Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 69, Ayat: 19-24)
Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله - عز وجل - : { فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَـٰبَهُ بِيَمِينِهِ } ظاهر ما جرى به الخطاب في القرآن يوجب أن يُرحم المؤمنون جميعاً فلا يعذبون في الآخرة ، ويعذب الكافرون ولا يرحمون ؛ لأنه قسم الخلق يوم القيامة صنفين : فجعل صنفاً [ منهم أهل ] اليمين ، وصنفاً أهل الشمال ، ثم وصف كل واحد من الصنفين بأعلام ثلاثة : فذكر مرة أنه يخف ميزانهم بقوله : { وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ } [ المؤمنون : 103 ] ، وذكر مرة أن وجوههم تسود ، وذكر مرة أنهم يعطون كتابهم بشمالهم ؛ فهذه الأعلام ذكرها في أحد الصنفين ، وذكر في الصنف الثاني ، ووصفهم بأعلام ثلاثة : ببياض الوجوه ، وبثقل الميزان ، وبإعطاء الكتاب بأيمانهم . ثم فيما فيه سواد الوجوه ذكر فيه : { فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ٱسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ } [ آل عمران : 106 ] ، وكذلك حين ذكر خفة الميزان ذكر في آخره ما يبين أن الذين خفت موازينهم هم الكفرة ؛ لأنه قال : { أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ } [ المؤمنون : 105 ] ، وذكر فيه إعطاء الكتاب بشماله ، وذكر فيه ما يبين أنه من أهل الكفر ؛ لأنه قال : { إِنَّهُ كَانَ لاَ يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ ٱلْعَظِيمِ * وَلاَ يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ ٱلْمِسْكِينِ } [ الحاقة : 33 - 34 ] ؛ فثبت أن الوعيد المطلق ذكر في أهل الكفر ، وكذلك قال : { وَٱتَّقُواْ ٱلنَّارَ ٱلَّتِيۤ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } [ آل عمران : 131 ] ولم يقل : أعدت للخلق ، وقال : { وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ } [ آل عمران : 133 ] ؛ فثبت أن أهل النار هم الكفار ، ثم المؤمنون قد تعرض منهم زلات ومآثم في هذه الدنيا ، والكفار يوجد منهم المحاسن فيها ، ولكن أهل الكفر يجزون جزاء حسناتهم في دنياهم ؛ لأنهم لا يؤمنون بالآخرة ، وإذا لم يؤمنوا بها لم يقع سعيهم لها ، وأمكن أن يكون المؤمن يجعل له العقاب بسيئاته في الدنيا فتخلص له الحسنات في الآخرة فيجزى بها . وجائز أن تكفر سيئاته بالحسنات التي توجد منه ؛ لأن المحاسن جعلت سبباً لتكفير المساوى ؛ قال الله - تعالى - : { إِنَّ ٱلْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ ٱلسَّـيِّئَاتِ } [ هود : 114 ] ، وإذا كفرت سيئاته في الدنيا ، لم يعذب بها في الآخرة . وجائز أن يكون الله - تعالى - يعذبهم بقدر ذنوبهم ، ثم يعفو عنهم [ بحسناتهم التي ] سبقت منهم من الإيمان ، وغير ذلك ، فكل مؤمن - في الحقيقة - [ آخره الجنة ] ، ويثقل ميزانه ، ويبيض وجهه ، ويعطى كتابه بيمينه . ثم يجوز أن يكون الذي يعاقب بذنوبه من أهل الإيمان يعاقب به قبل أن يعطى كتابه بيمينه ، وقبل أن يبيض وجهه ويثقل ميزانه ، وقبل أن يبيض وجهه ، لم يكن مسود الوجه ، ولكن على ما عليه في الدنيا . ثم متى عفي عنه ؟ في الخبر : أن الناس يعرضون يوم القيامة ثلاث عرضات : فأما عرضتان ففيهما خصومات ومعاذير ، وأما العرضة الثالثة فتطاير الصحف في الأيدي ، فيجوز أن يكون تعذيبه قبل العرضة الثالثة ، ثم يعطى كتابه في العرضة الثالثة بيمينه ؛ فتظهر له أعلام السعادة إذ ذاك ، [ فإذا ثبت ] أن الوعيد المطلق إنما جاء في أهل الكفر ، لم يلحق أهل الكبائر من أهل الإيمان بهم في الحكم ؛ بل وجب الوقف في حالهم ؛ كما قال أصحابنا ، والله الموفق . وقوله - عز وجل - : { هَآؤُمُ ٱقْرَءُواْ كِتَـٰبيَهْ } قال بعضهم : { هَآؤُمُ } أي : تعالوا . وقال بعضهم : " ها " بمعنى : هاكم ؛ أي : خذوا ، فأبدلت الهمزة مكان الكاف ، فظاهر الآية أن المعطى له الكتاب ؛ يقول هذا ؛ يدعو الخلق إلى نحوه ، أو يناولهم الكتاب ؛ استبشاراً وحبوراً ، فيبشرهم بعفو الله - تعالى - عنه ورحمته عليه . ولكن أهل التأويل صرفوا التأويل إلى المعطي ، فقالوا بأن المعطي هو الذي يقول هذا ؛ فكأن الذي كتب الكتاب في الدنيا من الملك هو الذي يعطي الكتاب إلى المكتوب عليه ، ويقول : { هَآؤُمُ ٱقْرَءُواْ كِتَـٰبيَهْ } أي : [ خذوا اقرءوا ] ما كتبت لكم وعليكم ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاَقٍ حِسَابِيَهْ } فإن حملته على حقيقة الظن ، فهو يخرج على ثلاثة أوجه . أحدها : أي : إني ظننت في الدنيا أني ألاقي { حِسَابِيَهْ } ، أي : الحساب الشديد فيما سبق من سيئاتي ، وأؤاخذ بها ، وأجازى عليها ، وظننت الساعة ألا أنجو من ذنوبي ؛ لفزع هذا اليوم ، فوجدت سيئاتي قد غفرت ، وخطاياي كفرت عني ؛ فيكون قوله منه هذا شكراً لله - تعالى - وإظهاراً لمنته . والثاني : أي : إني تركت في دار الدنيا إذا عرضت لي الحوادث من الزلات والهفوات ، ظننت أني ألاقي الله - تعالى - بها ، فأمسكت عنها ، وانزجرت عن إتيانها ؛ فيكون إخباراً عن بيان سبب نيل ذلك . والثالث : أني تفكرت في أمري ؛ فظننت أن مثلي لا يترك سدى هملاً ؛ فأدى ظني إلى اليقين ، فآمنت وصدقت الرسل ، فإنما نجوت بأول ظني وفكرتي . ومنهم من صرف الظن إلى اليقين والعلم ، فقال : معنى قوله : { ظَنَنتُ } أي : أيقنت ، وعلمت . والأصل : أن كل يقين حدث في الأمور المستترة والعلوم الخفية فإنما يتولد ذلك على ظن يسبق ، فيحمله ذلك الظن على النظر فيه والبحث عن حاله حتى يفضي به إلى الوقوف على ما استتر منه ، ويصير الخفي له جليّاً ، فيكون سبب بلوغه إلى اليقين والإحاطة الذي سبق منه ؛ فجائز أن يسمّى ذلك يقيناً مرة على الحقيقة وظنّاً ثانياً على المجاز ، على ما ذكرنا في قوله : { وَتَعِيَهَآ أُذُنٌ وَاعِيَةٌ } [ الحاقة : 12 ] أن الأذن لا تعي شيئاً ، بل تسمع ، ولكنه إنما يوصل إلى الوعي بالأذن ، فصارت الأذن سبباً للإيصال إلى الوعي ، فأضاف الوعي إليها ؛ فعلى ذلك ظنونهم في الابتداء إذا بلغتهم إلى اليقين والعلم سمّوا يقينهم وعلمهم ظنّاً مرة ، ويقيناً ثانياً ؛ ألا [ ترى ] أن الله - تعالى - قال : { ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَـٰقُواْ رَبِّهِمْ } [ البقرة : 46 ] ، وقال في موضع آخر : { وَبِٱلآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ } [ البقرة : 4 ] ، فجعلهم مرة ظانين ، ومرة موقنين ، فيما كان [ طريقته البحث ] وإعمال الفكر ؛ ولهذا لا يجوز أن يوصف الله - تعالى - بالإيقان في أمر من الأمور ؛ لأن الأشياء له بارزة ظاهرة ؛ إذ هو منشئها وخالقها ؛ فلا يخفى عليه شيء منها فيحتاج إلى البحث عنها والنظر فيها ، والله الموفق . أو نقول بأن الأمور التي سبيل دركها الاجتهاد ، لا يخلو شيء منها من اعتراض وساوس وخواطر فيها ، فتلك الوساوس والخواطر تفضي بصاحبها إلى الظنون فاستجازوا إطلاق الظن فيها ؛ لما لا تخلو عنه ، واستجازوا إطلاق اليقين لما غلب عليها دلالات اليقين والإحاطة ؛ ألا ترى أن من تهدد بالوعيد الشديد ، أو بالقتل على أن يكفر بالله - تعالى - أبيح له أن يجري كلمة الكفر على لسانه ، وجعل كالموقن بإحلال العذاب من المكره ، لو امتنع عن الإجابة إلى ما دعاه و [ إن ] لم يتيقن بأنه يفعل به لا محالة ما أوعد به ؛ لأنه يجوز ألا يمكن من ذلك ، ويجوز ألا يبقى إلى ذلك الوقت ، ثم وسع له فعل ذلك بأكبر الرأي وغلبة الظن ، وحل ذلك محل الإحاطة واليقين ؛ فعلى ذلك هاهنا لما غلب دلالات اليقين والصدق ، جاز إطلاق لفظة اليقين عليه ، فأما الأشياء التي تدرك بالحواس والمشاهدات ، فلا سبيل إلى تسمية مثله ظنّاً ؛ لما لا يحتمل اعتراض الشبه فيها ، والله الموفق . وقوله - عز وجل - : { فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ } أي : في حياة راضية ، [ يقال : عاش وحيا بمعنى واحد . وقوله - عز وجل - : { رَّاضِيَةٍ } بمعنى : مرضية معناه ، أن نفسه في حياة ترضى بها ؛ كقوله : { مِن مَّآءٍ دَافِقٍ } [ الطارق : 6 ] أي : مدفوق ، ومثله في الكلام كثير . ويجوز أن يكون المراد : نفس الجنة قد رضيت بأهلها ، وأظهرت رضاها بهم ، كما وصفت الجحيم بالسخط والتغيظ على أهلها ، فجائز مثله في الجنة رضاء واستبشاراً ، أي : على معنى أن الجنة تظهر لهم من أنواع الكرامات والخيرات ما لو كان ذلك من ذي العقل يكون ذلك دليل الرضاء ، كما يضاف الغرور إلى الدنيا ، وهي أنها تظهر من نفسها ما لو كان ذلك ممن يملك التغرير ، يكون ذلك غروراً من نفسها . وقوله - عز وجل - : { فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ } قال بعضهم : مرتفعة ، على ما يستحب في الدنيا من الجنان في ربوة من الأرض مرتفعة . وقال بعضهم : الجنة : اسم لروضة ذات أشجار ؛ فكأنه يصف أشجارها بالارتفاع والطول والمنظر ، وذلك أشهى إلى أربابها ، وهذا كما قال : { قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ } من غير ذكر الأشجار ؛ لأن ذكر الجنة اقتضى ذكر الأشجار . والثالث : يكون معنى العالية ، أي : عظيمة القدر والخطر مرتفعة ، وقد يوصف الشيء الرفيع بالعلو ، والله أعلم . ثم قوله - تعالى - : { قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ } أي : في القطوف متدانية من أهلها لمن يريد قطفها ، وبعيدة لمن لا يريد قطفها . وقيل : { دَانِيَةٌ } ينالها القاعد كما ينالها القائم . وقيل : ثمارها دانية ، أي : لا يرد أيديهم منها بعد ولا شوك . وقوله - عز وجل - : { كُلُواْ وَٱشْرَبُواْ هَنِيئَاً بِمَآ أَسْلَفْتُمْ فِي ٱلأَيَّامِ ٱلْخَالِيَةِ } تأويله أن يقال لهم : { كُلُواْ وَٱشْرَبُواْ هَنِيئَاً بِمَآ أَسْلَفْتُمْ فِي ٱلأَيَّامِ ٱلْخَالِيَةِ } إنما جعلتم أيامكم الخالية سلفاً في أيام الآخرة ، وسلف الرجل لآخر هو أن يعطيه قرضاً ؛ ليأخذ مثله وقت الحاجة إليه ، أو يسلم الرجل رأس ماله في الأشياء التي يأمل منها الربح ، فكأنه بما يشري نفسه يجعلها سلفاً ورأس مال ، ليأخذ ربح ما باع في الآخرة ، فذلك هو الإسلاف . أو يجعل عمله للآخرة رأس ماله ، وما رزق من الأموال ينفقها في سبيل الله ، ويجعل ذلك رأس ماله . وذكر عن وكيع أنه قال : بلغنا أن [ المراد ] الذين أسلفوا الصوم ؛ أي : أنهم صاموا في الدنيا وتركوا الطعام والشراب ، فأثابهم الله في الآخرة فقال : { كُلُواْ وَٱشْرَبُواْ هَنِيئَاً } .