Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 7, Ayat: 154-157)

Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله - عز وجل - : { وَلَماَّ سَكَتَ عَن مُّوسَى ٱلْغَضَبُ } . الذي غضب لله على قومه بعبادتهم العجل . ولا يحتمل ما قاله أبو بكر الأصم : أن الغضب عقوبة وشتم ؛ لأن الغضب معروف ، لا يجوز أن يتأول ما قال هو . وقوله - عز وجل - : { أَخَذَ ٱلأَلْوَاحَ } . يعني : الألواح التي وضعها على الأرض . وقوله - عز وجل - : { وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ } . قال بعضهم : يعني في نسخة الألواح لما كانت نسخت من اللوح المحفوظ . وقال بعضهم : قوله : { وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى } أي : الكتب التي انتسختها بنو إسرائيل من تلك الألواح . وقوله : { هُدًى وَرَحْمَةٌ } أي : هدى من كل ضلالة ، وبيان من كل غي وشبهة ، ورحمة من كل سخط وغضب . { لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ } . أي : للذين يخشون ربهم فيعملون بها . وقوله - عز وجل - : { وَٱخْتَارَ مُوسَىٰ قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا } . قال بعضهم : قوله : { لِّمِيقَاتِنَا } ، أي : لتمام الموعدة التي وعد ، وهو الأربعون الذي وعد ، ولكن لا ندري ما ذلك الميقات الذي ذكر ؟ وقوله : { وَٱخْتَارَ مُوسَىٰ قَوْمَهُ } قال بعضهم : السبعون الذين اختارهم موسى ليكونوا مع هارون فَعُبِدَ العجل في أفنيتهم ، فلم ينكروا ولم يغيروا عليهم ، فأخذتهم الرجفة . وقال الحسن : إنهم جميعاً قد عبدوا العجل إلا هارون ، فالرجفة التي أخذتهم إنما أخذتهم عقوبة لما عبدوا العجل ، ولسنا ندري من أولئك السبعون الذين اختارهم موسى ؟ وأمكن أن يكون موسى اختار السبعين ليخرجوا معه ؛ فيكونوا شهداء له على إنزال التوراة عليه وكلام ربه . وقيل : هم الذين تركهم في أصل الجبل ، فلما جاءهم موسى بالتوراة ، قالوا : { لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى ٱللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ ٱلصَّٰعِقَةُ } [ البقرة : 55 ] وهلكوا لقولهم ذلك ، وقد ذكرنا أنا لا ندري من كانوا ؟ وقيل : اختارهم موسى ليتوبوا إلى الله مما عمل قومهم . وقوله : { فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ ٱلرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ } . قال بعض أهل التأويل : لو شئت أمتهم وإياي بقتل القبطي . وقال آخرون : لو شئت أهلكتهم على نفس الإهلاك وإياي على القدرة ، أي : تقدر على إهلاكي ، ولكن لا تهلكنا لما لم يكن ما نستحقه ذلك ، ويشبه أن يكون قوله : { لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ } إهلاك فتنة وإياي . وقوله - عز وجل - : { أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ ٱلسُّفَهَآءُ مِنَّآ } . هذا يخرج على وجهين : أحدهما : يقول - والله أعلم - : لك أن تهلكنا ابتداء إهلاك السفهاء بما فعلوا . والثاني : يقول : لو شئت أهلكتهم وإياي من قبل ، ولم تهلكنا يومنا ؛ لأن موسى [ إذا ] أتى قومه وأخبرهم أنهم أهلكوا بسبب كذا لم يصدقه قومه بذلك ، ولكنهم يتهمونه ويقولون : أنت قتلتهم على ما ذكر في بعض القصة أنه خرج بهارون إلى بعض الجبال فمات هارون هناك ، فأخبر قومه بذلك فكذبوه ، وقالوا : أنت قتلته ؛ فعلى ذلك جائز أن يكون هاهنا خاف أن يتهمه قومه في أولئك ولا يصدقوه فيما حل بهم . والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ ٱلسُّفَهَآءُ مِنَّآ } . يحتمل هذا وجوهاً : يحتمل : يراد به التقرير . ويحتمل الإنكار والرد . ويحتمل الإيجاب . أما الإنكار : فيكون معناه : أتهلكنا بما فعل السفهاء [ منا ] ، أي : لا تفعل ولا تهلكنا بما فعل السفهاء منا ، ومثل هذا قد يقال : يقول الرجل لآخر : أتفعل أنت كذا ؟ على الإنكار ، أي : لا تفعل ؛ فعلى ذلك هذا . والله أعلم . ويراد به : الإيجاب ؛ كأنه قال : لك [ أن ] تهلكنا بما فعل السفهاء منا ، وما هي إلا فتنتك أن يكون ذلك امتحاناً وابتلاء ابتداء ، أي : تفعله امتحاناً وابتلاء لا تعذيباً . ويحتمل أن يكون على الاستفهام ، لكن لم يخرج له الجواب ؛ كقوله : { أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَىٰ كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ } [ الرعد : 33 ] ، وقوله : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ } [ الأنعام : 21 ] ونحوه مما لم يخرج له جواب ؛ فعلى ذلك هذا . ويجوز أن يكون إهلاكه إياهم محنة بتفريط كان من بعضهم ، وإن كان بعضهم برآء من ذلك على ما كان من أهل المركز من العصيان ، وكان الفشل والهزيمة عليهم محنة منه إياهم ؛ كقوله : { إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ … } الآية [ آل عمران : 152 ] ؛ فعلى ذلك هذا . وقوله - عز وجل - : { إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَآءُ وَتَهْدِي مَن تَشَآءُ } . قال أبو بكر : تضل بها ، أي : تنهى من تشاء [ نهياً ما لولا ذلك النهي لم يكن الفعل فعل الضلال ، وتهدي من تشاء أي تأمره أمراً ما لولا ذلك الأمر لم يكن الفعل ] فعل الاهتداء ، لكن حرف " من " إنما يعبر به [ عن ] الأشخاص دون الأفعال ، فلو كان على ما ذكر هو ، لقال : تضل به ما تشاء ، فإن لم يقل ذا ، ثبت أنه ليس على ما ذكر . وتأويله عندنا : أنه يخلق فعل الضلال ممن يعلم أنه يختار ذلك ، ويخلق فعل الهدى ممن يعلم أنه يختار ذلك ، وهو خالق كل شيء . وأصل ذلك : أن جميع ما يضاف إلى الله من طريق الأفعال على اختلاف الإضافة باختلاف وجوهها حقيقة ، ذلك من الله خلق ما أضيف إليه من الوجه الذي يحق وصفه بأنه خالقه ؛ فعلى ذلك قوله : { تَهْدِي } و { تُضِلُّ } . ويحتمل : توفق وتخذل . وقوله - عز وجل - : { أَنتَ وَلِيُّنَا } أي : أنت أولى بنا . ويحتمل : أنت ولي هدايتنا . أو : أنت ولي نعمتنا . { فَٱغْفِرْ لَنَا وَٱرْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ ٱلْغَافِرِينَ } . وأنت خير الراحمين ؛ لأن كل أحد دونه إنما يرحم ويغفر برحمته . وقوله - عز وجل - : { وَٱكْتُبْ لَنَا فِي هَـٰذِهِ ٱلدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي ٱلآخِرَةِ } . تحتمل الكتابة الإيجاب ، أي : أوجب لنا في هذه الدنيا حسنة [ وفي الآخرة أو الإثبات ، أي : أثبت لنا وأعطنا في هذه الدنيا حسنة ويكون كقوله : آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة ] . وقال بعضهم : قوله : { وَٱكْتُبْ لَنَا } ، أي : وفق لنا العمل الذي نستوجب به الحسنة في الدنيا والآخرة . ويحتمل : اكتب لنا في الدنيا الحسنات ، ولا تكتب علينا السيئات ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { فِي هَـٰذِهِ ٱلدُّنْيَا حَسَنَةً } تختم بها الدنيا وتنقضي بها ، وإلا ما من مسلم إلا وله في [ هذه ] الدنيا حسنة أتاه إياها ، وعلى ذلك يخرج قوله : { رَبَّنَآ آتِنَا فِي ٱلدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي ٱلآخِرَةِ حَسَنَةً } [ البقرة : 201 ] [ أنهم ] إنما سألوا حسنة لأن يختموا عليها ، ويكون قوله : { مَن جَآءَ بِٱلْحَسَنَةِ فَلَهُ } [ الأنعام : 160 ] كذا ، والله أعلم بذلك . وقوله - عز وجل - : { إِنَّا هُدْنَـآ إِلَيْكَ } . قال بعضهم : قوله : { هُدْنَـآ إِلَيْكَ } ، أي : ملنا إليك . وقال غيرهم : { إِنَّا هُدْنَـآ إِلَيْكَ } ، أي : تبنا إليك . وقيل : لذلك سمت اليهود أنفسهم يهوداً ، أي : تائبين إلى الله ، لكن لو كان كما ذكر ، كان قوله : { مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً } [ آل عمران : 67 ] أي : تائباً ، وذلك بعيد ، ولكن إن كان [ لذلك ] سموا فهو - والله أعلم - { مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً } [ آل عمران : 67 ] أي : لم يكن على المذهب الذي عليه اليهود ، وكذلك لم يكن على المذهب الذي ادعت النصارى أنه كان عليه ، ولكن كان حنيفاً مسلماً . وقوله - عز وجل - : { قَالَ عَذَابِيۤ أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَآءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ } . قال الحسن : يشاء أن يصيب عذابه من كفر بالله وكذب رسله ، وشاء من أطاع الله وصدق رسله أن يصيب رحمته . ودل قوله : { عَذَابِيۤ أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَآءُ } أنه لما شاء أن يصيبهم عذابه شاء العمل والفعل الذي كان به يصيبهم ؛ لأن حرف " من " إنما يعبر به عن بني آدم ، و [ ليس ] جائز أن يشاء لهم الإيمان ثم يشاء لهم [ أن يصيبهم ] عذابه ، ولكن إذا علم منهم أنهم لا يؤمنون ويختارون فعل الضلال على فعل الهداية ، شاء لهم ما اختاروا . وقوله : { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ } . ما من أحد من مسلم وكافر إلا وعليه من آثار رحمته في هذه الدنيا ، بها يتعيشون ويؤاخون ويوادون ، وفيها يتقلبون ، لكنها للمؤمنين خاصّة في الآخرة ، لا حظ للكافر فيها ، وذلك قوله : { فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ } : معصية الله والخلاف له ، { وَيُؤْتُونَ ٱلزَّكَـاةَ } ، و [ هو ] كقوله : { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِيۤ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ ٱلرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ } [ الأعراف : 32 ] جعل طيبات الدنيا نعمها مشتركة بين المسلم والكافر ، خالصة للذين آمنوا يوم القيامة ، لا حظ للكافر فيها ؛ فعلى ذلك رحمته نالت كل أحد في هذه الدنيا ، لكنها للذين آمنوا واتقوا الشرك خاصة في الآخرة . ويحتمل قوله - والله أعلم - : { وَٱكْتُبْ لَنَا فِي هَـٰذِهِ ٱلدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي ٱلآخِرَةِ } أنهم إنما سألوا الرحمة ، فقال : سأكتبها للذين يتقون معاصي الله ومخالفته ، والله أعلم . وقوله : { وَيُؤْتُونَ ٱلزَّكَـاةَ } يحتمل : يؤتون الزكاة المعروفة . ويحتمل : تزكية النفس ؛ كقوله : { قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا } [ الشمس : 9 - 10 ] ومعلوم أنه لم يرد به زكاة المال ، ولكن زكاة النفس بالتوحيد والتقوى ، وكذلك قوله : { وَٱلْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ ٱللَّهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ ٱلْكَاذِبِينَ } [ النور : 7 ] هو تلك الزكاة لا الزكاة المعروفة زكاة المال ؛ فعلى ذلك الأول ، والله أعلم . وإن كان على الزكاة المعروفة فذلك في قوم ثقل عليهم واشتد إخراج الزكاة من أموالهم ؛ كقوله : { ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ ٱلزَّكَاةَ وَهُمْ بِٱلآخِرَةِ … } [ فصلت : 7 ] كذا . وقوله - عز وجل - : { وَٱلَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ } . قد ذكرنا في غير موضع أن من آمن بآيات الله وصدقها فقد آمن بالله وبرسله ، ومن كذب بآياته كذب بالله وخالف رسله ؛ لأن طريق معرفة الله ورسله إنما هو من طريق الآيات والحجج ، ليس من طريق المشاهدات والمحسوسات ؛ لذلك كان الإيمان بالآيات إيماناً بالله وبرسله ، والتكذيب بها كفر بالله ورسله . وقوله - عز وجل - : { ٱلَّذِينَ يَتَّبِعُونَ ٱلرَّسُولَ ٱلنَّبِيَّ } . أي : يقفون أثر الرسول في كل سيرته ، وفي كل أمره ونهيه ، ويطيعونه ؛ سماه رسولا ونبيّاً بقوله : { ٱلرَّسُولَ ٱلنَّبِيَّ } والرسول : المبعوث على تبليغ الرسالة والمأمور بها على كل حال ، والنبي : المنبئ لهم أشياء عند السؤال والاستخبار ، والرسول هو المأمور بالتبليغ سألوه أو لم يسألوا شاءوا أو أبوا ، وكان لمحمد صلى الله عليه وسلم كلاهما : الإنباء والتبليغ ؛ كقوله : { مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ } [ المائدة : 68 ] ، وقوله : { إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ ٱلْبَلاَغُ } [ الشورى : 48 ] . وقوله - عز وجل - : { ٱلأُمِّيَّ ٱلَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً } . الأمي : ما ذكر في آية أخرى ، وهو قوله : { وَمَا كُنتَ تَتْلُواْ مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ … } الآية [ العنكبوت : 48 ] . { ٱلَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي ٱلتَّوْرَاةِ } . أي : يجدونه مكتوباً في التوراة أنه رسول نبي ، وأنه أمي . قوله : { وَمَا كُنتَ تَتْلُواْ مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ } [ العنكبوت : 48 ] . لئلا يقولوا : إنك أخذت هذا من الكتب المتقدمة ومن علومها وحكمتها ، { وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ } [ العنكبوت : 48 ] ؛ لئلا يقولوا : إنه من تأليفك ، ويعلموا أنه من عند الله جاء به ، لا من ذات نفسه . وفي قوله : { يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي ٱلتَّوْرَاةِ وَٱلإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِٱلْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ … } إلى آخر ما ذكر - دلالة إثبات رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ؛ لأن أولئك لم يأتوا بالتوراة ، والإنجيل فيقولون : لا نجد ما تذكر في التوراة والإنجيل ؛ دل ذلك منهم على أنهم وجدوه كذلك ، والله أعلم . وقوله : { يَأْمُرُهُم بِٱلْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ } . أي : يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة أنه يأمر بما أمر الله به ، وينهى عما نهى الله عنه . { وَيُحِلُّ لَهُمُ ٱلطَّيِّبَاتِ } . ما أحل الله لهم . { وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ ٱلْخَبَآئِثَ } ما حرم الله عليهم يجدونه في التوراة أنه لا يأمر بشيء ولا ينهى عن شيء ولا يحل شيئاً ولا يحرم إلا بأمر [ من ] الله له ، لكنهم ينكرونه إنكار عناد ومكابرة ؛ كقوله - تعالى - : { يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ } [ البقرة : 146 ] وغيره . ويحتمل قوله : { يَأْمُرُهُم بِٱلْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ … } الآية ، أي : يأمرهم بما هو معروف في العقل وشهادة الخلقة ، وهو التوحيد ، وكذلك ينهاهم عما هو في العقل وشهادة الخلقة منكر ، وهو الكفر وجميع المعاصي . { وَيُحِلُّ لَهُمُ ٱلطَّيِّبَاتِ } أي : يحل ما هو طيب في العقل والطبع ، ويحرم ما هو خبيث في العقل والطبع جميعاً ؛ لأن من الأشياء ما هو مستخبث في الطبع لم يجعل غذاء البشر فيه ، وإنما جعل غذاءهم فيما هو مستطاب في الطبع بلغ غايته في الطيب ، ولا كذلك جعل غذاء البهائم والأنعام ؛ هذا محتمل ، والله أعلم . ثم المعروف الطيبات لو تركت العقول والطباع على ما هي عليه ، لكانت لا حاجة تقع إلى رسول يخبر أن هذا معروف ، وأن هذا طيب أو خبيث أو منكر ، ولكن تعرف العقول والطباع ذلك كله ، لكن يعترض العقول من الشبه فتمنعها من معرفة ذلك ، فاحتاجت إلى رسول يخبر عن ذلك . وقوله - عز وجل - : { وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ } . قيل : ما غلظوا على أنفسهم من الشدائد . وقيل : إصرهم : شدة من العبادة والعمل . وقيل : إصرهم : عهدهم . وقيل : إصرهم : [ أي ] الثقل الذي كان بنو إسرائيل ألزموه . وقال القتبي : { وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ } أي : ذنبهم الذي كانوا يذنبون ، أي : عقوبة الذنب الذي أذنبوا في الدنيا . وقوله - عز وجل - : { وَٱلأَغْلاَلَ ٱلَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ } . قال الحسن : إن اليهود قالوا : يد الله مغلولة ، أي : محبوسة عن عقوبتنا ، فقال - عز وجل - : { غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ } [ المائدة : 64 ] أي : غلت أيديهم إلى إعناقهم في النار ، فأخبر أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم لما آمنوا به وصدقوه ، رفعت تلك الأغلال التي كانت عليهم عن هذه الأمة بطاعتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقيل : الأغلال التي كانت عليهم : [ الشدائد التي كانت عليهم ] من نحو ما لا يجوز لهم العفو عن الدم العمد ، ولا أخذ الدية ، وما لا يجوز غسل النجاسات إلا العظم ، وغير ذلك من الأشياء التي لم تحل لهم ، فأحلت لهذه الأمة . ويحتمل أن يكون الإصر والأغلال التي كانت عليهم : من نحو ما حرم من أشياء بظلم كان منهم وتحريم ؛ نحو قوله : { فَبِظُلْمٍ مِّنَ ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ } [ النساء : 160 ] وقوله : { وَعَلَى ٱلَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ } [ الأنعام : 146 ] ، إلى قوله : { ذٰلِكَ جَزَيْنَٰهُم بِبَغْيِهِمْ } [ الأنعام : 146 ] حرمت تلك الأشياء عليهم ؛ عقوبة لبغيهم وظلمهم الذي كان منهم ، أخبر أنه وضع عن هؤلاء ذلك ، لم يحرم ذلك عليهم . وفي هذه الآية دلالة إثبات رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه أخبر أنه أمي ، والأمي ما ذكر في قوله : { وَمَا كُنتَ تَتْلُواْ مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ } [ العنكبوت : 48 ] كان لا يتلوه ولا يخطه بيده ، ثم أخبر على ما كان في كتبهم [ من غير أن عرف ما في كتبهم ] أو نظر فيها وعرف لسانهم ؛ دل أنه [ إنما ] عرف ذلك بالله . وقوله : { فَٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ } . أي : صدقوا بمحمد صلى الله عليه وسلم . { وَعَزَّرُوهُ } . قيل : أعانوه بأموالهم . { وَنَصَرُوهُ } . بأيديهم بالسيف . وقال الحسن : قوله : { وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ } إنما هو كلام مثنى ، وهو إعانة . وقيل : { وَعَزَّرُوهُ } [ أطاعوه { وَنَصَرُوهُ } أعانوه ، وقيل : عزروه ] أي : عظموه . وقوله - عز وجل - : { وَٱتَّبَعُواْ ٱلنُّورَ ٱلَّذِيۤ أُنزِلَ مَعَهُ } . يعني : القرآن ؛ سماه نوراً ؛ لما ينير الأشياء عن حقائقها بالعقول ؛ لأن النور في الشاهد هو الذي يكشف عن الأشياء سواترها ؛ فعلى ذلك القرآن هو نور ؛ لما يرفع الشبه عن القلوب ، ويكشف عن سواترها . وقال بعضهم : سمى نوراً ؛ لما ينير الأشياء ويعرف به ما غاب وما شهد ، فيصير الغائب به [ له ] كالشاهد .