنصرف إلى نوعين : إلى أمر ونهي ، ومعلوم أن من كان في أمر ، فهو تارك لما نُهِي عنه ، ومن كان في نهي فهو تارك لما أمر به ، والتجارة في الحقيقة هو أن يأخذ شيئاً [ و ] يترك شيئاً آخر ، وإذا تحقق معنى التجارة في أعمال بني آدم ، أطلق لها لفظ : التجارة . قال : والدنيا لها ثلاثة أسماء : المتجر ، والمزرع ، والمسلك ، وقد وصفنا معنى التجارة ، وأما معنى المزرع ؛ فلأجل أن كل من يعمل في الدنيا فإنما يعمل لعاقبة ، ولا بد أن تكون عاقبته خيرا أو شرّاً ، فكل من كانت عاقبته الخير فهو زارع للخير ، ومن كانت عاقبته الشر ، فهو زارع للشر ، والله أعلم . وأما معنى المسلك [ والطريق ، فلأجل أن الخلق لم يخلقوا في هذه الدنيا ليقروا فيها ، وإنما خلقوا ] لأحد أمرين : [ إما للثواب أو العقاب ] فكل من عمل عملا يفضي به إلى الثواب والجنة فكأنه يسلك طريق الجنة ، وكل من عمل عملا يفضي به إلى النار ؛ فكأنه يسلك طريق النار ؛ فلذلك سمي : مسلكا وطريقا ، والله أعلم . ثم التغابن عندنا يجوز أن يكون معناه : أن أهل الكفر يغبنون في أهلهم وأموالهم في [ الدار ] الآخرة ؛ لأنهم كانوا يتعاونون بهم في الدنيا ، فحسبوا أنهم يكونون كذلك في الآخرة ، فإذا لم يجدوا وصاروا يلعن بعضهم بعضا ، غبنوا ما كانوا يأملونه منهم . وقال بعضهم : إن لكل كافر في الجنة قصرا وبيتا وأهلا ، فإذا صاروا إلى النار ، ورث المؤمن أهله وقصره الذي كان له في الجنة ؛ [ فهذا هو التغابن ، ولكن هذا ] غير صحيح عندنا ؛ لأنه لا يحتمل أن يبني الله تعالى للكافر في الجنة بيتا مع علمه أن لا يأتيه ؛ لأن هذا فعل من لا يعلم العواقب ومن هو عابث في فعله ، جل الله تعالى عن مثل هذا الوصف ، إلا أن يحمل على الوعد إن ثبت الخبر ، أي : إن أسلم الكافر كان له ذلك المنزل في الجنة ، وإن ارتد المسلم عن الإسلام ، كان له ذلك المنزل في النار ، وهو عالم أن عاقبة أمره ماذا : الكفر أو الإسلام ؟ وأن مأواه النار أو الجنة وحكمه على ما علم وأراد ، ولكن الله تعالى عالم بما كان وما يكون وبما لا يكون أن لو كان كيف يكون ، فأخبر على ذلك ، وإلا لم يصح ، لما ذكرنا من المعنى ، والله الموفق . ويحتمل : أنه إنما سماه : يوم التغابن ؛ لأن الدنيا جعلت أسواقا ، والأحوال التي تكون لهم رءوس الأموال ، والأعمال التي يعملون فيها ويكتسبون تجارة ؛ قال الله تعالى : { هَلْ أَدُلُّكمْ عَلَىٰ تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } [ الصف : 10 ] ، ثم قال : { تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ … } الآية [ الصف : 11 ] ، وقال في آية أخرى : { إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ … } الآية [ التوبة : 111 ] وقال { ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلَـٰلَةَ بِٱلْهُدَىٰ } [ البقرة : 16 ] ، وقال : { أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا بِٱلآخِرَةِ } [ البقرة : 86 ] ، فإذا كانت الدنيا متجراً فالآخرة هي التي يقسم فيها الأرباح ، وفي ذلك يقع الربح والخسران ، ويظهر الغبن والفضل أو النقصان والزيادة ، والله أعلم . أو سماه : يوم التغابن ؛ لما يظهر لهم في ذلك أنهم خسروا أو ربحوا ، ولا يظهر لهم ذلك في الدنيا ، ثم بين العمل الذي يربح عليه ، والعمل الذي يخسر به ، والتجارة التي يوصل بها إلى الأرباح ، والتي يلحق بها الخسران ، وهو ما قال : { وَمَن يُؤْمِن بِٱللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ … } الآية { وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَٰتِنَآ … } الآية . ثم قوله - عز وجل - : { وَمَن يُؤْمِن بِٱللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحا } . يعني : ومن يؤمن بالله على ما جاءت به الرسل جملة ، وأن له الخلق والأمر ، ويؤمن بالرسل والبعث - فذلك هو الإيمان بالله تعالى . وقوله : { وَيَعْمَلْ صَالِحا } . [ يعني : ومن يؤمن بالله ويعمل ] في إيمانه صالحا إلى أن يموت . وقوله : { وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَٰتِنَآ } . يعني : كفروا بوحدانية الله تعالى وبقدرته ، وكذبوا بآياته ، أي : بحججه ، أو كذبوا بالبعث { أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَٰبُ ٱلنَّارِ خَٰلِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ } .